لن تستغرق وقتًا طويلًا حتى تقع أسيرًا لكلمات (نيكوس كازانتزاكيس)، ربما من السطور الأولى، وهذا ما حدث أيضًا مع الكثير؛ إذ أنه أشهر أدباء الإغريق في العصر الحديث، بل إنَّ شهرته فاقت أقرانه ممَّن فازوا بجائزة نوبل في الأدب، مثل إليتيس، وسيفيريس.
حياة كازانتزاكيس
ولد كازانتزاكيس في مدينة هيراكليون بجزيرة كريت عام 1883، في ذلك الوقت لم تكن كريت قد انضمت إلى اليونان بعد، وكانت تابعة للدولة العثمانية.
تفجرت موهبته الأدبية في سن مبكرة ولم يكن أحد يرى آن ذاك أنَّ هذا الشاب اليافع الصغير سيصبح يومًا ما ذلك الأديب العالمي الكبير، أو أنَّ أعماله سوف تُترجم إلى معظم لغات العالم، وتتخطفها أيادي القراء في كل مكان.
درس كازانتزاكيس القانون في جامعة أثينا في الفترة من (1902- 1906) ثم ذهب إلى باريس، وهناك درس الفلسفة والتقى بـ (هنري برغسون) الذي تأثر بفلسفته تأثرًا كبيرًا.
وعندما ترى غزارة عطاء كازانتزاكيس، ربما تظنه كان منعزلًا ومنكبًّا على الأوراق قراءةً وكتابة وفقط، إلا أنه كان كثير الترحال حيث سافر إلى إسبانيا، وإنجلترا، وروسيا، ومصر، وفلسطين، واليابان، واستقر قُبَيل الحرب العالمية الثانية في جزيرة أجانطيس (Aegina).
وقد أمضى كازانتزاكيس السنوات العشر الأخيرة من حياته في مدينة (أنتيب) بفرنسا، وفي عام (1945) تم تعيينه كوزير في الحكومة اليونانية، وبعد ذلك بعامين عُيّن رئيسًا للمكتب التنفيذي لمنظمة اليونيسكو في باريس.
وفي عام (1957) أثناء وجوده في مدينة فرايبورج بألمانيا فاضت روحه ونُقل جثمانه إلى مسقط رأسه في مدينة هيراكليون بجزيرة كريت، حيث دُفِنَّ في إحدى ضواحي المدينة.
كيف عاش كازانتزاكيس؟
كان كازانتزاكيس حريصًا على الاختلاط ببني وطنه من البسطاء والاندماج بينهم على اختلاف طبقاتهم، بل كان يندسّ أحيانًا وسط الحشود في المدن الصاخبة المزدحمة ليقف على أحوال الناس عن كثب، وليعرف أفكارهم، وما تجيش به صدورهم، وفي أحيان أخرى كان ينزوي على نفسه في أماكن مقفرة من البشر.
وحيثما كان كازانتزاكيس يستقر في مكان، كان ينطمس لتوّه في القراءة والاطلاع أو التأليف، وكان له طريقة متفردة في الحياة، وأسلوب في التفكير، هو نسيج له وحده، إذ أنه لم يكبّل نفسه أبدًا بقيود المذاهب وأغلالها، ولا بالتزمّت الأخلاقي المصاحب للتديّن؛ لأنه حر وطليق الفكر -كما يعتقد- ولأنه مثل الطائر يعشق الحرية حتى النخاع، وكان يهدف إلى التحرر من كل مظاهر القلق وصنوف الضغوط وما يصاحبها من أسى وشجن، ولهذا فهو بالنسبة إلى الكثير، يمثل علامة استفهام، نظرًا لتعدد مواهبه من ناحية، ولتفرد طرائق حياته ومسار فكره من ناحية أخرى.
وإذا قمت بزيارة قبر كازانتزاكيس، ستجد لوحة رخامية تعلو قبره، دُوّن عليها:
«لا آمل في شيء.. لا أخشى شيئًا.. ولا أتوقّع شيئًا.. فأنا حر.»
وهذه العبارة تكاد تلخص فكره، وأسلوب حياته، الذي اختاره لنفسه.
ولقد ظل نيكوس حتى خاتمة حياته متّسقًا مع أفكاره، وفيًّا لمبادئه بغير تناقد ولا تصادم.
أعمال كازانتزاكيس
أبدع نيكوس كازانتزاكيس في معظم ألوان الأدب، وحالفه التوفيق فيها جميعًا، فلقد أبدع في أدب الرحلات، وفي الشعر، وفي الكتابة للمسرح، وفي الرواية، وفي المقالات الفلسفية، وتميز أيضًا في إتقانه للعديد من اللغات الأجنبية، وهو ما مكّنه من ترجمة أعمال أدبية عالمية، بمهارة واقتدار.
ولنذكر أشهر أعامله على صعيد الرواية:
- الإغواء الأخير للمسيح، ونشرت عام (1955).
- زوربا اليوناني.
- الحديقة الصخرية.
- الأشقّاء.
- نشرت زوجته مذكّراته بعد وفاته تحت اسم (تقرير إلى جريكو).
زوربا اليوناني.. أشهر أعمال كازانتزاكيس
تدفعك رواية زوربا اليوناني للتفكر في الحياة، وسَبر غُور النفس الإنسانية من خلال شخصيّتين متناقضتين أحدهما هو (باسيل) قارئ الكتب الراغب في استثمار أمواله، والآخر (ألكسيس زوربا) العجوز الأُمّي الذي استقى خبرته من معترك الحياة، ومن خوض التجارب، وحينما همّ باسيل بالذهاب إلى جزيرة كريت لإعادة افتتاح منجم كان قد ورثه هناك، وأثناء انتظاره للباخرة التي ستقلّه، التقى بزوربا في أحد المقاهي، ويطلب زوربا منه أن يأخذه للعمل معه، أُعجب باسيل بشخصية زوربا، ووجد فيه الإنسان الذي كان يبحث عنه، فقد أدرك أنه قلب نابض، وحنجرة دافئة، ونفس عظيمة على طبيعتها الفطرية.
زوربا ذلك العجوز المُفعم بالحياة، الذي كان رجل الفعل بحق، فقد كان الفعل عنده أسبق من الفكر؛ لذا فهو يضيق ذرعًا بمن يفكرون أو يتأنّون مليًّا قبل اتخاذ القرار وكان أكثر ما يثير غضبه أرباب القلم الذين ينشغلون بالكتابة عن خوض معترك الحياة، فكان يسخر من باسيل وكتبه:
«كتبك تلك تافهة، فليس كل ما هو موجود، موجود في كتبك.»
وقد أُعجب بطل قصتنا بحكمة زوربا، فكان يتمنى كل يوم أن تغيب الشمس، وأن يُنهي العمال عملهم، كي يستلقي مع هذا الغول المُسمّى زوربا على رمال الساحل الكريتي ليتناولا الطعام الريفي اللذيذ، ويحتسيا النبيذ، ويشرعا في تجاذب أطراف الحديث.
«الإنسان بهيمة.. بهيمة كبيرة، إذا كنت سيّئًا معه احترمَك وخافك، وإذا كنت طيّبًا فقأ عينك.
حافظ على المسافات أيّها الرئيس.. لا تُشجع البشر كثيرًا، ولا تقل لهم إنّنا جميعًا متساوون، وأن لنا جميعًا الحقوق نفسها وإلا فإنهم سيدوسون حقك، ويسرقون خبزك، ويتركونك تموت جوعًا.. حافظ على المسافات أيها الرئيس من أجل الخير الذي أريده لك.»
ترك زوربا في نفس كازانتزاكيس عظيم الأثر حيث قال أنه لو قُدّر له أن يختار مرشدًا روحيًا له في هذه الدنيا لاختار ألكسيس زوربا، بكل تأكيد.
ويرجع تأثير زوربا في نفسه أنَّ لديه نظرة فطرية للحياة، مغايرة لنظرته، فكانت تجعله يتطلع إلى جميع الموجودات بانبهار.
وقد قال كازانتزاكيس أنَّ زوربا شخص حقيقي رآه رأي العين، وسواء كان ذلك أم كان من بنات أفكاره، فإنه قد زوَّد الأديب الذي بداخل كازانتزاكيس بالغذاء الروحي الذي عجزت الكتب عن مدّه به طوال حياته.