الأوبئة أمور بيولوجية، ومع ذلك فإن لها تأثيرات على نفسيتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، فالخوف قادر على تحريك الناس للتفكير بوضوح، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى ردود فعل غير عقلانية.
وقد شهدنا هذا منذ أربعين سنة عندما بدأ وباء الإيدز، في ذلك الوقت كنت محللًا نفسيًا شابًا، أتعلم كيف أن النفس البشرية ضحية للقوى اللاعقلانية، وقدم وباء الإيدز عرضًا واضحًا لهذه القوى، ولقن دروسًا يمكن أن تساعد في أزمة كوفيد-19 (COVID-19) الحالية.
الخوف من المجهول
إنّ رد الفعل الأولي على وباء جديد هو الذعر الذي يتفاقم بسبب نقص المعرفة. ما الذي كان يُسبب انتشار الإيدز؟ ما هو مصدره؟ كيف يمكن معالجته؟ ففي غياب الحقائق الموثوقة اختلق الناس الأمور، ملقون باللوم على الجماعات العرقية، أو المخدرات الترفيهية، أو العقلية السلبية.
وهناك لاعقلانية أخرى تدور حول من هو عرضة للخطر بشكل مثالي، تكون «لست أنا»، فسوف أشعر بأمان أكثر عند اختلاق قصة تلصق الخطر بشخص آخر، وبالإيدز كان هناك حديث عن «الفئات المعرضة للخطر» -مثل المثليين وشعب هايتي (سكان دولة هايتي إحدى بلدان بحر الكاريبي المعروفة بفقرها الشديد)- مما يعني أن المستقيمين من البيض كانوا آمنين، ولم يكونوا كذلك مع كوفيد-19، فبدأنا نسمع أن من هم في الستين من عمرهم والأكبر، أو من يعانون بالفعل من أمراض أخرى هم فقط من عليهم القلق. ومع ذلك كان هناك تقارير عن كون من هم في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر عرضة للخطر والموت.
لن تنقذك أموالك
يبرز الخطر عند دفاع بعض الناس عن سلطتهم المطلقة، فأفكار مثل: أنا غني، وقوي، وذو نفوذ، إذن فلا حاجة لي بالقلق. حيث يحلّق الأثرياء خارج المدينة على متن طائراتهم الخاصة، وينفقون أموالًا طائلة على تخزين الطعام والزاد، فهل ستحمي الأموال والسلطة من فيروس كورونا (COVID-19)؟
تقوم مجموعة مختلفة من الخبراء بدراسة عن الدور الذي يمكن أن يلعبه علم نفس الإنسان في هذه الجائحة المتكشّفة. استخدم روي كوهن (Roy Cohn) -كان مستشارًا لدونالد ترامب في الفترة من 1973 حتى 1985- نفوذه في بداية الوباء للحصول على عقاقير تجريبية ولإخفاء حقيقة إصابته بمرض الإيدز. وعلى أية حال، فقد تُوفي عام 1986 بسبب الإيدز.
وفي إيران وإيطاليا أصيب قادة الحكومة بالفعل، وأُصيب أحد أعضاء مجلس الشيوخ بالفيروس، بينما يقوم أعضاء آخرون من الكونغرس بالعزل الذاتي. لن توفر الشهرة والسلطة وكون الشخص من المشاهير أي حماية.
إنجازات وإخفاقات السلطة الأمريكية
وأثناء الوباء ينبغي أن يكون زعماء الحكومة نموذجًا للعقلانية المتوازنة والعاطفة، مع إبداء اهتمام وثيق دون ذُعر، فالاطمئنان الزائف أو نبذ حجم الخطر سيجعل الأمور تزداد سوءًا.
ولم يأت الرئيس ريجان (Reagan) على ذكر الإيدز إلا بعد أن حصد روح 10,000 أمريكي. والإنكار الأولي للرئيس ترامب معقوبًا بتفاؤله المفرط سيرتد باستمرار تفاقم الوضع، وعلى النقيض من ذلك، تبعث التحذيرات الصريحة والصادقة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وحاكم نيويورك أندرو كومو الشجاعة والطمأنينة.
نبوءات كاذبة
وتؤدي المخاطر الكبرى إلى تلبية الرغبات الغير عقلانية، نود جميعًا الاعتقاد بأن العلاج قاب قوسين أو أدنى، لذا فنحن نتمسك بكل ذرة من المعلومات الإيجابية حتى وإن كانت كاذبة. وفي عام 1984 تواجد العقار الأعجوبة الجديد للإيدز HPA-23.
وقد طار روك هادسون (Rock Hudson) إلى باريس من أجل ذلك، ولكن في الواقع لم ينجح الأمر وجعل العديد من المرضى في حالة أسوء، وعندما تسمع اليوم أن الكلوروكين أو غيره من الأدوية سيعالج كوفيد-19، حاول ألّا تتحمس كثيرًا، سيظهر العلاج ولكن ليس قبل أن نشهد العديد من الشائعات الكاذبة.
نتائج إيجابية؟
لا يرغب أحد في وجود الأوبئة، ولكن من الممكن في نهاية المطاف أن تكون لها تأثيرات تكيفية على المجتمعات. فقبل انتشار وباء الإيدز كانت المعاهد الوطنية للصحة تملك طرقًا بطيئة وغير فعالة في اختبار العقاقير الجديدة، وفي عام 1988، نشر لاري كرامر «خطاب مفتوح إلى أنتوني فوسي» (An Open Letter to Anthony Fauci) واصفًا إياه بأنه «غبي غير كُفء»، كان ذلك قاسيًا ولكنه أُتِيَ ثماره.
يُقر الدكتور فوسي، والذي لا يزال في صدارة مواجهة الأوبئة في أمريكا، بأن الناشطين في مجال الإيدز غيروا النظام الأمريكي في اختبار وإطلاق الأدوية، كما استخدم المشاهير العطوفون -من أمثال إليزابيث تايلور- نفوذهم. كما أخرج الإيدز روح الجماعة لدى هؤلاء من المتضررين، وشهدنا أعمالًا رائعة من الرحمة والإحسان غير الأناني.
ولكن هل سيؤدي وباء كورونا -مهما كان مؤلمًا- إلى تحسين عالمنا؟ وقد يوقظنا ذلك على الطريقة المهملة التي تعاملنا بها مع امتيازاتنا الديموقراطية وعدم المساواة في نظام الرعاية الصحية لدينا، قد يدفعنا ذلك إلى حب بعضنا البعض بشكل أفضل على الرغم من اختلافاتنا، ولا تزول ردود الفعل اللاعقلانية، ولكن عندما نعترف بها نكون أكثر قدرة -إذا حاولنا- على استخدام ذكائنا ونوايانا الحسنة لمساعدة بعضنا البعض. [1]
وليست هذه اللاعقلانية في ردود الأفعال حصرًا على أمة بعينها، فنحن نشهد اليوم حالات متفاوتة من اللاعقلانية في مختلف بقاع العالم، هناك من يدركون حقيقة هذه الأزمة التي نمر بها، وهناك من هم غارقون في ضلالهم. من العدل أن نقول أن هنالك عوامل كثيرة تؤثر على ردود أفعال الناس؛ فهناك من هم أجهل من إدراك حقيقة الوضع وخطورة اللامبالاة التي قد يتعامل بها البعض مع هذه الأزمة، وشخصيًا أعتقد أن هذا السلوك معدي، فإذا بقيت محاطًا بالجهل لفترة كبيرة من المؤكد أن مستوى إدراكك سينخفض رغمًا عنك، وربما تصبح شخصًا بعيدًا كل البعد عن ما عهدت نفسك عليه، ويُطبع ذلك السلوك على تصرفاتك وتجد نفسك تفعل ما انتقدته يومًا. هناك أيضًا من هم غير قادرين على التعايش مع هذه الظروف لأنه ربما هذا الوباء هو أقل مشاكله الحالية؛ وقد يكون ذلك بسبب الفقر وضعف مستوى المعيشة، هؤلاء الأشخاص كمن يعيش على حافة الهاوية فأي خيار هو ماضٍ فيه قد يكون فيه هلاكه أو نجاته، قد يقامرون بحياتهم لجلب لقمة العيش ولكن إن لم يفعلوا ذلك سيتمكن منهم الجوع والفقر قبل أي وباء آخر.
إذًا لو أردنا التخلص من هذه اللاعقلانية فعلينا التخلص من العوامل المؤدية إلى هذه الحالة، نستطيع إنجاز ذلك بأن يساعد الأكثر حظًا في هذه الحياة من هم أقل منهم، فرغم إدراكنا لمخاطر هذه الأزمة نغدو نتصرف نحن أيضًا بلا عقلانية إن كان كل ما سنفعله هو انتقاد هذه التصرفات بدون انتقاد أسبابها. تكون صالحًا إذا أدركت الخطر والتزمت الصواب وتكون مصلحًا إذا ساعدت غيرك للذهاب على طريق الصواب. الجميع مسؤول ولا تنتهي هذه المسؤولية بحماية كل فرد نفسه فقط، بل يجب أن نحمي مجتماعاتنا بمن فيها من صغير وكبير، غني وفقير. [1]