انكشفت أمثلة عديدة على إساءة السلوك والاغتصاب والعنف الجنسيّ ضدّ المرأة في السنوات الأخيرة، العديد منها بفضل حركة مي تو (Me too) التي كشفت عن انتهاكات هارفي وينشتاين (Harvey Weinstein)، ومات لوير (Matt Lauer) وغيرهم من الرجال الأقوياء. لقد أدّت الحركة دون شكّ إلى وعيٍ أكبر بانتشار العنف الجنسيّ في المجتمع الغربي.
ولكن ليس من الواضح إذا ما كانت الإدانة الواسعة لهذه السلوكيّات أدّت بالفعل إلى تغييرات حقيقيّة، هل هناك الآن شعور أكبر بضرورة منع هذا العنف أو معاقبة الجناة؟ مازال لوم الضحية يعيش بيننا. خذ أمثلةً حديثةً من نظام العدالة الجنائيّة، أخبر قاضي نيو جيرسي جون روسو (John Russo) ضحيّة اغتصاب أنه كان يجب عليها إغلاق ساقيها وقال قاضي آخر في ولاية نيو جيرسي جيمس تورينو (James Troiano) إن مراهقًا متهمًا بتصوير نفسه يعتدي جنسيًّا على فتاةٍ تبلغ من العمر ١٦ عامًا وإرسالِ الفيديو إلى أصدقاه تحت عنوان «عندما تغتصب لأوّل مرة» يستحقّ التساهل معه؛ لأنه من عائلة جيّدة أدخلته إلى مدرسة ممتازة وكان يؤدّي فيها بصورة جيّدة للغاية.
لم يشارك القضاة فقط في سلوك إلقاء اللوم على الضحية، تشمل بعض الأمثلة الشائعة عن إلقاء اللوم على الضحيّة التقليل من ضراوة الاعتداء أو تبريره؛ لأن ملابس المرأة كانت غير محتشمة أو لأنها ذهبت طوعًا إلى المنزل مع رجل، أحيانًا يُشكّ في الاعتداء إذا لم تقاوِم المرأة أو تبلّغ عن الجريمة لتطبيق القانون على الفور.
في أحيان أخرى، يقول الناس إنه تمّ تَذكُّر حادث الاغتصاب بصورة خاطئة أو أنه مجرّد سوء فهم، ونتيجةً لذلك، تشير التقديرات إلى أنه يُبلّغ عن ٢٣٠ امرأة فقط من كل ألفٍ تعرّضوا لاعتداء جنسيّ، وهذا يعني أن حوالي ثلاثة أرباع الاعتداءات الجنسيّة لم يُبلّغ عنها.
عندما تقدّمت كريستين بلايزي فورد (Christine Blasey Ford) بادّعاءات عن إساءة جنسيّة ضدّ بريت كافانو (Brett Kavanaugh) أثناء جلساتِ إقرار المحكمة العليا واجهت ردّةَ فعل عنيفةً للغاية وحتى تهديدات بالقتل، لم يكن عليها فقط الدفاع عن نفسها ضدّ الادّعاءات بشأن كذبها، ولكن كان عليها في واقع الأمر أن توظّف حرّاس أمن لحماية نفسها وأسرتها.
في شهادتها، وصفت كريستين العمليات العصبيّة الحيويّة المساهمة في تشفير الأحداث المرتبطة بالصدمة النفسيّة، التي تساعد في تفسير لماذا قد يخطيء الناجون في تسلسل الأحداث عند الإبلاغ، أو يستغرقون سنواتٍ في تذكّر ما حدث، أو يفشلون في تذكّر بعض التفاصيل المحدّدة عن الحدث بشكل كامل، بعض الناجين قادرون على تذكّر أجزاءٍ من الحدث فقط. فالجزء المسؤول في الدماغ عن الذاكرةِ قصيرة المدى (الذي يفيد في تذكّر الأحداث الأخيرة واستدعاء المعلومات من الذاكرة طويلة المدى) بالإضافة إلى آلية الانتباه الانتقائي يمثّلان أبرز ما يتعرّض –من الدماغ– إلى التأثيرات الضارّة الناجمة عن الإجهاد.
من الشائع أن ينسى الناجون التفاصيل أو الحدود الزمنيّة؛ لأن مستويات التوتّر العالية حين وقوع الصدمات النفسيّة يمكن أن تفسد العمل الطبيعيّ للدماغ، وبدلًا من ذلك تتولّى الدوائر العصبيّة للخوف زمام الأمور. عندما تسيطر الدوائر العصبيّة للخوف يتوجّه الانتباه إلى المعلومات الحسيّة، فتضعف القدرة على تخزين تسلسل الأحداث والسياق الزمني.
الفكرة التي تُفضي إلى أن النساء اللواتي لا يستطعن تذكّر تفاصيلِ الاعتداء الجنسيّ كاذبات هي خرافة شائعة عن الاغتصاب، خرافات الاغتصاب هى عبارة صاغتها مارثا بيرت (Martha Burt) في عام ١٩٨٠، وهي معتقدات خاطئة تنكر أو تبرر الاعتداء الجنسي. وتستند هذه الخرافات إلى معتقدات نمطيّة يمكن أن تتعلّق بالضحية أو الجاني أو الفعل. هذه الخرافات تديم ثقافة الاغتصاب؛ لأن الجُناة لا يتحمّلون مسؤوليّة أفعالهم ويشعر الناجون بالخزي.
إلقاء اللوم على الضحيّة هو عنصر قويّ في خرافات الاغتصاب، تتضمن بعض التبريرات المستخدمة في إلقاء اللوم على الضحيّة عبارات مثل: «لقد أرادت ذلك»، وفيما يخصّ ملابس الضحيّة أو شرب الكحول: «لقد طلبته لأنها كانت مخمورة»، أو «الاغتصاب يحدث فقط لفئة معيّنة من النساء» أو «إنه لم يكن اغتصابًا في حقيقة الأمر» إذا لم تقاوم المرأة.
هذا يعطي موافقةً خفيّةً للجناة الذين لا يفهمون تمامًا مقدار الأذى الذي تسببوا فيه.
لأن هذه الخرافات تنكر حجم الاعتداء الجنسيّ، فإنها تِباعًا تضع عبئًا ثقيلًا على الضحايا و تساهم في تطوّر صدمة ما بعد الاغتصاب، ثمّ إنها تعيق قدرة الناجين على الاعتراف بهذه الأحداث المؤلمة والتعافي منها، مما يشكّل تهديدًا على صحة المرأة.
في حين وجدت الدراسات أن الرجال أكثر عرضة من النساء إلى تصديق أو قبول خرافات الاغتصاب، فإن العديد من النساء أيضًا يقبلن هذه المعتقدات. في الواقع، وجد ويلسون وميلر (Wilson and Miller) أن ٦٠٪ من الناجين من الاغتصاب فشلوا في الاعتراف بأن الاعتداءات التي تعرضوا لها هي اغتصاب، هذا له آثار خطيرة؛ لأنه يعني أن الناجين أقلُّ ميلًا لطلب التدخّل الطبيّ وتدخّل الشرطة بعد الاغتصاب، بالإضافة إلى ذلك، قد تثبّط هذه الخرافات أحد الناجين عن طلب الرعاية الصحيّة النفسيّة وبدء طريق التعافي.
بالنظر إلى العواقب السلبيّة الهائلة التي قد تترتّب على قبول خرافات الاغتصاب ليس فقط على الضحية ولكن أيضًا على المجتمع، فمن المهم والضروريّ أن نعترف بانتشار هذه المعتقدات الكاذبة ونعمل على تبديد هذه المفاهيم الخاطئة.
يمكن أن تساعد الحملات التعليميّة على مستوى المجتمع في إزالة بعض خرافات الاغتصاب، ولكن يجب علينا أن نتعمق أكثر لخلق تغيير دائم، نحن نحتاج إلى فحص الأسباب التي تجعلنا نلقي اللوم على الضحيّة بدلًا من الجاني. لماذا يظنّ العديد من المُسيئين أن أفعالهم لها ما يبرّرها؟ ماذا عن ثقافتنا التي تعزّز الاعتقاد بأن الرجال لهم الحقّ في الاعتداء على النساء؟ ما هي الرسائل التي نرسلها لأولادنا الصغار عن معنى أن يكونوا رجالًا؟
نحن بحاجة إلى العمل معًا لإعادة تعريف الرجولة، تساعد المعايير الجنسانيّة والأدوار التقليديّة للجنسين على تغذية خرافات الاغتصاب. التغاضي عن إنكار الإهانات البسيطة مثل النكات البذيئة أو التعليقات الجنسيّة يعمل على تطبيع العنف الجنسيّ.
هناك العديد من الطرق لمعالجة هذه المشكلة، يجب علينا أن نفحص بعنايةٍ الطرقَ التي غالبًا ما تُمثَّل النساء بها على أنها أشياء جنسيّة. ينبغي وضع برامج لمنع الاغتصاب في كل المدارس والجامعات من أجل علاج هذه القوالب النمطيّة، وأن تحدِّد هذه البرامج شكل الموافقة الحقيقيّة –الموافقة يجب أن تعني «نعم» فعليّة– لكيلا تُفسّر السلبية بالقبول.
يجب أن تكون تدريبات التحرش الجنسيّ السنويّةُ إلزاميّةً في كل مكانِ عمل، ويلزم تطبيق عقوبات قاسية من قبَل أصحاب العمل على أولئك الذين لا يمتثلون للقواعد. تطبيق عقوبات صارمة على مرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي والجرائم ذات الصلة بها ضرورة. وكذلك توفير المزيد من خدمات الدعم للناجين الذين لديهم الشجاعة الكافية للمضيّ قُدمًا، حان الوقت لبدء دعم الضحيّة والتوقّف عن إلقاء اللوم عليها.