عندما يسمع الناس كلمة علم النفس فإن أول ما سيخطر على بالهم هو أخصائي نفسي يستمع لمريض مستلقٍ على الأريكة يحكي تفاصيل يومه، وربما يرتدي هذا الأخصائي نظارة أو يدخن سيجارة أو يداعب ذقنه بينما يستمع لمريضه؛ لا بدّ أيضًا أن نعترف أنه بمجرد أن تفكر في علم النفس فحتمًا ستتذكر «سيجموند فرويد»!
علم النفس ما قبل فرويد «إدوارد برادفورت تيتشينير» و «ويليام جيمس»:
قبل الدخول في عالم فرويد علينا أن نعرف أن علم النفس هو أكثر العلوم تنوعًا في سياق أغراضه والطرق التي يتبعها، واختلاف المدارس الفكرية والتخصصات التي يحتويها. بدأ علم النفس العلمي في عام 1879م في ألمانيا عندما قام العالم «فيلهلم فونت» ببناء أول مختبر علم نفس في جامعة «ليبزيج»، وذلك بعد سنوات من نشره لمبادئ علم النفس الفسيولوجي والذي يعد أول مرجع لعلم النفس.
فونت وتلميذه «إدوارد برادفورت تيتشينير» استمدوا أفكارهم من علماء الكيمياء والفيزياء، وفكروا بأنه إذا كان هؤلاء الأشخاص قادرون على تحليل كل الموضوعات إلى عناصر بسيطة فلمَ لا يفعلون نفس الشيء مع العقل؟
وبناء على ذلك، فقد حاولوا التعرف على الأساسيات التي يُبنى عليها الوعي، وذلك عن طريق جعل بعض المرضى يتعرفون على دواخلهم من خلال بعض الأسئلة، مثل: بماذا يشعرون عندما يشاهدون غروب الشمس أو يشمون القهوة أو يداعبون قطة؟ وأسئلة أخرى شبيهة.
وقد قام تيتشينر بتسمية ذلك المنهج بـ«البَنْيَويّة»، وعلى الرغم من أن اسمها يبدو جامدًا، فقد ساعد ذلك المنهج على سبر أغوار النفس البشرية للدرجة التي حوَّلت المنهج إلى منهج فردي، أي أنه يمكن لي ولك أن نشعر ونفكر بطريقتين مختلفتين حتى إذا داعبنا نفس القطة! فالأمر يعتمد على شعورك وتفكيرك كفرد. ولأن علماء النفس لم يكونوا قادرين على تحديد مشاعر كل شخص بالضبط، فإن مدرسة البنيوية لم تعش طويلًا.
وعلى عكس ذلك، قام الفيزيائي والفيلسوف «ويليام جيمس» بتبنِّي مجموعة مختلفة من الأسئلة تتمحور بشكل أساسي حول كيفية تفكيرنا وشعورنا وعمل حواسنا، وقام جيمس بالتركيز على كيفية عمل سلوكنا. إن ذلك المنهج، والذي أسماه بـ«الوظيفية»، كان مبنيًا بشكل أساسي على فكرة «تشارلز داروين»، حيث أن السلوكيات التكيفية يتم الحفاظ عليها خلال عملية التطور، وقد قام جيمس بنشر كتابه المؤثر «مبادئ علم النفس» في عام 1890م، مُقدمًا فيه تعريف علم النفس بأنه علم الحياة العقلية، وذلك في نفس الوقت الذي كان فيه فرويد يبدأ في تمرين عقله الكبير.
سيجموند فرويد واسهاماته
«سيجموند فرويد» هو أكثر المُفكرِّين تأثيرًا وإثارة للجدل في عصره، بل في كل العصور؛ قد ساعدتنا نظرياته في أن نبني وجهة نظرنا عن الطفولة والشخصية والأحلام والمشاعر الجنسية، كما أن عمله نجح في تكوين تراث من المؤيدين والمُعارضين. امتدت حياة فرويد الطويلة على مدار رقعة من التاريخ، بداية من الحرب الأهلية حتى الحرب العالمية الثانية، ولكنه مثل باقي العلماء العظماء قام بتطوير أفكاره ببنائها على الأعمال السابقة للأخرين، وهذا بالطبع لم يوقفه عن الابتكار والإضافة إلى المجال.
بدأ «سيجمند فرويد» حياته الطبية في مستشفى فِينِيّ، ولكنه بدأ تدريبه الخاص متخصصًا في الاضطرابات العصبية وذلك في عام 1886م، وفي خلال ذلك الوقت، شهد فرويد زميله «جوزيف بروير» يعالج مريضة تسمى «آنا» بعلاج كلاميّ جديد، كان العلاج يدور حول جعل المريضة تتكلم عن أعراضها، وكلما تكلمت أكثر واستعادت المزيد من الذكريات المؤلمة كلما قلَّت أعراض مرضها، مما كان تقدمًا جديدًا غيَّر فرويد للأبد. فمنذ ذلك الوقت، شجَّع فرويد مرضاه بأن يتكلموا بحرية بكل ما يدور ببالهم، وهو ما يعرف بأسلوب تداعي الأفكار الحُر، ذلك الأسلوب كوَّن أساسيات مهنة فرويد بالإضافة إلى فرع كامل في علم النفس.
في عام 1890م، نشر فرويد كتابه «تفسر الأحلام» والذي قدَّم فيه نظرية التحليل النفسي. ربما ستفكر الآن في التحليل النفسي ككيفية للعلاج حيث يستلقِ المريض على الأريكة، وعلى الرغم أن تلك الفكرة كانت بالفعل جزءًا من النظرية؛ إلا أن نظرية فرويد والتي أحدثت ثورة في ذلك الوقت كانت أكثر تعقيدًا من ذلك.
إن الجوهر الرئيسي للتحليل النفسي هو أن شخصياتنا تتشكل بدوافع لا واعية، ولشرح ذلك الجوهر اقترح فرويد أننا جميعًا نتأثر منذ البداية بعمليات عقلية تتم بدون إدراكنا، وهي عمليات لا واعية، وعلى الرغم أن الفكرة قد تبدو شبه واضحة لنا اليوم، فإنها في عام 1890م لم تكن شيئًا واضحًا أبدًا! حيث بدَت مجرد فكرة تُخبرنا أن عقولنا تُقتاد بواسطة شيء لم تكن عقولنا نفسها تُدركه! كانت فكرة مجردة وغير مرئية، وبدا أن هناك شيئًا غير عقلاني بها، حيث ضاهت صعوبة فكرة تطور الكائنات بالاختيار البيئي؛ كانت عبقرية فرويد تكمن في ابتكاره لتلك الفكرة في ذلك الوقت.
الأمر المهم الآخر في نظرية فرويد هو اللاوعي، حرفيًا ذلك الشيء الذي يكمن وراء الوعي، وبالرغم من عدم درايتك به، فإنه يُمكنك فهمه من خلال أسلوب علاجي مُستخدمًا الأحلام والإسقاطات النفسية وأسلوب التداعي الحر، حيث يهدف كل ذلك إلى استخراج المشاعر المكبوتة واكتساب البصيرة الذاتية.
إن ما يقوله فرويد هو أنه من الممكن علاج الاضطرابات العقلية من خلال الحديث العلاجي مع المحلل النفسي واكتشاف الذات أحدث طفرة كبيرة في ذلك الوقت الذي كان يُحبس فيه المرضى العقليون في مصحات نفسية، حيثما يتم تقديم بعض الألعاب العقلية لهم في أفضل الأحوال، وفي أسوئها كانوا يُربطون في السرير!
بعد كتاب تفسيرات الأحلام، قام فرويد بنشر أكثر من 20 كتابًا وعددًا غير محدود من الأوراق البحثية، كل ذلك وهو يحتفظ في يده بسيجاره المثير للسخرية، لأنه كان يعتقد أن التدخين يُساعده؛ مع أن التدخين في الحقيقة أصابه بسرطان الفم! خلال آخر ستة عشر من عمره، خضع فرويد على الأقل لثلاثين عملية جراحية مؤلمة بينما استمرَّ في التدخين!
وفي أواخر عام 1930م سيطر النازيون على النمسا، فاستطاع فرويد وأسرته اليهودية الهروب بصعوبة إلى إنجلترا، وفي عام 1939م، أصبح ألم فمه المُسرطَن هائلًا إلى أن ساعده صديقه الطبيب على الانتحار بحُقنة من المورفين وقد بلغ حينها الثالثة والثمانون.
سواء أكنتَ تُحب فرويد أم تكرهه- حيث اختلف معه كثيرًا من الأشخاص- فإن تأثيره على علم النفس كان تأثيرًا تاريخيًا. وبينما ظلت النظريات المتنافسة في المجال الصغير لعلم النفس تَلقى حتفها أو تتطور إلى شيء آخر، فإن التحليل النفسي لفرويد ظل مفهمومًا مُهمًا يُمارس حتى الآن.
وفي نفس الوقت الذي سيطرت فيه نظرية التحليل النفسي الخاصة بفرويد، بالإضافة إلى العديد من مشتقاتها المعروفة باسم نظريات المُتغيرات النفسية، والتي ركزت على أهمية وتأثير الخبرات والتجارب الأولية على أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا وشخصياتنا وتشكيل اللاوعي؛ حدثت طفرة هائلة في النصف الأول من القرن العشرين عندما اكتسب علم السلوك مكانة أعلى، فعلماء من العيار الثقيل مثل «إيفان بافلوف»، و«جون ب.واتسون»، و«ب.ف.سكينير»، لعبوا دورًا أساسيًا هنا، حيث ركَّز هؤلاء العلماء على دراسة السلوكيات التي يمكن ملاحظتها. وربما تتذكر سكينير أنه ذلك الشخص الذي وضع مجموعة من الخنازير والفئران والأطفال في صناديق وجعلها تتكيف لتؤدي سلوكيات معينة، ففي نفس الوقت الذي هرب فيه فرويد إلى إنجلترا قام سكينير بنشر كتابه «سلوك الكائنات الحية»، مما مهَّد الطريق لعهد السلوكية، أي دراسة السلوك، والذي انتشر بكثرة في التسعينيات.
وبحلول منتصف القرن العشرين، بدأت قوى رئيسية أخرى في علم النفس بالظهور والسيطرة، مدارس سنقوم بالتطرق إليها لاحقًا في هذه الدورة وتضم علم النفس الإنساني، والذي يُركِّز على رعاية النمو الشخصي، والعلوم المعرفية، وعلم الأعصاب، حيث ساهم كل منهم بتأثير فريد ومنفد على دراسة العقل.
تعريف علم النفس الحديث
أما اليوم، فإن التعريف الرسمي لعلم النفس بأنه دراسة للسلوك والعمليات العقلية لهو نتاج دمج كل ما توصلت إليه تلك المدارس الفكرية، فهو يدرك الحاجة لملاحظة وتسجيل السلوك، سواء كان صراخًا أو بكاءً، أو لعب الساكسافون لجمهور تخيَّلُيّ! ولكنه أيضًا يهتم بعملياتنا العقلية- ما نفكر به، وما نشعر به، وما نصدقه- بينما ننهال باللعب على تلك الآلات الموسيقية الخفية.
مرة أخرى، فالفكرة التي أُريدك أن تتفهمها جيدًا هي أن علم النفس هو علم تكاملي، نعم، وبالرغم من أن الكثير يستاؤون ويعترضون بشدة على هذا، إلا أن جوهر الانضباط يتعلق بخلق طرق مختلفة لسؤال أسئلة ممتعة، ومحاولة الإجابة عليهم جميعًا من خلال كل طُرق جمع البيانات المُختلفة. إن العقل البشري مُعقَّد ولا توجد وسيلة حتمية لفهم محتوياته، لذا يجب دراسته من جميع الجوانب.
بالرغم من أن عالم الفلك من هارفارد «أوان كيندجريتش» قد حدَّق في الآفاق البعيدة من الفضاء، فإنه مازال لديه العلم أن العقل البشري هو أكثر الأشياء الفيزيائية التي عرفناها في الكون بأكمله تعقيدًا. ونحن جميعًا نمتلك واحدًا، عقل يخصَّنا وحدنا، موجود تمامًا هنا بالأعلى.
نحن متحمسون لنخوض معكم في هذا العالم، عالم علم النفس! لنعرف كيف نُطبِّقُه في حياتنا وعقولنا وقلوبنا، وكيف يعمِّق فهمنا لبعضنا البعض وللعالم ولأنفسنا أيضًا.
___________________________________________________________
إعداد: رضوى محمود
مراجعة لغوية: Mohammad Marashdeh
المصدر:
Nerdfighteria Wiki – Intro to Psychology – Crash Course Psychology #1
[Internet]. [cited 2015 Nov 19]. Available from: http://sc.egyres.com/jSbNr