يرتبط اللون الأزرق باثنين من أعظم المعالم الطبيعية للأرض وهما: السماء، والمحيط. لكن لم يكن الحال هكذا دوما؛ إذ يعتقد بعض العلماء أن البشر الأوائل في الواقع كانوا مصابين بعمى الألوان ويستطيعون فقط تمييز كل من: الأسود، والأبيض، والأحمر، وفيما بعد الأصفر، والأخضر. ونتيجة لذلك؛ لم يمتلكوا الكلمات التي تصف اللون الأزرق لأنهم بكل بساطة لم يُدركوه. وقد انعكس ذلك على الأدب القديم، مثل الأوديسة لهوميروس(Homer’s Odyssey)؛ حيث وصف المحيط بأنه «بحر النبيذ الأحمر».
أُنتج الأزرق لأول مرة بواسطة المصريين القدماء، الذين اكتشفوا كيفية صناعة صبغة دائمة لاستخدامها في الفنون الزخرفية. واستمر اللون الأزرق في التطور على مدار الـ(6000)عام التالية. حيث استخدمه فنانوا العالم العِظام لإنشاء بعض من أشهر الأعمال الفنية. ولا زال اللون الأزرق اليوم في تطوره باكتشاف أحدث درجاته منذ أقل من عقد من الزمن. ولكي تعلم أكثر عن التاريخ الساحر لهذا اللون؛ فاستمر بالقراءة.
الأزرق المصري
هناك قائمة طويلة من الأشياء التي يمكن أن نشكر المصريين القدماء لاختراعها، وأحدها هو اللون الأزرق؛ فهو يُعتبر أول صبغة صناعية ملونة على الإطلاق، وقد صُنع الأزرق المصري -ويُعرف أيضًا بـ(cuprorivaite)- تقريبًا عام 2200 ق.م. حيث يتكون من الحجر الجيري الأرضي مخلوطًا مع الرمل ومعادن تحتوي على النحاس مثل: الأزوريت(azurite)، والمالاكيت(malachite)؛ ثُم يُسخن هذا الخليط عند درجة حرارة تتراوح بين 1470-1650 فهرنهايت. وبذلك ينتج زجاج أزرق معتم، يتم طحنه وخلطه مع مواد مُثخنة مثل بياض البيض لتكوين طلاء يدوم طويلا أو صقيلا.
وقد حمل المصريون الكثير من التقدير للون الأزرق واستخدموه في طلاء الخزفيات، والتماثيل، وحتى في زخرفة مقابر الفراعنة. وظل اللون شائعًا طوال فترة الإمبراطورية الرومانية واستُخدم حتى نهاية العهد الإغريقي الروماني(332 ق.م-395 م). حينما بدأت وسائل جديدة لإنتاج اللون في الظهور.
حقيقة ممتعة: اكتشف العلماء في 2006 أن الأزرق المصري يتوهج تحت أضواء الفلورسنت(fluorescent lights)، دلالةً على أن الصبغة تُصدر أشعة تحت حمراء. مما سهّل على المؤرخين التعرف على لون القطع الأثرية القديمة حتى ولو لم يُرى بالعين المجردة.
الألترامارين الأزرق (Ultramarine)
بدأ تاريخ الألترامارين منذ حوالي 6000 عام، عندما بدأ المصريون القدماء في استيراد الأحجار الكريمة والشبه كريمة المصنوعة من اللازورد من جبال أفغانستان. ولكن فشل المصريون في تحويلها إلى طلاء، حيث مع كل محاولة كان ينتج اللون الرمادي الباهت. ومع ذلك، استخدموها في صناعة المجوهرات وأغطية الرأس.
يُعرف أيضًا بـ«الأزرق الحقيقي»، حيث ظهر اللازورد كصبغة لأول مرة في القرن السادس واستُخدم في اللوحات البوذية باميان(Bamiyan) وأفغانستان. وأُعيدت تسميته بألترامارين حيث باللاتينية: (ultramarinus) وتعني «ما وراء البحر»، وقد بدأ توريدها إلى أوروبا بواسطة التجار الإيطاليين أثناء القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وأصبح الإقبال علي جودتها الملكية الزرقاء العميقة كبير من قِبل فنانو أوروبا بالعصور الوسطى. ولكن، حتى تتمكن من استخدامها؛ يجب أن تكون ثريًا. فقد كانت قيمتها ثمينة كالذهب تماما.
كان الألترامارين يُحجز عادة للعمولات الأهم فقط، مثل الفستان الأزرق لمريم العذراء في لوحة العذراء والطفل مع القديسات لجيرارد ديفيد(Gérard David). ويُزعم أن المُعلم الباروكي يوهانس فيرمير(Johannes Vermeer) -صاحب لوحة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي– أُغرم باللون كثيرًا لدرجة انه دفع عائلته إلى الديون بسببه. واستمر الارتفاع الشديد لسعر اللون حتى تم اختراع الألترامارين الصناعي عام 1826 بواسطة كيميائي فرنسي؛ وتقديرا لذلك سُميت فيما بعد بـ«الألترامارين الفرنسي».
حقيقة ممتعة: يعتقد المؤرخون أن مايكل أنجلو(Michelangelo) ترك لوحته الدفن(The Entombment) (1500-01) غير مكتملة لأنه لم يتحمل تكلفة شراء المزيد من الألترامارين الأزرق.
أزرق الكوبالت
يرجع تاريخ أزرق الكوبالت إلى القرنين الثامن والتاسع، واستُخدم بعدئذ في تلوين الخزفيات والمجوهرات، وكان هذا هو الحال خاصة في الصين حيث اُستخدم في أطباق البورسلين ذات النقوش الزرقاء والبيضاء المميزة. ولاحقًا، اُكتشفت نسخة من اللون تعتمد على الألومنيا الأكثر نقاءًا بواسطة الكيميائي الفرنسي لوي جاك تينار(Louis Jacques Thénard) عام 1802، وبدأ الإنتاج التجاري له في فرنسا عام 1807. حيث شرع الرسامون مثل: تيرنر(J. M. W. Turner)، وأوجست رينوار(Pierre-Auguste Renoi)، وفينسنت فان كوخ(Vincent Van Gogh) في استخدام تلك الصبغة الجديدة كبديل للألترامارين الباهظ الثمن.
حقيقة ممتعة: يُدعى أزرق الكوبالت أحيانًا بأزرق باريش(Parrish blue)؛ لأن الفنان ماكسفيلد باريش(Maxfield Parrish) استخدمه لعمل اللون الأزرق المميز العميق لمناظره الطبيعية للسماء.
لون Cerulean الأزرق
تتكون هذه الدرجة للون الأزرق من ستانَّات النحاس والماغنسيوم، حيث أتقن أندرياس هوبفنر(Andreas Höpfner) صنع أزرق cerulean السماوي في ألمانيا عام 1805، وذلك بتحميص أكسيدات النحاس والقصدير. ومع ذلك، لم يُتاح هذا اللون كصبغة فنية حتى عام 1860، عندما بيعت من قِبل شركة (Rowney and Company) باسم (coeruleum). وقد استخدمته الفنانة بيرت موريسو(Berthe Morisot) مع كلٍ من الألترامارين والأزرق الكوبالت في طلاء المعطف الأزرق للسيدة في لوحة يومٌ صيفيٌ(A Summer’s Day) عام 1887.
حقيقة ممتعة: أصدرت شركة بانتون(Pantone) عام 1999 بيانًا صحفيًا تُعلن فيه أن الـ(cerulean) هو«لون الألفية» وأنه«لون المستقبل».
الأزرق النيلي(Indigo)
على الرغم من أن الأزرق كان باهظ الثمن للاستخدام في اللوحات الفنية، إلا أن استخدامه في صباغة المنسوجات كان أرخص بكثير. وعلى عكس ندرة اللازورد، جاءت صبغة زرقاء جديدة تُدعى «الأزرق النيلي» من نبات ينمو بكثافة –يُدعى النيلة الزرقاء(Indigofera tinctoria)- والذي تم إنتاجه في جميع أنحاء العالم. حيث بدل إستيراده أوضاع تجارة المنسوجات الأوروبية في القرن السادس عشر، كما حفز حروب التجارة بين كل من أوروبا وأمريكا.
شاع استخدام الأزرق النيلي في صباغة المنسوجات بشكل كبير في إنجلترا، واستُخدم في صباغة ملابس الرجال والنساء بكافة الطبقات الاجتماعية. واُستبدل الأزرق النيلي الطبيعي عام 1880 عندما تطور إنتاجه صناعيًا. ولا تزال تلك الصبغة تُستخدم ليومنا هذا في صباغة الجينز الأزرق(blue jeans). وعلى مدار العقد الماضي، اكتشف العلماء أنه يمكن تعديل بكتيريا الإيشريشيا كولاي(Escherichia coli) وراثيًا لعمل تفاعل كيميائي ينتج عنه الأزرق النيلي في النباتات. وتُدعى هذه الطريقة بـ«النيلي الحيوي- bio-indigo»؛ والذي على الأرجح سيلعب دورًا هامًا في صناعة أقمشة دنيم(denim) صديقة للبيئة بالمستقبل.
حقيقة ممتعة: يعتقد السير إسحاق نيوتن(Isaac Newton) –مخترع طيف الألوان(color spectrum)- أن قوس قزح يتكون من سبعة ألوان مختلفة توافقًا مع أيام الأسبوع السبعة، والكواكب السبعة المشهورة ، والسبع نوتات في السُّلَّم الموسيقي. كما أيّد نيوتن وجود كل من اللونين: النيلي، والبرتقالي ضمن ألوان قوس قزح، على الرغم من اعتقاد الكثير من العلماء المعاصرين له؛ أن قوس قزح يتكون فقط من خمسة ألوان.
الأزرق الكُحلِيّ(Navy blue)
عُرف رسميًا بأزرق البحرية؛ حيث يعتبر أغمق درجات اللون الأزرق –ويدُعى أيضًا الأزرق الكُحلي– وقد اعتمدته البحرية الملكية البريطانية كلون رسمي لأزيائها، وتبعًا لذلك اُرتداه كل من الضباط والبحّارة عام 1748. ولكن قامت البحرية الحديثة بجعل لون أزيائها الرسمية أكثر دُكنة فيما يقرب للون الأسود؛ تجنبًا لبهتان لونها. وكانت تُعد الصبغة النيلية الزرقاء أساس لصناعة تلك الألوان الكُحلية الزرقاء التاريخية منذ القرن الثامن عشر.
حقيقة ممتعة: هناك العديد من التباينات باللون الأزرق الكحلي، ومن ضمنها لون جندي الفضاء(Space cadet)؛ وقد شُكِّل هذا اللون عام 2007. حيث يرتبط بالزي الرسمي لجنود الملاحة الفضائية؛ وهي خدمة عسكرية خيالية مُجهزة بغرض استكشاف الفضاء الخارجي.
الأزرق البروسي(Prussian blue)
يُعرف أيضًا بالأزرق البرليني(Berliner Blau)، حيث اكتشفه مصادفةً صانع الصِباغ الألماني يوهان جاكوب ديسباخ(Johann Jacob Diesbach). وفي واقع الأمر، أن ديسباخ أثناء عمله على صناعة لون أحمر جديد، اتصلت إحدى المواد التي كان يستخدمها –وهي البُوتاس(potash)- مع دماء حيوانية، وبدلًا من تكون صبغة تكون أكثر إحمرارًا كما كان متوقع؛ تكَّون لونٌ أزرق لامع نتيجة لحدوث تفاعل كيميائي مُفاجئ للدماء الحيوانية.
استخدم بابلو بيكاسو(Pablo Picasso) صبغة الأزرق البروسي دون غيرها أثناء الحُقبة الزرقاء في حياته، واستخدمها أيضا فنان الطباعة الخشبية اليابانية كاتسوشيكا هوكوساي(Katsushika Hokusai) في عمل لوحته الشهيرة الموجة الكبيرة في كاناغاوا (The Great Wave off Kanagawa)، كما استخدمها أيضًا في لوحات أخرى في سلسلة مشاهد جبل فوجي الستة والثلاثين(Thirty-six Views of Mount Fuji series). ومع ذلك، لم تُستخدم تلك الصبغة في صناعة تلك القطع الفنية الرائعة فقط، ولكن اكتشف عالم الفلك السير جون هيرشل(John Herschel) عام 1842، أن الأزرق البروسي يمتلك حساسية فريدة للضوء، وتبعًا لذلك اُعتبر لونًا مثاليًا لصناعة نُسخ من الرسومات. أثبت هذا الاكتشاف قيمته التي لاتُقدر بثمن لأمثال المهندسين المعماريين؛ حيث تمكنوا بذلك من صناعة نسخ من مخطوطاتهم وتصميماتهم؛ والتي تُعرف الآن بـ«الطبعة الزرقاء- blueprints».
حقيقة ممتعة: يُستخدم اليوم الأزرق البروسي في شكل حبوب تُستخدم لعلاج التسمم المعدني.
أزرق كلاين الدولي(International Klein Blue)
سعيًا للونٍ يشابه لون السماء، طور الفنان الفرنسي إيف كلاين(Yves Klein) نسخة غير لامعة من الألترامارين واعتبرها أفضل لون أزرق على الإطلاق. وقد تقدم بتسجيل لون أزرق كلاين الدولي (IKB) كعلامة تجارية، وأصبح هذا اللون العميق هو توقيعه المميز بين عامي 1947- 1974. حيث رسم أكثر من مائتي لوحة رسم قماشية، ومنحوتات أحادية اللون، حتى أنه قام بطلاء أجساد عارضات بشرية بلون أزرق كلاين، لكي يقوموا بطباعة أجسادهم على لوحاته .
حقيقة ممتعة: قال كلاين يومًا ما، إيمانًا منه أن اللون الأزرق يستطيع أخذ المُشاهِد لما وراء اللوحة.
«أن الأزرق ليس له أبعاد، فالأزرق يتجاوز كل الأبعاد».
الاكتشاف الأحدث: YInMn
في 2009، اُكتشفت درجة جديدة من درجات اللون الأزرق عن طريق الصدفة بواسطة البروفيسور ماس سوبرامانيان(Mas Subramanian) وتلميذه الخريج أندرو سميث(Andrew E. Smith) بجامعة ولاية أوريجون(Oregon State University)، وذلك أثناء استكشافهم لمواد جديدة لصناعة الإلكترونيات، حيث اكتشف سميث أن إحدى عيناته عندما تم تسخينها؛ تحولت إلى اللون الأزرق الزاهي. وأطلق عليها إسم YInMn blue؛ وذلك لأنها تُحضر كيميائيا من عناصر: الإتريوم(Yttrium)، والإنديوم(Indium)، المنجنيز(Manganese). وقد أُصدرت الصبغة للاستخدام التجاري في يونيو 2016.
حقيقة ممتعة: أُضيف مؤخرًا لون YInMn blue لمجموعة ألوان كرايولا كرايون(Crayola crayon).