شَهِدَت القارةُ العجوز في مُنتصف ثلاثينيات القرن الماضي واحدةً من أشرسِ الحروب الأهلية وأكثرها تعقيدًا، فقد رآها البعض صراعًا بين مجموعةٍ من الأحزاب المتناحرة على السلطة، وبعضٌ آخر رَأَى فيها حربًا للحفاظِ على هُويَّة الدولة الكاثوليكية المُحافظة، ولكن الأمر الذي اتفق عليه الجميع، أنها مـأساةٌ إنسانية تركت جرحًا غائرًا في نُفوس الشعب.
الأوضاع السياسية والاجتماعية قبل قيام الحرب
لم يكن النزاع بين الأحزاب السياسية هو السبب الوحيد وراء نُشوبِ الحرب الأهلية الإسبانية، بل كان لها جذورٌ وأسباب أخذت في التطور على مدارِ عقود، ليصبح قيام الحرب أمرًا مُسلَّمًا به، فقد عانى المجتمع الإسباني من غياب العدالة الاجتماعية، فأغلب ثروات البلاد كانت في أيدي الأقلية الحاكمة، في الوقت الذي كان فيه عامةُ الشعب غارقين في الفقر والجهل ولا يتمتعون بأقل الحقوق من تُملُّك الأراضي، أو تحديد ساعاتٍ للعمل بأجورٍ مُجزئة، وكان ذلك بمباركة الكنيسة المنحازة بالكلية للطبقات الحاكمة والتي مثَّلَت عاملًا رئيسيًّا لفساد الدولة مُجتمِعةً مع النظامِ الملكي الذي كان يفقد شعبيته بين الناس بمرور الوقت، والجيش المتوغِّل في الحياةِ السياسيِّةِ بشكلٍ كبير. تزامن ذلك مع سيطرةِ مناخٍ من اليأس والإحباط على المجتمع، خاصةً بعد الهزيمة التي تلقَّاها الجيش الإسباني في معركة أنوال (Battle of Annul)، التي اندلعت في 17 يوليو 1921 م في الريف المغربي، وما سبقها من فقدانِ إسبانيا لآخر مستعمراتها في كوبا والفلبين وبورتوريكو في أواخر القرن التاسع عشر بعد حربٍ شرسة مع الولايات المتحدة، إضافةً إلى الأزمةِ الاقتصادية العالمية التي عصفت بالمجتمع عام 1929 م وتركت المجتمع الإسباني في حالةٍ لا يُحسد عليها من فقرٍ وبطالة.
في ظلِّ هذا المناخ المشحون، بدأت الحركات ذات التوجه اليساري في الظهور وكَسْبِ ثقة الشعب، خاصةً الطبقة العاملة والوسطى، منذرين بقرب نهاية الملكية.
انتخابات 1931 وقيام الجمهورية
في الرابع عشر من أبريل عام 1931 م، اِمتلأت الشوارع الإسبانية بالاحتفالات لإعلان قيام الجمهورية ونفي الملك ألفونسو الثالث عشر خارج البلاد، وذلك بعد انتخاباتٍ محلية كان فيها الفوز حليفًا للأحزاب اليسارية.
جاء الجمهوريون بخططهم الإصلاحية التي مَثَّلت أملًا كبيرًا، فحدَّثوا الشعب عن الحرية والمساواة، ووضعوا خططًا تعليمية جديدة خالية من الطابع الكنسي الذي سيطر لسنواتٍ على البلاد، وعملوا على نشر الثقافة، وأصبحت الأعمال الأدبية قادرةً على إظهار حرية أكثر في مناقشة المواضيع التي تتناولها. على صعيدٍ آخر، بَثَّت شعارات الجمهوريون وخططهم الأملَ في نفوس أبناء الطبقة العاملة والفلاحين الذين رأوا في الجمهورية الجديدة طوقَ النجاة وانتظروا إصلاحاتٍ سريعةٍ وجذرية، خاصةً فيها يتعلق بإعادة توزيع الأراضي والحقوق النقابية.
واجهت الجمهورية الجديدة العديد من المصاعب، فخلف هذا الستار البَرَّاق من الديمُقراطية قبعت الدولة العميقة الضاربة بجذورها في المجتمع، فتأخرت الإصلاحات، وتعطلت خطط الحكومة، وبدأ صبر العمال والفلاحين ينفذ أمام تردد الحكومة في تفعيل خطط الإصلاح الزراعي التي كانت ستضعهم في مواجهةٍ مباشرة مع مُلَّاك الأراضي من الأثرياء الذين لن يتركوا أراضيهم للتقسيم. وأمام خيبة أمل المواطنين تجاه القوى الجمهورية، ظهر حزبٌ يميني جديد تحت اسم «سيدا»، ذو توجه فاشي ليحصد الفوز في انتخابات نوفمبر عام 1933 م، مما شكَّل خطرًا محدقًا ليس على الجمهورية الوليدة فحسب، بل على المستقبل الإسباني، لذلك حثت الأحزابُ الاشتراكية عُمَّالَ المناجم على الثورة ضد الحكومة اليمينية مخافةَ خلق فاشيةٍ كفاشية إيطاليا، وبالفعل ثار العمال وأضربوا عن العمل، وكانت ثورة مقاطعة أوستريا هي الأقوى والأوسع انتشارًا، ولكن سرعان ما أُخِمَدَت تحت وطأة مَدافِع الجيش بقيادة الجنرال فرانسسكو فرانكو والتي خَلَّفَت وراها ما يقرب من ألفي قتيل.
أمام قَمْعِ الأحزابِ اليمينية، تَوحَّدَت قوى اليسار من جديد وشَكَّلَت حِزبَ الجبهةِ الشعبية الذي فاز في انتخابات فبراير 1936، عندها وصل الاحتقان السياسي أقصاه، ورأى كُلُّ طرفٍ الطرفَ الآخر كعدوٍ وليس مُجرَّد خصمٍ سياسي، فكثرت الاغتيالات، وساد العنف، وصارت الخلافات السياسية تُسوَّى بالرصاص.
لمحات عن الحرب والأطراف المتنازعة
استغلت مجموعةٌ من جنرالات الجيش هذا المناخ المُحتقن والمتوتر الذي يسود البلاد، وخططوا لانقلابٍ على حكومةِ الجبهةِ الشعبيةِ المُنتخبة، وفي الثامن عشر من يوليو قاد الجنرال فرانكو قواتَ الفيلقِ الأفريقي، ليبدأ الانقلاب من المغرب الإسباني، وخلال أربعةِ أيامٍ من إعلان الانقلاب، سيطر المتمردون على ثلث مساحة البلاد، في البداية رفضت الحكومة الاعتراف بخطورة الوضع ظنًّا منها أن الأمرَ لن يتجاوز كونه مُجرَّدَ تَمرُّدٍ عشوائي يسهل السيطرة عليه. ولكن أمام المخططات الدقيقة للانقلابيين، لجأت الحكومة لتسليح المواطنين للدفاع عن الجمهورية، وبهذه الخطوة تَحوَّل المشهد من انقلابٍ عسكريٍّ إلى حربٍ طاحنةٍ استمرَّت ثلاث سنوات بين أبناء الوطن الواحد الذين لم يجدوا مفرًّا من الانحياز إلى أحد الفريقين المتنازعين، وهم الجمهوريون المدافعون عن الجمهورية الإسبانية والحكومة الشرعية من أحزاب اليسار والعمال والفلاحين وبعض ضباط الجيش الذين لم ينضموا لتمرُّد فرانكو ورفاقه، وعلى الجانب الآخر كان فريق فرانكو وجنرالات الجيش المعترضين على سياسات الجمهوريين بالإضافة إلى مُلَّاك الأراضي ورجال الدين وأحزاب اليمين والقوى المحافظة.
في بداية الأمر لم يحرز أيٌّ من الطرفين انتصارًا سريعًا، وكان من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع، رغم أنه لُوحِظَ تفوُّق فرانكو وأنصاره من الناحيةِ التنظيمية، فقد كان أغلب المُقاتلين في الصف الجمهوري من الفلاحين والعمال غير المدربين على استخدام السلاح، ولكن مَثَّل تَدخُّل كلٍّ من إيطاليا وألمانيا عاملًا مِحوريًّا لقلب موازين القوى في الحرب الأهلية الإسبانية، باعترافهم بحكومة فرانكو وإمداده بالسلاح، مخالفين بذلك سياسة عدم التدخل التي وضعتها فرنسا ووقَّع عليها البَلدَان المذكوران وبريطانيا والاتحاد السوفيتي الذي أمَدَّ الجمهورين بالسلاح مُخالفًا هو الآخر تلك السياسة.
استقطبت الحرب الأهلية أكثر من أربعين ألف متطوعٍ من الدولِ الأوروبية المختلفة، الذين رأوا في مشاركتهم دفاعًا عن مبادئ سامية كالحرية والديمقراطية ضد الفاشية التي كانت تغزو أوروبا، فشكَّلوا مجموعاتٍ مُسلَّحة قاتلت بجانب الجمهورية تحت مُسمَّى الألْوِية -جمع لواء، وهو مجموعة من الكتائب- الدولية (International Brigades) التي لعبت دورًا أساسيًا في الحرب وساندت الجمهورية في معاركَ حاسمة كمعركة مدريد.
على مدارِ سنواتِ الحرب، غابت الحلول السياسية عن المشهد وأصبحت لغة العنف هي المهيمنة على الأحداث، ولكن أغلب الظن أن ضحايا الجمهوريين أكثر من ضحايا الجانب الآخر، على الرغم من أنه في المراحل الأولى للحرب شُوهِدَت مظاهر قوية للعنف من الجانب الموالي للجمهورية، خاصةً في برشلونة التي غابت عنها سلطة القانون بالكامل وسيطر عليها الفوضويون المسلحون، فكانت تتم تصفية كل من لا يُثبت ولائه للجمهورية. على صعيدٍ آخر، ظهر عنف الوطنيين جليًّا بعد تنصيب فرانكو لنفسه رئيسًا للبلاد في الأول من أكتوبر عام 1936 م، وإعدامه ما يقرب من 20 ألفٍ ممن ينتسبون للجانب الجمهوري، وكان مِمَّن أُعدِمَ في هذه الأثناء الشاعر والكاتب المسرحي الأندلسي جارثيا لوركا ((Garcia Lorca.
تحولت إسبانيا لحقلِ تجارب للأسلحة الألمانية والإيطالية الجديدة، فقد قصفت الطائرات الألمانية مدينة (جرونيكا) التي لم تكن هدفًا استراتيجيًّا، وذلك بغرض تدريب الطيارين الألمان واختبار كفائتهم القتالية، وقد نجم عن هذا القصف مقتل ألفي شخص وجرح تسعمائة في واحدةٍ من أكثر الأحداث دمويةً.
النتائج
انتهت الحرب الأهلية في الأول من أبريل عام 1939 م بهزيمة الجمهوريين بعد الاعتراف الدولي بحكومة فرانكو، خَلَّفَت الحرب ما يقرب من نصف مليون قتيل ولجوء الآلاف إلى الحدود الفرنسية، لتعيش إسبانيا منذ ذلك الحين ستة وثلاثين عامًا من تقيُّد وقمع الحريات السياسية والفكرية، فلم يكن أحدٌ يستطيع أن يُظهر أيَّ نوعٍ من الرفض أو السخط على الحكومة أو الكنيسة، أو يتناول أحداثَ الحرب بطريقةٍ مخالفة لرؤية الحكومة، لذلك اضطر الإسبان أن ينتظروا حتى سبعينيات القرن العشرين بعد موت فرانكو للبحث في أصول النزاع وردءِ الصدع المجتمعي الذي أحدثته الحرب.
المصادر:
1-Spanish Civil War | Definition، Causes، Summary، & Facts [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Mar 1]. Available from: https://www.britannica.com/event/Spanish-Civil-War
2-Abd el-Krim | Berber leader [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Mar 1]. Available from: https://www.britannica.com/biography/Abd-el-Krim
3-Spain | Facts، Culture، History، & Points of Interest – Primo de Rivera (1923–30) and the Second Republic (1931–36) [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Mar 1]. Available from: https://www.britannica.com/place/Spain/Primo-de-Rivera-1923-30-and-the-Second-Republic-1931-36
4-Spain | Facts، Culture، History، & Points of Interest – Franco’s Spain، 1939–75 [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Mar 1]. Available from: https://www.britannica.com/place/Spain/Francos-Spain-1939-75
5-Guernica | Spain | Britannica.com [Internet]. [cited 2018 Mar 1]. Available from: https://www.britannica.com/place/Guernica-Spain
6-Termina la Guerra Civil Española [Internet]. Historia. 2006 [cited 2018 Mar 1]. Available from: http://canalhistoria.es/hoy-en-la-historia/termina-la-guerra-civil-espanola/
7-solitaryproletarian. The Spanish Civil War، Documentary Series (All Episodes) [Internet]. Another Proletarian. 2015 [cited 2018 Mar 1]. Available from: https://anotherproletarian.wordpress.com/2015/10/28/the-spanish-civil-war-documentary-series-all-episodes/
#الباحثون المصريون