على الرُغم من أن علم النفس اليوم يعكس تاريخًا غنيًّا ومتنوعًا، إلى أن أُصول علم النفس تختلف اختلافًا كبيرًا عن المفاهيم المُعاصرة للمجال. فمن أجل الحصول على فِهمٍ كامل لعلم النفس، سنقضي بعض الوقت في استكشاف تاريخه وأصوله. كيف نشأ؟ متى بدأ؟ من هم المسؤولون عن تأسيس علم النفس كعلم مستقل؟
لماذا ندرُس تاريخ علم النفس؟
علم النفس المُعاصِر يهتم بدراسة مجموعة كبيرة من المواضيع التي تبحث عن السلوك الإنساني والعقلي من العصبية إلى مستواه الثقافي. يدرس علماء النفس القضايا الإنسانية التي تبدأ قبل الولادة وتستمر حتى الموت. ولمعرفة تاريخ علم النفس، يمكنك الحصول على فهم أفضل للكيفية التي يتم بها دراسة هذه المواضيع وما تعلمناه حتى الآن.
أسئلة في علم النفس
منذ بداياته الأولى، واجه علم النفس عدد من الأسئلة المختلفة، وساهم السؤال الأول عن كيفية تعريف علم النفس في ترسيخه كعلم منفصل عن علم وظائف الأعضاء والفلسفة. وفيما يلي أسئلة إضافية واجهت علماء النفس على مر التاريخ:
- ما الموضوعات والقضايا التى يجب أن يهتم بها علم النفس؟
- ما طرق البحث التي ينبغي أن تُستخدم لدراسة علم النفس؟
- هل يجب أن يستخدِم علماء النفس البحث في التأثير على السياسة العامة، والتعليم، وغيرها من جوانب السلوك الإنساني؟
- هل علم النفس حقًا علم؟
- هل ينبغي أن يُركز علم النفس في السلوكيات التي يمكن مُلاحظتها، أم على العمليات العقلية الداخلية؟
بدايات علم النفس.. الفلسفة وعلم وظائف الأعضاء
لم يَظهَر علم النفس كعلم مُنفصِل حتى عام 1800 م ولكن يرجع تاريخ علم النفس إلى الاغريق.
خلال القرن الــ17، الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارتRene Descartes – ) عرض فكرة الثًنائية، والتي أكدت على أن العقل والجسم كانا كيانين مُنفصلين يتفاعلان لتشكيل التجربة الإنسانية.
قضايا آُخرى كثيرة ما زالت تُناقَش من قِبَل علماء النفس اليوم، مثل المُساهمات النسبية للطبيعة مقابل التنشئة، مُتأثِرة في هذا بالتقاليد الفلسفية.
إذًا ما الذي يجعل الفلسفة تختلف عن علم النفس؟
في حين اعتمد الفلاسفة في وقت مُبكر على أساليب مثل: المُراقبة والمنطق، ويستفيد اليوم عُلماء النفس من منهجيات علمية لدراسة واستخلاص النتائج حول الفكر والسلوك البشري. ساهم علم وظائف الأعضاء أيضًا في ظهور علم النفس في نهاية المطاف كتخصُص علمي. وكان لدراسات علم وظائف الأعضاء في وقت مُبكر على الدماغ و السلوك تأثير كبير على النفس، وساهم في نهاية المطاف في تطبيق المنهجيات العلمية لدراسة الفِكْر والسلوك البشري.
علم النفس كتخصص منفصل
خلال منتصف القرن الــ18، عالم نفس ألماني يُدعى (ويليم فونت – Wilhelm Wundt) قام باستخدام أساليب البحث العلمي لدراسة رد الفعل.
كِتابَه الذي نُشر في عام 1874، مبادئ علم النفس الفسيولوجي، أوّضَح العديد من الروابط الرئيسية بين علم وظائف الأعضاء ودراسة الفكر والسلوك البشري. وفتح في وقت لاحق أول مختبر لعلم النفس في العالم في عام 1879 في (جامعة لايبزيغ-University of Leipzig). ويُعتبر هذا الحدث عمومًا البداية الرسمية لعلم النفس كتخصص علمي مُستَقِل ومُتميز.
كيف عرض فونت علم النفس؟
كان ينظُر إلى الموضوع، كدراسة للوعي البشري ويسعى إلى تطبيق أساليب تجريبية لدراسة العمليات العقلية الداخلية. بينما يُعرف أسلوبه باسم التأمُّل ولكن حاليًا لا يُمكن الإعتماد عليها وغير علمية اليوم، ساعد مجهوده في علم النفس في وقت مبكر إلى التمهيد للطرق التجريبية في المستقبل. وحضر ما يَقرُب من 17000 طالب محاضرات علم النفس لفونت، ومئات ومئات الأبحاث في الدكتوراه في علم النفس دُرِسَت في مختبره. وعلى الرغم من تضاؤْل نفوذه في السنوات القادمة، إلى أن تأثيره في علم النفس لا جدال فيه.
المدرسة البنائية كأول مدرسة للفكر في علم النفس
إن (إدوارد تيتشنر- Edward B. Titchener)، من أشهر طلاب فونت، أسس أول مدرسة رئيسية لعلم النفس والفكر ( المدرسة البنائية ). وفقًا لرواد المدرسة البنائية، يُمكن تقسيم الوعي الإنساني إلى مفاهيم أصغر من ذلك بكثير. وباستخدام طريقة التأمْل، تدريبهم سيساعدهم على التحكم والسيطرة على ردود أفعالهم وذلك للوصول لتْصوُّر أبسط وأيسر للأمور.
بينما تُعرف المدرسة البنائية بتركيزها على البحث العلمي، كانت أساليبها لا يُعتمد عليها ومحدودة وذاتية.
تُوفيِّ (إدوارد تيتشنر- Edward B. Titchener) عام 1927 ومعه انتهت المدرسة البنائية أساسًا.
المدرسة الوظيفية لويليام جيمز (William James)
ازدهر علم النفس في أمريكا خلال منتصف إلى أواخرالقرن الــ18، واعتُبِر ويليام واحدًا من أكبر علماء النفس الأمريكيين في تلك الفترة، حيث نُشِر كتابه الكلاسيكي – مبادئ علم النفس- مما جعله أبًا لعلم النفس الأمريكي، وسُرعان ما أصبح كِتابَه النص القياسي في علم النفس ووُضِعَت أفكاره كأساس لمدرسة جديدة في الفكر، عُرِفت بإسم الوظيفية.
وكان تركيز المدرسة الوظيفية على الكيفية التي يُؤثِّر بها السلوك في التعامل مع البيئة المحيطة، اعتمدوا على الملاحظة المُباشرة، حيث أن كُلًا من المدرستين عَمِلوا على تحسين الوعي البشري في وقت مُبكِر من الفكر، كان هناك اختلافًا كبيرًا بين تصوُراتهم ، حيث سعى أصحاب المدرسة البنائية لكسر العمليات العقلية إلى أجزاء أصغر، واعتقد أصحاب المدرسة الوظيفية أن الوعي عملية أكثر استمرارية وتَغيُّر. في حين أن الوظيفية لم تَعُد مدرسة منفصلة الفكر حيث اتجهت إلى التأثير على النفس و نظريات الفِكْر والسلوك البشري.
حتى هذه اللحظة، ركز علم النفس على التجارب الإنسانية. طبيب نمساوي يدعى (سيجموند فرويد- Sigmund Freud ) قام بتغيير اتجاه علم النفس بطريقة دراماتيكية، اقترح نظرية الشخصية التي تؤكد على أهمية العقل اللاواعي. عَمَلْ فرويد السريري مع المرضى الذين يُعانون من الهستيريا وغيرها من الأمراض أدى به إلى الاعتقاد بأن خبرات الطفولة المبكرة والدوافع اللاواعية ساهمت في تنمية شخصية الكبار وسلوكهم.
في كِتاَبه علم الأمراض النفسية من الحياة اليومية، أوضح فرويد كيف يتم التعبير عن هذه الأفكار والدوافع اللاواعية، غالبًا من خلال زلَّات اللسان المعروفة بإسم «زلات فرويد» والأحلام. وفقًا لفرويد، الاضطرابات النفسية هي نتيجة لصراعات اللاوعي فيصبح غير متوازن. كانت نظرية التحليل النفسي التي اقترحها فرويد لها تأثير هائل على التفكير في القرن الــ20، وتأثير على مجال الصحة العقلية، فضلًا عن مناطق آخرى بما في ذلك الفن والأدب والثقافة الشعبية. في حين أن العديد من أفكاره يُنظَر إليها بتشكك اليوم، لكن تأثيره على علم النفس لا جدال فيه.
تَغيَّر علم النفس بشكل كبير خلال أوائل القرن الــ20، كما ظهرت مدرسة آخرى للفكر المعروفة بإسم المدرسة السُلوكية. أحدثت المدرسة السُلوكية تغييرًا كبيرًا في الأفكار النظرية السابقة، ورفضت التركيز على كل من العقل الواعي واللاواعي وبدلًا من ذلك سَعت المدرسة السُلوكية لجعل علم النفس تخصص أكثر علمية من خلال التركيز على السلوك.
وكانت بدايات المدرسة السُلوكية مع عالم نفس روسي يُدعى (ايفان بافلوف- ( Ivan Pavlov
أدَّت أبحاث بافلوف على الجهاز الهضمي للكلاب لاكتشافه لعملية التكيُّف الكلاسيكية، والتي أظهرت أن السلوكيات يمكن تَعلُمها عن طريق اقترانات التكيُّف. أظهر بافلوف أن عملية التعلم تلك يمكن أن تُستخدم لإيجاد علاقة بين الظروف البيئية والتكّيُّف الذاتي الذي يحدث بشكل طبيعي.
عالم نفس أمريكي يُدعى (جون واطسون- John B. Watson) سُرعان ما أصبح من أقوى دُعاة المدرسة السُلوكية حيث حدَّد أساسيات مبادئ هذه المدرسة الجديدة عام 1913، وفي وقت لاحق قدَّم واطسون تعريف في كتابه (السُلوكية) عام 1924: « المدرسة السُلوكية اعتبرت علم النفس البشري هو السلوك الإنساني، السُلوكية تدَّعي أن الوعي هو مفهوم غير واضح وغير صالح للاستعمال، حيث يعتقد أصحاب المدرسة السُلوكية أن وجود الوعي يعود إلى الأيام القديمة من الخرافات والسحر».
كان تأثير المدرسة السُلوكية هائلًا، واستمرت هذه المدرسة الفكرية المُهيمنة على مدى السنوات الــ50 المقبلة. عزَّز عالم النفس (سكينر- Skinner) وِجهة نظر المدرسة السُلوكية مع مفهومه للتكيُّف كشرط فعَّال، الأمر الذي يدل على تأثير العقاب وتعزيز السلوك.
في حين أن المدرسة السُلوكية خسرت في النهاية تملُكها لعلم النفس، فلاتزال المبادئ الأساسية للمدرسة السُلوكية موجودة وتُستخدم على نطاق واسع اليوم.
وغالبًا ما تُستخدم التقنيات العلاجية مثل تحليل السلوك، وتعديل السلوك لمُساعدة الأطفال على تَعلُّم مهارات جديدة والتَّغلُب على السلوكيات الغير القادرة على التأقلم معها، في حين يتم استخدام التكيُّف في العديد من الحالات تتراوح بين تربية الأطفال والتعلُّم.
في حين سيطرت المدرسة السُلوكية حتى النصف الأول من القرن العشرين عن طريق التحليل النفسي والسُلوكي، ظهرت مدرسة جديدة من الفِكْر المعروفة باسم علم النفس الإنساني خلال النصف الثاني من هذا القرن. غالبًا ما يُشار إليها بإسم “القوة الثالثة” في علم النفس، وأكَّد هذا المنظور النظري الخبرات الواعية.
وغالبًا ما يُعتَبر عالم النفس الأمريكي (كارل روجرز- Carl Rogers ) واحدًا من مؤسسي هذه المدرسة الفكرية.
في حين بدأ التحليل النفسي في الدوافع اللاواعية وعلماء السُلوك يُركِزون فقط على العوامل البيئية، يعتقد روجرز بقوة في قوة الإرادة الحرة و تقرير المصير. ساهم عالم النفس (ابراهام ماسلو- Abraham Maslow) أيضًا في علم النفس الإنساني مع نظرية التسلسل الهرمي للاحتياجات لتحفيز الموارد البشرية.
كما رأيتم هذه لمحة موجزة عن تاريخ علم النفس، وشَهد هذا المجال نموًا كبيرًا وتغييرات كثيرة منذ بداياته الرسمية في مختبر فونت. القصة بالتأكيد لا تنتهي هنا، فلقد واصل علم النفس في التطور منذ عام 1960 وأدُخِلت الأفكار ووجهات النظر الجديدة. الأبحاث الحديثة في علم النفس تتجه في جوانب عديدة من التجربة الإنسانية، بدايةً من التأثيرات البيولوجية على السلوك لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية.
اليوم معظم علماء النفس لا يَعتبِرون أنفسهم مع مدرسة واحدة للفكر. بدلًا من ذلك، فإنهم غالبًا ما يُركزون في منطقة تخصص معينة أو وجهة نظر، في كثير من الأحيان بالاعتماد على الأفكار من مجموعة من الخلفيات النظرية. وقد ساهم هذا الأسلوب الإنتقائي للأفكار والنظريات الجديدة التي سوف تستمر في تشكيل علم النفس لسنوات قادمة.
__________
ترجمة: نسمة جبريل – هاجر رحيم
مراجعة: Ghada Fathy
تصميم: Wael Yassir
المصدر: http://sc.egyres.com/WVjeL
#الباحثون_المصريون