بدأ تطور “الوعي” عند الانسان في نفس وقت خروجه من العصر الحجري السحيق وهو ما يعرف بأسم عصر الأيوليت، وهو العصر الذي كان نقطة تحول بالنسبة للتطورات البيولوجية للانسان مثل كبر الدماغ و انحسار الفك الى الوراء، واستخدامه للأدوات. كل هذة الأمور لعبت دورا فى بداية وعي و إدراك الانسان للعالم كما أيضا لعبت دور في اختلاف هذا الوعي المتشكل حديثا عن الاحاسيس والغرائز عند للحيوان.
يصنف العلماء العصر للاحق لعصر الأيوليت، بأسم عصر الباليوليت الأسفل(فى الفترة بين 500 الف عام ق.م و حتي 12 ألف عام ق.م) وهو ما يعتقد العلماء انه العصر الذي شهد اكتشاف الانسان للنار و استعمالها فى حماية كهوفه من الحيوانات المفترسة ليلا، و بالتأكيد كانت النار هو اول محرك للنوازع الدينية للأنسان، وهي أول مقدس احتك به لأنها شكلت نموذج للخوف و الرهبة و الجمال و المنفعة فى نفس الوقت، وهي لم تكن كالشمس التى يراها من بعيد، بل كانت قريبة منه طوع يديه ليستعملها كما استعمل الادوات العظمية والحصوية فى اولي خطوات الوعي.
لقد جعلت النار الانسان اكثر قوة من ذي قبل ولعبت دورا هاما فى تطوره اللاحق، مما يجعل ظهور النار كان عاملا نوعيا حرك فى الانسان نوازعه الروحية والدينية.
العصر التالي هو عصر الباليوليت الاوسط و يمتد فى الفترة بين 100 الف وحتي 40 الف قبل الميلاد المؤرخ، ولعل اهم ما يميز تلك الفترة هو انحسار سيطرة انسان النياندرتال بصورة ملحوظة، وظهور اول دين بشري قائم على الاساطير وطقوس عبادات معينة، حيث أن الأساطير هي محاولة من الإنسان لتفسير الظواهر الطبيعية التي يعجز عن تفسيرها والتى هي من اهم الدوافع لأنشاء الأديان.
في هذا العصر، بدأ الانسان بعد نمو نوازعه الروحية فى تقديس الحيوان بسبب شراسته وقوته و تنوعه و منافسته له فى الحصول على الغذاء، ثم اقترب منه و اصطاده اما بدافع الغذاء او بدافع الخوف منه و إتقاء شره، و تميز الحيوان عن النار بان الانسان استطاع ترويض الحيوان و تدجينه بل واقترب منه لدرجة مرافقته فى كل تجواله و رحلاته.
تقديس الحيوان عند القدماء حمل رمزا مُهِمًّا، حيث رأى الانسان القديم في الحيوان القوي وفي أكل لحمه أن الحيوان قد أصبح جزءا من جسده، خصوصا بعد اتحاده مع النار.
ويعتقد العلماء ان انسان النياندرتال هو من ابتكر المدافن و القبور كنوع من التقديس او التكريم الديني اكثر من ان يكون وعي اجتماعي، فدفن انسان النياندرتال موتاه بالاضافة للحيوان المقدس جنبا الى جنب، ولعل هذا هو المدخل لإعتقاد الانسان القديم بوجود حياة ما بعد الموت، فدفنه للحيوان المقدس بجانبه انما هو للحماية فى العالم الاخر.
ويتكون اى دين من ثلاثي “العقيدة و الطقس والاسطورة”، مما يجعل طقوس الدفن الجنائزية عند قدماء المصريين اللاحقين – كما سنستعرضهم لاحقا – هي امتداد لطقوس الدفن او حتى الطقوس الدينية عند الانسان القديم فى عصر الباليوليت الاوسط ، هذة الطقوس، كما اشرنا سابقا، هي بذرة لوجود عقائد ما بعد الموت، او بسبب اعتقاد الانسان بوجود حياة البعث والخلود
تَلّى هذا العصر، عصر جديد عُرف باسم عصر الباليوليت الاعلي، وتميز ببداية ظهور ديانات الانسان العاقل، ويختلف هذا العصر عن العصور السابقة بانه شهد تكوين و إنتاج الاشياء المقدسة، فبعد ان كان الانسان يقدس النار، و يهاب الحيوانات، بدأ فى تشكيل الدمي والعرائس، و الرسم على جدران الكهوف، بدأ الانسان فى انتاج مقدسه بنفسه بعد ان كان يعتمد على الطبيعة فى ذلك
تشير النظريات العلمية بان الرسومات والتمائم والدمي التى وضعها الانسان بداخل الكهوف وعلى جدرانه ما هي إلا لتحويل الكهف الى معبد، يتم من خلاله استحضار قوي الحيوان او النار او التميمة السحرية.
وهذا ما ظهر فى مهد الحضارات المصرية القديمة التى سبقت توحيد القطرين وبالخصوص حضارات حلوان و البداري ونقادة ومرمدة بني سلامة، و دير تاسا و المعادي و جرزة.
العصور اللاحقة لعصر الباليوليت الاعلي هي عصور بداية التاريخ، التى شهدت بداية تدجين الحيوان الذي استلزم – عن وعي وقصد – زراعة انواع معينة من النباتات وهو ماعرف لاحقا باكتشاف الزراعة كأعظم الاكتشافات البشرية بعد اكتشاف الكتابة، حيث تعد ايضا الكتابة الهيروغليفية هي تطور لرموز وصور المقدسات القديمة منذ عصر الباليوليت الاعلي وما قبله.
فى بداية عصر جديد يُدعي بالعصر النيوليتي، بدأت مرحلة من الجفاف وتراجعت الاحراش والغابات نحو اماكن المستنقعات المائية بجانب نهر النيل، وبدأ الانسان القديم فى الاستقرار بجانب النهر .. فى بداية هذا العصر كانت الديانة المصرية بدأت بإكتساب ملامحها الاولي والتشكل على الرغم من بقايا عالقة لممارسات روحية منذ عصور ما قبل التاريخ، حيث تواجدت مراحل حضارية دينية مهمة فى مصر، اهمهم دير تاسا و البداري و نقادة في مصر العليا (الجنوب)، و مرمدة بني سلامة و حلوان فى مصر السفلي(الشمال)، نستطيع ان نتعرف على بوادر تطور الديانة فى عصور ما قبل الحضارة المصرية القديمة من المقابر و طرق دفن الجماعات البشرية فى تلك الفترة، وهو دليل دامغ على اعتقادهم بوجود حياة ما بعد الموت.
فى حضارة البداري، كانت اجساد الموتي تلف او توضع بداخل الجلود الحيوانية، وهي ملابس الصيد فى تلك الفترة فكان من الطبيعي ان تكون ايضا ملابس المقبورين.
وفي حضارة مرمدة بني سلامة، كانت اجساد الموتي تدفن داخل نطاق القرية البدائية وأحيانا تحت مساكنهم وبالقرب من اماكن وجود النار لبث الدفء فى اوصال الموتي وحمايتهم فى حياتهم الاخري، بالاضافة لمشاركتهم حياتهم والعبادة باعتبار ان النار هي من مقدسات هذا العصر.
فكر المصري القديم فى بيئته، الشمس التى تشرق وتغيب والقمر يكتمل احيانا وينقص احيانا اخري، ونهرٌ ينبع من الجنوب و يصب فى الشمال حيث البحر الواسع المفتوح، وهكذا تعددت المعبودات و اختلفت فى شكلها ووظائفها، أيضا تأثرت الديانة بطبيعة البلاد، فإتخذت الديانة طابعا خاصا يتفق مع اسلوب الحياة الهادئ و العمل المستمر الذي تعود عليه المصري القديم من زراعة و تربية ماشية، و فيضان النيل السنوي، و بعض العواصف الرعدية التى ظنها المصري ألهة كبري تتعارك فوق السحاب، و تظهر من خلفها الشمس كأنها منتصرة، وكانت الشمس ايضا تعتبر بمثابة صديق لشعب مصر، فهي تمنحه الحرارة فى ايام الشتاء الدافئة.
وهكذا تكونت من كل المظاهر الطبيعية عدة ألهة احاطت بالانسان المصري القديم و لعبت دورا مهما في حياته اليومية، و قسم المصري القديم الألهة إلي الهة كونية كبري تعني بأمور الكون و تسيير حركة الكواكب و النجوم و الحياه ككل، و ألهة محلية صغري يستطيع الانسان ان يلجأ اليها اذا ما مرضت بقرته مثلا او داهمه الخطر.
ولكي نفهم مراحل تطور الديانة، لابد ان نبدأ بشرح طريقة الدفن و ما تمثله من رموز، فوضع الدفن الاعتيادي بداخل المقبرة فى عصور ما قبل التاريخ الفرعوني كان الرقود على الجانب الايسر فى الوضع الجنيني والرأس ناحية الجنوب حيث يواجه الجسد اتجاه الغرب، ويمكننا استخلاص المعني من كتب نصوص الاهرامات الشهيرة، حيث ان المتوفي بهذه الوضعية هو مدعو لأن ينهض و يستدير على جانبه الايمن ليتلقي القرابين، و رأسه ناحية الجنوب منابع النيل، و جسده ناحية الغرب.
والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف طور المصري القديم رموز الاتجاهات هذه لبستخدمها فى الدفن؟
الاجابة ان قوي الطبيعة لطالما كانت تمثل قوي و معبودات و مقدسات لاحظها المصري القديم و بني اساطيره عليها.
والواقع ان عقيدة البعث والخلود هي مركز الثقل وحجر اساس الذي قامت عليه كل الحضارة المصرية العظيمة بكل اثارها و أهرامتها ومعابدها وكنوزها التى تحدت الزمن و مازالت قائمة حتي يومنا هذا
ففي مصر العليا(الوجه القبلي) سادت فكرة ان الغرب هو ارض الموتي، حيث دفن المتوفي فى الغرب او وجهه ناحية الغرب حيث تذهب الشمس لتغيب فى المساء لتواصل رحلتها فى عالم الموتي تحت الارض لتولد صباح اليوم الجديد من ناحية الشرق، مما عزز لديهم فكرة وجود حياة اخري بعد الموت سوف يبعثون ليصبحوا خالدين فى حقول “إيارو” او الجنة بمفهومه.
فبني المصري القديم مدنه و عاش حياته فى البر الشرقي من النيل، بينما دفن موتاه فى البر الغربي، و تمثل الصحراء بالليل او عالم الموتي، فالانسان يحتاج للمؤنة و الاطعمة معاه ان كان على سفر، كذلك يحتاج الميت امدادات طازجة يجلبها له اقاربه الاحياء من حين لأخر.
اما فى مصر السفلي(الوجه البحري)، فأننا نقابل مفهوما مختلفا، فالأفق المفتوح الممتد للدلتا ومن خلفها البحر عزز فكرة وجود عالم الموتي فى السماء، حيث تتحول الأرواح إلي نجوم، كذلك تصف نصوص الاهرامات اللاحقة لتلك الفترة رحلة صعود الملك المتوفي الى السماء عبر سلم عظيم لتبقي روحه خالدة وسط النجوم
لاحقا، وبعد التوحيد انصهرت الفكرتين معا ليكونوا اصل الديانة المصرية القديمة، وهي عقيدة البعث و الخلود.
*عقائد الديانة و العبادة
مثلما كان الوضع فى العصور ما قبل التاريخية، فإن العالم بالنسبة للمصري القديم هو عالمٌ ملئ بالآلهة! فمن كل ركن من اركان مصر القديمة ينبثق وجود غريب يثير تسؤلات العقل .. و بالاضافة للالهة الكونية الكبري، فإن العقائد الدينية التى ارتبط بها المصري القديم فى عبادته لآلهته الصغري او المحلية تمثلت فى ثلاثة انواع،
الأول هو عبادة الاشكال الحيوانية والطيور، و التى اختار بعضها ليقدسها بسبب اعتقاده ان تلك الحيوانات او الطيور تحوي شيئا من القوة الإلهية او الحكمة الخالدة، وقد قدس المصري القديم القوة المجهولة فى الحيوان والتى اختارت الحيوان لتتجسد فيه، وليس الحيوان بذات نفسه، فهو قدس البقر “حاتحور” رمز الأمومة و الحب، لكنه لم يعبدها ولم يجد حرج فى ان يذبح البقرة ليتغذي بلحمها، كذلك الحال بالنسبة للتمساح “الإله سوبك” لم يجد حرجا فى ان يقتله دفاعا عن نفسه، كما اعجب المصري القديم بهيبة و ضراوة الحيوانات البرية وقوتها، فـ علىَ صلايات و لوحات العصور القديمة نجد صور لثيران و أسود وهي رمز للملك فى قوته و سلطته المسيطرة.
وهكذا، ظهرت ألهة واختلفت اسمائها من اقليم لإقليم، و اندثرت ألهة او تحولت وتحورت لتندمج مع حيوانات او ألهة اخري بمسميات مختلفة، و كمثال على ذلك المعبودة “بات” التى يُرمز لها برمز البقرة، تحولت فى العصور القديمة الى “حاتحور”
ونستطيع ان نؤكد ان المصري القديم لم يقدس حيوان لذاته، فما عبدوه قدماء المصريين هي الرموز الارضية للقوي الكونية الخفية التى لا تعيش معه على الارض.
والنوع الثاني هو عبادة الاشكال النباتية، فقد اعتقد المصري القديم ان شجرة الجميزة مرتبطة بالالهة “حاتحور” التى مُنحت لقب سيدة الجميزة كألهة انثي طيبية تنفع الناس.
اما النوع الثالث و الاخير فهو عن العبادة المرتبطة بالاشكال المادية غير الحية، مثل الحجر المقدس او ما يعرف بالـ “بن بن – benben” وهو على شكل مسلة، كذلك عامود الـ “چد – Djed” وهو مرتبط بالإله اوزيريس.
إعداد: جورج سعد
المصادر:
1-ياروسلاف تشيرني – الديانة المصرية القديمة
2-خزعل الماجدي – أديان ومعتقدات ماقبل التاريخ
3-ويل ديورانت – قصة الحضارة
4-يسرية عبد العزيز حسني – الديانة المصرية القديمة