2ـ هل الفلسفة غير مفيدة؟
لِمَ يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟
تساءل الفيلسوف الألماني (لايبنتس-Leibniz) في القرن السابع عشر، ِلمَ يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟ بشكلٍ أوضح، ما هي علة وجود الكون؟ من أين جاءت كل تلك النجوم والكواكب ومن أين جئنا نحن؟ أليس من الأيسر والأسهل ألا يوجد أي شيء على الإطلاق؟
جاءت إجابة لايبنتس على سؤال (لِمَ يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟) على نسق الشائع في عصره ألا وهو، أن هناك شيء؛ لأن الإله خلقه وهذا الإله على حد قوله هو من خلق نفسه أيضًا. على الرغم من أن تلك الإجابة حلت هذه المسألة نسبيًا، إلا أنها ليست مقبولة جدًا حاليًا وعلة الرفض ليست فقط بسبب المحاولة المستمرة للبحث عن تفسيرات تدور حول ماهية العالم وكيفية عمله، وإنما لأنها لا تجيب عن سؤال لماذا الإله كما هو وليس على شكل آخر؟
سنَقدم في هذا المقال إجابات أُخرى على هذا السؤال، لكن ليس قبل أن نذكر إجابة الفيلسوف (سيدني مرجنبيسن-Sydney Morgenbesser): «حتى وإن لم يوجد شيء، لواصلنا الشكوى».
لايملك العلم الإجابة حاليًا ولكن سيملكها في المستقبل:
أورد (جيم هولت-Jim Holt) في كتابه (لِمَ العالم موجود-Why Does The World Exist) رأي عالم البيولوجيا (ريتشارد داوكينز-Richard Dawkins) الذي أعرب فيه عن ثقته بالعلم في أنه سيجيب على سؤال كيف وُجد العالم وليس هذا فحسب، وإنما سيعرف العلة من وجوده.
أحد النظريات المُرشحة لتوضيح كيف صار العالم من العدمية إلى الانفجار العظيم هي نظرية تنتمي إلى (التموج الكميّ-quantum fluctuation) والتي تشير إلى أن الفراغ غير ثابت ويتيح تكون فقاعات صغيرة من الزمكان والتي تُشكل بطريقة عشوائية.
أوضح الفيزيائيّ (ستيفن وينبرج-Steven Weinberg) طبقًا لما ورد في كتاب هولت أن الإجابة المطروحة -السابقة- لا تحُل المشكلة؛ وذلك لأن قوانين الطبيعة يمكنها أن تَخلُص إلى حتمية وجود شيء وأن فكرة العدمية غير واردة. بالتالي؛ يبقى السؤال لِمَ هذه القوانين بهذا الشكل وليست على شكل آخر؟
نحن مجرد تجربة:
في إحدى حلقات المسلسل الكرتوني (The Simpsons)، تظهر ليزا وهي تصنع بشكل غير مُتعمد حضارة عن طريق وضع ضرسها المخلوع في إناء وإضافة مشروب طاقة (Buzz Cola)، على الرغم من أن ذلك يبدو كمزحة إلا أن هناك نظريات تشير لاحتمال صنع شيء كهذا.
يقول الفيزيائيّ بجامعة ستانفورد (أندري ليند- Andrei Linde) -في كتاب هولت- أنه لم يتبق الكثير لخلق كون في المعمل فمائة الآلاف من الجرام من المادة ستكون كافية لإحداث فراغ صغير من الزمكان والذي سيتيح الفرصة لآلاف الملايين من المجرات في النشوء. تسمح نظرية التموج الكوني ليس فقط بتفسير تمدد الكون وإنما -أيضًا- تشير لاحتمالية خلق كون في المعمل. صرح ليندي: «لا يمكننا استبعاد احتمالية أن يكون كوننا قد خُلِق بواسطة أحدهم في كون آخر».
على الجانب الآخر يقترح الفيلسوف (نيك بوسترم-Nick Bostrom) في مقال نُشر له في عام (2003 م) نظرية أننا محاكاة لحقيقة افتراضية.
تستند هذه الحجة على مقدمتين:
- أولًا: يمكن محاكاة الوعي بواسطة حاسوب.
- ثانيًا: الحضارات المستقبلية سيكون لها القدرة على الوصول لقدر جبار من القدرة الحاسوبية. وبالتالي؛ سيكون باستطاعة هذه الحضارات برمجة محاكاة لعوالم لا نهائية. يرى بوسترم أنه بذلك يمكن لكمبيوتر بسيط أن يجري ملايين من هذه المحاكاة. ومن ثم؛ فاحتمالية وجود عوالم افتراضية أكبر من وجود عوالم حقيقية ويقود ذلك لترجيح أننا نعيش في محاكاة لعالم حقيقي وليس في عالم حقيقي.
لا تجيب كل تلك النظريات والافتراضات حتى الآن على سؤال (لم يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟)، فإذا سلمنا أننا نعيش في محاكاة أجراها طالب في منشأة تعليمية كمشروع تخرج؛ فهذه النظرية تفسر عالمنا فقط (المحاكاة) وليس عالم هذا الطالب (الحقيقي).
الخالق هو من أُوجده:
تشير بعض الأدلة إلى وجود إله خالق، لكن هذه الأدلة تشوبها انتقادات، ولا يعني ذلك أنها غير واردة. ذكر (جون ليسلي-John Leslie) و (روبرت لورانس كون- Robert Lawrence Kuhn) في كتابهما (لغز الكون-The Mystery of Existence) فلاسفة معاصرين أمثال المؤمنين بفكرة وجود إله.
واحدة من أبرز الحجج التي تطعن في وجود إله خالق هي أحد أفكار علم الفيزياء التجريبي وهي فكرة (الملاءمة-Fine Tuning). طبقًا لهذه النظرية، فإن قوانين الفيزياء دقيقة لدرجة أن مجرد تغير طفيف للغاية يمكن أن يكون سببًا في نشوء حياة. تُواجه هذه النظرية ببعض الاعتراضات:
- الكون الذي يبلغ من العمر (13.700) مليون عام، ويصل نصف قطر الجزء المرئي منه (90.000) مليون سنة ضوئية. حينها، لِماذا معرفة ما يحدث في كوكب واحد من جملة هذا الكون الفسيح على هذا القدر من الأهمية؟ وبالتالي؛ ألا تعتبر الحياة مجرد استثناء قليل الأهمية؟
- فكرة حدوث شيء كانت احتمالية حدوثه ضئيلة لا يعني بالضرورة أن هذا الشئ لا يُفهم بواسطة قوانين الطبيعة. مثلًا، من الصعب جدًا أن تفوز باليانصيب، لكن هذا لا يعني أن حدث الفوز باليانصيب نفسه لا يُمكن أن يفسر بواسطة قوانين رياضية.
- بالمثل، كما يوجد مسابقة يانصيب كل أُسبوع، يوجد احتمالية وجود أكوان أُخرى. على صعيد الفيزياء، يطرح العديد من علماء الكون هذه الاحتمالية المبنية على (نظرية الأوتار-String Theory) أو (الثقب الأسود الكوني-black-hole cosmology). أما على الصعيد الفلسفي، فقد اقترح (ديفيد لويس- David Lewis) (الواقعية الشكلية-Modal realism) والذي يرجح أن كل الأكوان الممكنة موجودة بالفعل، مما يعني أن هناك أكوان كثيرة وبالتالي؛ ليس من الغريب أن يكون بواحدة منها على الأقل حياة، يتبقى فقط أن يتم إكتشافها.
نعيش في أفضل العوالم:
كتب أفلاطون في الجمهورية أن الخير هو السبب في وجود الأشياء المعروفة. يرى الفيلسوف (جون أ. ليسلي-John A. Leslie) أنه من الممكن أخذ هذه الفكرة بحرفيتها. من وجهة نظره، يمكن أن يكون الكون موجودًا لضرورة أخلاقية، هذه الضرورة ناجمة عن أن وجود كون صالح أفضل من لاشيء أو أنه على الأقل كوننا أفضل من لا شيء.
بالتالي؛ وجود الشر يُفسر على هذا الأساس بأن الخير كله لا يأتي في نفس الوقت؛ لا يمكننا أن نكون معفيين فقط إذا تصرفنا بطريقة صحيحة. شرح ليزلي فكرة الشر في الكون بمقارنة الكون بمتحف اللوفر، فعلى الرغم من أن أفضل اللوحات فيه هي الجيوكاندا، فإن المتحف لن يكون الأفضل إذا كانت كل اللوحات صورة مُطابقة للجيوكاندا.
لم يُكمل الفيلسوف جون ليسلي شرح كيف انتقل العالم من مجرد ضرورة أخلاقية إلى حقيقة مادية، لكن على الأقل لم يصل بتفسيراته لما وصل إليه لايبتس حين قال إننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة. يرى لايبتس أن الشر مجرد وهم كما يقول: « أننا نعرف جانب ضئيل من اللانهائية». بالتالي؛ فجزء صغير من لوحة غاية في الكِبَر، ستبدو لنا كبقعة.
نعيش في عالم بين بين:
نشر (دريك بارفيت-Derek Parfit) مقال مفصل في مجلة بريطانية (London Review of Books) عام (1998 م) وطرح في هذا المقال سؤالًا لِمَ هناك شيء؟ لِمَ هذا؟
أوضح بارفيت بأن هناك عددًا من الاحتمالات طبقًا لعلم الكون: يحتمل أن يكون هناك كون واحد، أو ألا يوجد شيء على الإطلاق، أو عدد لا نهائي من الأكوان. على هذا، لو فُرض أن الكون ذا شكل محدد، فإن هذا الشكل بالذات يمكن أن يفسر الكون. أطلق بارفيت على هذا المعيار إسم (المُختار-(Selector.
الاحتمالية الأكثر بساطة من وجهة نظره أنه لا يوجد أي كون. هنا يوافق لايبتس أن العدم لا يحتاج لتفسير. لكن من الواضح أن هناك شيء، فإن لم يوجد أي شيء لكان من الصعب على بارفيت أن يجد مجلة لينشر فيها هذا النص.
على ضوء فكرة الـ (المُختار-Selector)، الفرض الثاني والذي لديه تفسيرات قليلة، هي أن جميع الأكوان المرجح وجودها، موجودة بالفعل. فإذا سلمنا بوجود كون واحد أو عدة أكوان محددة والتي يبلغ عددها (58)، سيُطلب في هذه الحالة البحث عن أسباب محددة، لكن إذا وجدت كل الأكوان اللامتناهية في العدد فليس هناك ما يبرر ذلك. مفاد القول، أننا في حالة كون واحد أو أكوان محدده لا نجد تفسيرات كافية، فما بالنا بحالة الأكوان المتعددة.
على أية حال، من وجهة نظره، كوننا هو أحد الأكوان التي تحكمها قوانين بسيطة نسبيًا. وإذا كان المعيار هو البساطة فالأحرى التخلي عن فكرة الـ (المُختار-Selector)، مما يعني أنه لا وجود لمعيار مُحدد.
بين كل هذا الجدل، اختار هولت في كتابه أن كوننا هو أحد الاحتمالات الكونية وقال: «دون سمة مميزة، نأمل أن يكون عالمنا وسطي تمامًا، أن يكون خليطًا من الخير والشر، الجمال والقبح، النظام والفوضى». أي عالم مُشابه كثيرًا لعالمنا.
المشكلة ليس لها معنى:
جاء في كتاب (لودفيج فيتجنشتاين- Ludwig Wittgenstein) بعنوان (Tractatus Logico-Philosophicus): «الأكثر مدعاة للتأمل ليس قضية أن يوجد العالم أو لا، لكن وجود العالم نفسه». يعترف لودفيج أن التساؤل (لِمَ يوجد شيء بدلًا من لاشيء؟) هو مجرد عبث كما قال: «المعضلة ليست موجودة». طبقًا للودفيج هذه المسألة ليست إلا مشكلة زائفة وأن السؤال يفوق حدود معرفتنا.
ليس هو الوحيد الذي يعتقد أن مناقشة وجودية الأشياء أمر غير ضروري. اعتبر (هنري برجسون-Henri Bergson ) فكرة العدمية المطلقة محض هراء وأن الخوض فيها كمن يدور في دائرة مُفرغة وأن الأمر برمته وهم وسراب من خلق مخيلاتنا.
يرى أيضًا الفيلسوف (أدولف جرونباوم) أننا إزاء مشكلة مزيفة، حيث يرى هو وليسلي وكون أن الكون حقيقة طبيعية. فليس من المعقول بالنسبة لهم الحديث عن الفترة السابقة للانفجار العظيم، لأن حينها لم يكن هناك وقت، فهذا السؤال مشابة للتساؤل عما يوجد في شمال القطب الشمالي. فالقضية ببساطة كما قال (بيرتراند روسيل- :(Bertrand Russel«لنقل أن الكون موجودًا، وهذا هو كل شيء».
هذه الإجابة منطقية؛ لأنه قبل أي شيء إذا لم نقبل بهذه الحقيقة سندخل في دائرة لا تنتهي من البحث، وكما ورد في الموقع الإلكتروني (Reason and Meaning) بأننا لا نقتنع أنه لا علة لوجود الكون أو أن لوجوده سبب خاص، لكن عندما نعثر على تفسير مُحتمل نتسأل عن صحته وعن تفسيرات أخرى لتشرحه.
خِتامًا، كان لدى مرجنبيسن كل الحق حين قال أننا لن نكون قانعين أبدًا.
المصدر: https://verne.elpais.com/verne/2017/01/24/articulo/1485269801_940693.html
ترجمة: رُقية التهامي.
مراجعة: مُحمد فتحي.