تعتبر ألمانيا من أكبر الدّول المُصدِّرة في العالم إلى جانب دول أخرى مثل الصّين واليابان وهولندا وكوريا الجنوبية. وتعتبر من أهم الدول المُصّدِرة للسيارات ووسائل النقل الأخرى بلا منازع. فإن إجمالي الصّادِرات الألمانيّة تُقَدّر بحوالي 50% من النّاتج الاقتصاديّ الألمانيّ، مما يعني أن الاقتصاد الألماني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسواق الخارجيّة ويعتمد في الأساس على عملية التصدير.
لكن في ظل الجائحة والوضع الاقتصاديّ الرّاهن، يشهد الاقتصاد الألمانيّ مُنذُ مارس الماضي حالة من الركود والذي من المتوقع أن يظل على هذه الحالة لما بعد منتصف العام. وفيما يتعلّق بحال الدول في ظل الجائحة، فقد تأثّر اقتصاد العديد من الدول مثل فرنسا والصين وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا بفعل الرّكود الاقتصاديّ الذي أدّت إليه الجائحة، مما دفع هذه الدول إلى تقليص حجم الواردات. ووفقًا لصندوق النقد أنه من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد الألمانيّ، والذي كان يحقق نموًّا ضئيلًا جرّاء الحرب التجاريّة بين الولايات المتحدة والصين، بنسبة 7% بسبب تداعيات الجائحة التي أثّرت سلبًا على الاقتصاد العالميّ وأدخلته في ركود بسبب الإغلاق العام وهذا بدوره سينعكس على الأداء الاقتصاديّ لألمانيا.
لكن كيف ستنجو ألمانيا باقتصادها من هذه الأزمة؟
مع إغلاق الحدود وإبقاء الموظفين في منازلهم وغلق المحلّات التجاريّة والمطاعم للحدّ من انتشار الفيروس التاجيّ. بالإضافة إلى اضطراب حركة التجارة والسفر والتي أدّت بدورها إلى انخفاض مستوى الصادرات الألمانيّة. مما تسبَّب في انزلاق ألمانيا نحو أسوأ ركود في تاريخها بعد الحرب. بالإضافة إلى زيادة في أعداد البطالة، وهذا وفقًا لبعض البيانات التي صدرت مؤخرًا أن معدل البطالة في ألمانيا قد ارتفع إلى 6.3% في مايو، وهو ما يعادل حوالي 2.8 مليون شخص، والذي كان نحو 5.8% في أبريل.
وبالرغم من ذلك تُعتبر ألمانيا أقل دول منطقة اليورو تضررًا من الجائحة والذي تقلص اقتصادها في الربع الأول بنسبة 2,2%. لكن وفقًا لهذه النسبة ليس الأمر سيئًا كما هو الحال عند بعض جيرانها، مثل فرنسا والتي شهدت انخفاضًا بنسبة 5.8 %، وإيطاليا التي سجلت انخفاضًا بنسبة 4.7 %. ويرجع هذا التأثير جزئيًا إلى قرار 16 ولاية ألمانيّة بالسماح للمصانع ومواقع البناء لمواصلة نشاطاتهم. وهذا مما لا شك فيه بسبب أيضًا الاحتياطات الماليّة المتوفِّرة من المعاملات التجاريّة والضرائب العالية. بالإضافة إلى حزمة إنقاذ غير مسبوقة من قبل الحكومة.
بشكل عام كان الانكماش حادًّا، ولكن حتى الآن، لم تكن التداعيات التي لحقت بالاقتصاد الألمانيّ شديدة مثل تلك التي عانت منها الدول الأخرى في المنطقة، مثل تأثّر اقتصاد كلًا من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بشكل أكبر بكثير من الجائحة. ومع انخفاض الإصابات الجديدة، بدأ أكبر اقتصاد في أوروبا في تخفيف القيود الاجتماعيّة في أوائل مايو، مما سمح بإعادة فتح المتاجر، واتخاذ المطاعم والشركات السياحيّة الخطوات الأوّليّة الأولى في إجراءات الفتح، بينما تستأنف المصانع خطوطها الإنتاجيّة.
وبعد هذا الانخفاض الملحوظ في أعداد الإصابات، أقرّت حكومة المستشارة الألمانيّة، أنجيلا ميركل، مساء يوم الأربعاء الثالث من يونيو 2020 خطة تحفيز اقتصادي بقيمة 130 مليار يورو، يتم إنفاقها خلال العامين 2020 و2021 لدعم أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي في محاولةٍ لمواجهة تداعيات الجائحة والإغلاق العام. وقد صرّحت ميركل قائلةً :
«هذه الخطة ستساعد الاقتصاد على الوقوف على قدميه والنمو مرة أُخرى»
بينما صرّح رئيس البنك المركزيّ الألمانيّ، ينس ويدمان، لصحيفة ألمانية:
«أن الاقتصاد الألماني تجاوز أسوأ أزمة سببها تفشي الفيروس التاجيّ، ومن المتوقع أن يبدأ في التعافي تدريجيًّا»
لكن ما الإجراءات التي تضمنتها هذه الخطة؟
في ظل الإجراءات الاحترازيّة؛ بما فيها الحجر الصحّيّ المُتزايد للآلاف، ولجوء العديد من العمال والموظفين للبقاء في المنازل بدافع الحدّ من انتشار المرض، وغلق المطاعم والمحلّات الُتجاريّة، كل هذه الإجراءات دفعت الحكومة الألمانيّة لاتخاذ حزمة إنقاذ لإنعاش أكبر اقتصاد أوروبيّ من الأضرار الناجمة عن الإغلاق وهي:
أولًا: خفض ضريبة القيمة المضافة
تخفيض مؤقّت لضريبة القيمة المضافة من 19% إلى 16% حتى نهاية هذا العام، ومن 7% إلى 5% بالنسبة للضريبة المُخَفّضة التي تُفرض على سلع ضروريّة كالأغذية، وهذا ابتداء من أول يوليو وحتى 31 ديسمبر، وذلك لتشجيع المستهلكين على الإنفاق والقيام بعمليات شراء أكبر لمواجهة هذا الركود في المبيعات. ووفقاً لميركل، فإن هذا الإجراء من المُتَوَقِّع أن يُحفِّز الاستهلاك، ويُعيد تنشيط الاقتصاد ويعزِّز القدرة الشرائيّة مما يعود بالنفع بشكل خاص على أصحاب الدخل المنخفض الذي ينفق معظم دخلهم سريعًا. إلا أنه هناك مخاوف من موجة ثانية من الفيروس التّاجي والتي ستدفع المستهلكين إلى الادِّخار، بالرغم من التّشجيع الحكوميّ على الإنفاق.
ثانيًا: تقديم الإعانات
وأقرَّت الخطة تخصيص 25 مليار إضافية لدعم الشركات المتضرِّرة بفعل الأزمة، ويُعَدّ النصيب الأكبر منها لصالح الشركات الصغيرة والمتوسطة. فضلًا تقديم إعانات بطالة جزئيّة لأكثر من 7.5 مليون عامل منذ مارس الماضي، وذلك لتجنُّب تسريح الشركات موظفيها بسبب الإغلاق في الأسابيع الماضية. فحسبما وصفت ميركل تقليص ساعات العمل، أنه «نظام هش، ولهذا يجب أن ننجح في دفع الاقتصاد حتى تؤمّن هذه الوظائف».
بالإضافة إلى تقديم دعم بقيمة 8 مليار يورو للمدن والبلدات والقرى التي تعاني موازناتها من العجز. وسيُركِّز هذا الدعم على الضمانات الاجتماعيّة والاستثمار في المشاريع المحلّيِّة. فضلًا عن تقديم دعم للأسر بقيمة 300 يورو عن كل طفل. وفي حالة الأسر ذات الدخل المرتفع ستُعوّض المكافأة مقابل إعفاء ضريبي للأطفال. فضلًا عن رفع بدل ضريبة الدخل للأسر ذات العائل الواحد إلى 4000 يورو سنويًّا في عامي 2020 و 2021، أيّ أكثر من ضعف المبلغ المُعتاد. وبرنامج لدعم القروض بقيمة 25 مليار يورو للشركات الصغيرة التي شهدت انخفاض مبيعاتها بأكثر من 60% في الفترة من يونيو إلى أغسطس. وستُقَدِّم الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات أيضًا الدعم الماليّ لوسائل النقل العام المحلّيِّة.
على الجانب الآخر، لم تُقَدِّم الحكومة أيّ إعانات لقطاع السيارات التي تعمل بالوقود الحفريّ والذي تأثَّر مؤخرًا من الجائحة. فامتنعت الحكومة عن تقديم إعانات على شراء السيارات التي تعمل بالبنزين أو لا تحرص على حماية البيئة. وبالرغم من أنه تم تقديم إعانات من قبل لمثل هذا القطاع، والذي يوظف حوالي أكثر من 800 ألف عامل، في الأزمة المالية عام 2008. لكن الوضع مختلف في ظل هذه الأزمة، فإنه تم حصر تقديم الإعانات على شراء السيارات الكهربائيّة فقط، لكن المشكلة تكمُن في ارتفاع سعر هذا النوع من السيارات بل إنه يفوق قدرة المستهلكين على الشراء.
ثالثًا: الاستثمار في حماية البيئة والتقنيات المتطوّرة
عزمت الحكومة الألمانيّة على دعم برامج حماية البيئة والتطوير التقنيّ بقيمة 50 مليار يورو، والتي تُشَكِّل العنصر الأهم في حزمة الإنعاش. ومن بين هذه البرامج تحديث قطاعات الابتكار والاتصال والتكنولوجيا الرقميّة والإنترنت على مستوى ألمانيا. والتشجيع على استخدام الطاقة الهيدروجينيّة والطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة الصديقة للبيئة. وذلك عن طريق خفض الرسوم الإضافيّة المفروضة على مستهلكيّ الكهرباء إلى 6.5 سنت/كيلوواط ساعة وإلى 6.0 سنت/كيلوواط ساعة إلى عام 2022. ومضاعفة الحكومة الفيدراليّة لمساهمتها – من 3000 يورو إلى 6000 يورو – في «المكافأة البيئيّة» التي يتلقاها المستهلكون عند شراء سيارة كهربائيّة. وستستثمر أيضًا في برنامج لتحديث الحافلات ومركبات البضائع الثقيلة. وذلك لتشجيع استخدام المركبات التي تعمل بالطاقة بخلاف الوقود الأحفوري.
وعزمت الحكومة أيضًا على زيادة الاستثمارات المُخطَّط لها في مجال الذكاء الاصطناعي (بالإنجليزيَّة: Artificial intelligence) للفترة حتى عام 2025 من 3 مليارات يورو إلى 5 مليارات يورو. مما سيدعم تطوير شبكة ذكاء اصطناعيّ أوروبيّة تنافسيّة. وستوفِّر الحكومة الفيدرالية التمويل لبناء ما لا يقلّ عن جهازيّ كمبيوتر كمومي. بالإضافة إلى تطوير البنية التحتيّة عن طريق تخصيص 5 مليار يورو لشركة البنية التحتيّة المُتَنَقّلة الجديدة المملوكة للدولة في ألمانيا لغرض بناء شبكة 5G على الصعيد الوطنيّ بحلول عام 2025. والتّشجيع على الاستثمار في المجالِ التّعليميّ وذلك بتوسيع المدارس وزيادة قدرة رياض الأطفال ومراكز رعاية الأطفال ودور الحضانة وتجديد المرافق القائمة وبناء مرافق جديدة. ومن المتوقع أن تنعش هذه البرامج آلاف الشركات وتوفِّر فرص عمل جديدة لعشرات الآلاف.
وأخيرًا تساهِم الحكومة الألمانيّة في تمويل تحالف CEPI (التحالف لابتكارات التأهُّب الوبائيّ) كما تقدم التمويل للجهود الألمانيّة لتطوير لقاح كوفيد-19، وذلك لضمان توفير لقاح فعال وآمن في أسرع وقت ممكن.
في النهاية، لاقت حُزمة الدّعم الاقتصاديّ ترحيب وتأييد غير مسبوق من الأوساط الاقتصاديّة والأحزاب السياسيّة حيث وصفت بأنها تاريخية كونها تشمل مختلف القطاعات، إضافةً إلى أنها أظهرت قدرة الائتلاف الحاكم إلى التوافق والتعاون في ظل التعرض لأزماتٍ تهدد ازدهار ألمانيا.