هل يمكننا التحكم في أدمغة البشر؟ هل يمكنك أن تستيقظ يومًا ما لتجد شخصًا يضيء العديد من الأنوار بترتيب وتتابع محدد وسرعة محددة موجهًا إياها إلى مُخك، ويجعلك تقوم بأشياء غامضة لا تعلم كيف جعلك تفعلها؟ هل التحكم في العقل مجرد أسطورة تمثلت في ادعاءات الناس بمقدرة غاز الكيمترل أو الأساليب الإعلانية الرخيصة المعتمدة على الألوان التي تجعلك تستميت في طريقة الحصول على الوجبات السريعة؟ أم أن العلم الحقيقي له رأيٌ آخر؟
الضوء.
لا تقلق، هذا النور الذي يُضاء على رأسك ليس له علاقة بأي شيء…إلا التحكم في عقلك!
تقوم طريقة من طرق التحكم في الدماغ على الضوء فقط، حيث تستجيب له خلايا حساسة للضوء ويزيد نشاطها الكهربائي ونتحكم في أفعال الإنسان بنجاح، ولكن، نحن نعلم أن الخلايا الوحيدة الحساسة للضوء في الدماغ موجودة في (شبكية العين-retina) ولهذا سنقوم بالتلاعب بالخلايا لتكون حساسة للضوء بطريقة معينة وهذا يحدث عن طريق )علم البصريات الوراثي-optogenetics) وهو علم يتم فيه التلاعب بالخلايا والتحكم في نشاطها الكهربائي بالضوء. يتم تفعيل ذلك عن طريق زراعة بروتين يستجيب للضوء في الخلايا الحية. البروتينات الحساسة للضوء هي بروتينات توجد فيها (قناة حساسة للضوء-light sensitive channel )وهي قناة تُفتح لتمر منها أيونات الصوديوم التي تزيل الاستقطاب من الخلايا وتجعلها نشطة كهربيًا، وفي علم البصريات الوراثي لكي نقوم بجعل خلية معينة نشطة كهربيًا بتلك الطريقة نقوم بزراعة بروتين حساس للضوء فيها ليقوم بتنشيط الخلية كهربيًا وإزالة الاستقطاب منها كلما وُجِّهَ إليه الضوء وفُتحت بواباته الحساسة للضوء. وكلمة الضوء هي كلمة عامة جدًا فالحقيقة هي أن البروتينات الحساسة للضوء تستجيب لأضواء مختلفة بطرق مختلفة كالإضاءة الصفراء والزرقاء مثلًا، فكلمة الضوء يندرج تحتها أسماء العديد من تصنيفات الأضواء التي تستجيب لها الخلايا، وهناك أنواع كثيرة من هذه البروتينات الحساسة للضوء، فمثلًا بروتين الرودوبسن أو تحديدًا النوع البكتيري الموجود في الطحالب الخضراء (Channelrhodopsin) وهذا البروتين قنواته التي تدخل منها أيونات الصوديوم حساسة للضوء الأزرق،وليست كل البروتينات حساسة للضوء بشكل إيجابي، يزيل الاستقطاب ويزيد النشاط الكهربي للخلايا المزروعة بها، فهناك الـ(Natronomonaspharaonis)
مثلًاوهي بكتريا تحتوى على بروتين خاصْ به مضخة كلور يتم تحفيزها بالإضاءة الصفراء، ويسمى(الهالورودوبسن-Halorhodopsin) وعندما نقوم بتحفيز ذلك البروتين بالإضاءة الصفراء تقوم هذه المضخة بعملها مُدخلةً أيونات الكلور لداخل الخلايا وتمنعها من حدوث إزالة الاستقطاب وتكون الخلايا أكثر شحنة سالبة، وتقوم زراعة ذلك البروتين والتلاعب بالخلايا على حقن فايروس يحتوي على جين البروتين المطلوب تواجده في الخلية و(مروج-promoter)، وبذلك يتم عملية التلاعب بالخلية بواسطة علميَّ البصريات والوراثة.
والجزء الأمتع في هذا الأمر هي التجارب على الكائنات!
فبدأت هذه التجارب التطبيقية لهذا العلم على أرض الواقع مُتحكمة في الفئران بأشكال مختلفة. ففي مختبر(سوفوبودا-sovoboda) قاموا بالتلاعب بخلايا معينة في دماغ فأر وجعلوها حساسة للضوء الأزرق. ووضعوا إناء مليء بالمياه على جانب الفأر وعلى الجانب الآخر وضعوا إنائاً آخر مثله. وعندما كانوا يضيئون اللون الأزرق تضيء الخلايا الحساسة للضوء التي تم التلاعب بها مسبقًا ويزيد نشاطها الكهربي ويذهب الفأر بدون إرادته إلي الإناء الأيسر ليشرب منه، بعدها يُترك بدون محفز فيذهب ليتجول في كل ناحية وعندما يُضاء النور الأزرق فجأة يتوجه الفأر مرة أخرى بدون إرادته ليشرب من الإناء الذي على جانبه الأيسر مسلوب الإرادة تمامًا.
في تجربة أخرى قام بها علماء من جامعة ستانفورد، قاموا بنفس الفكرة وقاموا بالتلاعب بخلايا معينة في دماغ الفأر ثم بدلًا من وضع أواني للمياه قاموا بجعل الفأر يستجيب للضوء الأزرق بالجري السريع بشكل دائري في حلقة، وكالتجربة السابقة كان الفأر يتجول ويفعل العديد من الأشياء حتى يُنار الضوء الأزرق ويقوم بالجري بجنون بشكل دوراني بغير إرادته.
ولكن بعيدًا عن تلك النظرة الدرامية للأمر، فالحقيقة لها وجهٌ آخر. الحقيقة هي أن تلك التقنية تُستخدم للسيطرة على الخلايا كهربيًا وليس للتحكم في الأدمغة كغرض أساسي. فالأبحاث في علم الأعصاب في هذا المجال لا تتمحور حول كيفية العمل ضمن مخططات شريرة لتعميم نطاق التلاعب بالخلايا على البشر، ولكنها تتمحور حول الاستخدامات السلمية في العلاج من الأمراض المختلفة والمشاكل التي تُصيب الدماغ.
سيشتري أي شيء مهما كانت قيمته.
لطالما حَلُم الناس بإمكانية العبث بعقول الزبائن والمشترين ليشتروا أي شيء ويندفعوا لشرائه، حتي بدء هؤلاء الناس الاقتناع بأن المطاعم الشهيرة تقوم ببث ما أسموه بـ( الرسائل الخفية-Hidden messages)وهذه الرسائل تتمثل في إشارات يقومون بعملها في الإعلانات أو حتى تأثير الألوان على المشاهد لهذا الإعلان أو لافتة المطعم، وهذا ما تم دحضه بالطبع واندرج تحت مسمى الخرافة في كتاب (أشهر 50 خرافة في علم النفس) ولكن، هل للعلم رأي آخر؟
هل يمكن التحكم فعلًا بالزبائن والمشترين تحت قوة علماء الأعصاب؟
( قشرة المخ الحجاجية-orbitofrontal cortex)هي منطقة في المخ توجد في الفص الجَبهي وتقوم بالاشتراك مع منطقة الـ(المخطط البطني-ventral striatum) في مقاومة منطقة (قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية-Dorsolateral prefrontal cortex). حيث تقوم تلك الثلاث مناطق بالتدخل في عملية اتخاذ القرارات التي لها علاقة بـ(المكافأة-reward) في منطقة قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية تقوم بالتفكير العقلاني في شراء المنتج أما القشرة الحجاجية تعمل على توقع مقدار المكافأة نفسه وتتفاعل مع المكافأة بإفراز هرمون الدوبامين حسب التوقع السابق لحدوث المُكفأة الذي يترتب عليه تفاعل هذه المنطقة مع المُكافأةنفسها، وتزيد احتمالية قبول المُشتري بالصفقة كلما زاد نشاط منطقة المخطط البطني مثلًا في مقابل القشرة الوحشية، لأن حينها يكون المُشتري ناظرًا لقيمة الصفقة أكثر بكثير من حسابه لما يترتب عنها فيكون أكثر احتمالية للقبول بها، ويتناسب نشاط منطقة المخطط البطني تناسبًا طرديًا مع نشاط منطقة قشرة المخ الحجاجية وعكسيًا مع منطقة القشرة الوحشية، وهذا هو النظام الذي يسلكه المخ في اتخاذ القرارات التي لها علاقة مع المكافأة بشكل أساسي. بالتالي فيمكننا ببساطة التحكم بالمشتري ليقبل الصفقة عن طريق زيادة تفكيره في مدى المكافأة التي سيحصل عليها والذي سيجعله يفكر أقل بشكل منطقي صحيح في الصفقة وذلك سيتم برفع نشاط الخلايا الموجودة في منطقة المُخطط البطني والذي يُمكننا فعله بطرق عديدة باستخدام علم الأعصاب، وتتم الصفقة بنجاح. فمن الداعي للفخر أن في العلم لدينا طرق لفعل تلك الأشياء الدرامية العظيمة بدون استخدام ألوان أو إشارات خفية في الإعلانات أو أي أشياء أخرى لا يوجد دليل علمي لصحتها.
سحر علم الأعصاب في التحكم بالأدمغة.
هناك تجارب عظيمة حدثت في تاريخ علم الأعصاب، اعتبرها البعض غريبة وغامضة ولكنها دالة على سحر علم الأعصاب بشكل عظيم.
واحدة من هذه التجارب هي تجربة التحكم في الثور، قام بها عالم عظيم له تاريخ طويل في التحكم في العقول بطرق عِدة وهو (جوس ديلجادو-Jose Delgado). قام هذا العالم العظيم بالوقوف في حلبة للثيران مع ثور بعد زرع محفز كهربي في دماغه تجعله يستطيع تحفيز مناطق معينة في المخ بجهاز تحكم عن بعد يستطيع إمساكه في يده، وبالفعل هاجمه الثور وكاد أن يَصِل إليه حتى ضغط ضغطة واحدة على جهاز التحكم وأجبر الثور على التوقف تمامًا في منتصف الهجوم عليه.
رغم أننا ذكرنا في بادئ هذا المقال أن تلك التقنيات تُستخدم في علاج الأمراض وليست بتلك الطريقة الدرامية التي نتخيلها نحن إلا أن هناك تصريح مخيف قاله دكتور (كارل ديزورث-DeisserothKarl) عندما كان يتحدث عن تجربة قام بها ليقوم بجعل الفئران تحب مكانًا معينًا عن طريق إعطائهم المخدر الذي يعطيهم شعورًا إيجابيًا في تلك الغرفة فقط فيقومون بربط المخدر بالغرفة كمثل علاقات الإشراط الكلاسيكي ويقضون معظم أوقاتهم في تلك الغرفة فقط، وقال في هذا التصريح:«إن هذا الأمر ربما يكون مخيفًا قليلًا» وأظن أن ذلك التصريح قيل في إشارة إلى قوة التحكم في المخ، وإلى أي مدى يُمكن أن يصل تطبيقنا لتلك الأفكار والأحلام الشريرة الموجودة في مخيلتنا على الواقع بواسطة العلم، وذلك يجعلنا لا نفترض أن الأمور ستسير على النحو الأفضل.
المصادر:
إعداد : Shehap Aymen
مراجعة :Ahmed M. Gawish
تصميم : Bothaina Mahmoud
