الأدب الإسباني
نود أن نشير بإيجاز إلى أهمية هذا الأدب وسمو مكانته بين مختلف الآداب العالمية.
كلمة «أدب إسباني» تشمل كل ما كُتب بالإسبانية سواء في إسبانيا أو في الدول الناطقة بالإسبانية.
على مر الزمان كانت إسبانيا مسرحًا لحضارات عريقة شرقية وغربية وكانت مركزًا ونقطة إنطلاق ثقافي وفني وأدبي تارة ومُستقبل مُبدع لتيارات سائدة تارةً أُخرى وبالتالي؛ كان الأدب الإسباني مزيجًا مُتميزًا من الأصالة والإبداع ولحنًا فريدًا يجمع بين الشرق والغرب.(1)
وما دمنا نتحدث عن الأدب الإسباني فكان لِزامًا أن نبدأ رحلتنا بـ «ثيربانتس»، الأديب الإسباني الأكثر شهرة.
حياة زاخرة بالأحداث
«ثق في الوقت؛ فدائمًا ما يمنحنا مخارج حلوة للكُرب المُرة، وتوكل على الإله من كل قلبك فكثيرًا ما يغمرنا بأمطار رحمته في الأوقات التي يجدب فيها الأمل».
لم تخرج هذه الكلمات من فم «ثيربانتس» كأديب بارع فحسب بل من أعماق إنسان عانى الكثير؛ فهي ليست مقولة منسوبة إليه فقط بل شرح موجز لفلسفته في الحياة.
يقول الكاتب «خوليو مانويل دي لا روسا» (Julio Manuel De La Rosa): «حياة ثيربانتس لغز وأفضل رواية نُقلت عنه».(2)
لم يُبالغ هذا الكاتب في وصف حياة «ثيربانتس» الشخصية، فحياته دراما مكتملة الأركان. تجرّع «ثيربانتس» طوال حياته ألوان المعاناة النفسية والجسدية وصمد ووقف أمامها موقف الإنسان الصبور النبيل الجلد. ونلح في كلمة إنسان؛ لأن المعاناة دائمًا ما تقتل في حاملها معاني الإنسانية وتكسوه ثوب الشخص المتحجر القلب الكئيب الذي يرى هموم الغير بعين لا مبالية، أما «ثيربانتس» فلا، فقد ضحك في وجه الأحزان ونسج منها خيوطًا أدبية خلّدها الزمان، وظل محبًا للحياة مدافعًا عن الحرية حتى النهاية.
الولادة والنشأة
«ميجيل دي ثيربانتس سابيدرا» (Miguel de Cervantes Saavedra) المولود عام (1547م) بـ« ألكالا دي إينارس» (Alcalá de Henares)، الابن الرابع بين سبعة لطبيب أعشاب بسيط ذا أصول نبيلة. انتقل مع عائلته إلى بلد الوليد (Valladolid) سنة (1551م) ثم إلي مدريد عام (1566م)، لم يق هذا الأصل والده من الحبس ومُصادرة الأموال بسبب الديون. تضاربت الأقوال حول المكان الذي تلقى فيه «ثيربانتس» تعليمه الأول، ولكن من المؤكد أنه تلقاه في مدرسة يسوعية، ويؤيد هذا الرأي الوصف المُدرج في أحد أعماله الروائية، حوار الكلاب (El coloquio de los perros) كما أنه لم يُثبت أنه وصل في مراحل تعليمه لما يعادل التعليم الجامعي في عصرنا الحالي. بدأ مسيرته كشاعر وكانت أولى مؤلفاته عبارة عن مؤلفات شعرية في مدح «إيسابيل دي باليوس » (Isabel de Valois) زوجة الملك «فيليب الثاني» (Felipe II)، وذلك في بدايات العشرينيات من عمره.(3)
سجن وحرب واغتراب
فرّ هاربًا إلى روما عام (1569م) من حكم بالسجن، وبتر يده اليمنى بسبب مشاجرة مع «أنتونيو دي سيجورا» (Antonio de Segura)، كان يتم تطبيق هذ الحكم حينها على كل من يُشهر السلاح على مقربة من أماكن الإقامة الملكية. بالرغم من ذلك، ساعد تواجده في إيطاليا طوال خمس سنوات على تشرب الكاتب لروح حركة النهضة من منابعها.(3)
شارك ببسالة كجندي في معركة «ليبانت» ضد الدولة العثمانية والتي على إثرها تلقى جروح خطيرة في صدره ويده اليسرى مما جعل هذه اليد أشلاء. لم تكن هذه المعركة حدثًا عابرًا في حياة «ميجيل دي ثيربانتس» حيث أشار إليها في مقدمة الجزء الثاني من «الكيخوتي»: «الحدث الأبرز الذي شهدته القرون الماضية والحاضرة، فلم ينتظر عودة ناجين».(3)
بعد إنتهاء الحرب، هم «ثيربانتس» بالعودة إلى وطنه (إسبانيا) بعد أن ذاق الآم الغربة وويلات الحرب، لكن أنّى له ذلك وقد أُسر من قِبل قراصنة بربريين وظل في الأسر مدة خمس سنوات. لم تسكن أو تهدأ روح «ثيربانتس» المحبة للحرية طيلة مدة الأسر فقد حاول الهرب أربع مرات ولكنه أخفق. الجدير بالذكر أنه في كل محاولاته للهرب كان يعترف على نفسه في حالة القبض عليه محملًا نفسه كامل المسؤولية لكي يخلص رفاقه من العقاب ويتحمل العقاب وحده. تمضي السنون وتُدفع الفدية ويرجع الفضل في ذلك لتدخل بعض القساوسة، بعد محاولات والدته المستميتة لتخليصه من الأسر.(3)
يعود «ثيربانتس» إلى الديار، لكن الهموم والديون والمشكلات لم تكف عن ملاحقته، فقد عانى من مشاكل مادية بسبب تراكم الديون والحالة الاقتصادية السيئة التي مرت بها إسبانيا في هذه الحقبة، مما اضطره إلى السفر للبرتغال لتحسين أوضاعه المعيشية ورد ما دفعه أهله من فديه لتخليصه من الأسر في عام (1581م)، والتقى هناك بـ «آنا فرانكا دي روخاس» (Ana Franca de Rojas) وكان على علاقة بها، وأنجب منها ابنته الوحيدة «إيسابيل» (Isabel)، والتي قامت والدته على رعايتها. عام (1584م) تزوج من «كاتالينا دي سالثار إي بالاثيوس» (Catalina de salzar y palacios) فتاة ريفية لم تُكمل العشرين.(3)
كتب في تلك الفترة من (1581م) إلى (1584م) رواية «جالاتيا» (Galatea) -أول عمل مطبوع لـ «ثيربانتس»- وهي رواية رعوية على النمط السائد في عصره ساهمت في إبراز «ثيربانتس» ككاتب.(3) على إثر النجاح التي حققته هذه الرواية؛ شرع «ثيربانتس» في كتابة بعض الأعمال المسرحية مُتبعًا المدرسة التقليدية في المسرح، لكن وجود كاتب مسرحي بثقل «لوبي دي بيجا» (Lope de Vega) لم تحقق له الشهرة المرجوة.(5)
شرع «ثيربانتس» في مد علاقات مع كتاب معاصرين من عام (1585م) حتى عام (1600م) ، كما عمل كجامع للضرائب في تلك الفترة لصالح «الأرمادا» (Armada Invencible)* ، لكن الحظ العاثر لم يفارقه فقد اتهم ظلمًا بحوز بعض القمح الذي يجمعه لصالحه مما أدى إلى مُكثه في السجن مرةً أُخرى في «إشبيلية» (Sevilla). يُعتقد أنه في تلك الحقبة العصيبة بدأ تأليف الجزء الأول من رائعته الأدبية «الكيخوتي». حققت له هذه الرائعة الأدبية نجاح أدبي لكنها عجزت عن توفير الرخاء المادي، هذا النجاح الذي دفعه لتدوين أعمال هامة كسلسلة الروايات النموذجية ( Las novelas ejemplares) (3) والتي افتتحها بمقولته الشهيرة: «أنا أول من خط بقلمه روايات باللغة الإسبانية»؛ هذه السلسلة عبارة عن 12 رواية قصيرة ذات مغزى أخلاقي والتي عُدت بذرة الرواية القصيرة الإسبانية. حققت هذه الروايات نجاحًا مُنقطع النظير؛ فقد صدر 60 نسخة أصلية ومترجمة من هذه السلسة على مدار القرن السابع عشر.(4) كما ألف قصيدة بعنوان «رحلة إلى جبل بارناسوس» (El Viaje al Parnaso) والتي تجلى فيه عنصر السخرية المُميز لكتاباته. تدور القصيدة حول حلم والذي فيه يقوم «ثيربانتس» برحلة خيالية بصحبة جماعة من أفضل كتاب عصره لمساعدة الإله أبولو في منع الشعراء مُتدني المستوى من غزو هذه المنطقة المُقدسة.(6)
ختم الكاتب حياته الفنية برواية مغامرات على النمط البيزنطي؛ أعمال «بيرسيليس وسيخيسموندا» (Los trabajos de Persiles y Sigismunda) في بدايات عام (1616م). (3)
النهاية
نال «ثيربانتس» فيما بعد العديد من التكريمات والجوائز من شخصيات هامة في الدولة. بعد تلك الحياة الحافلة بالأحداث والمصاعب والنجاحات استلقى «ثيربانتس» على فراش المرض وفي زيارة لأحد الشخصيات الهامة الذي أقبل تكريمًا له وتلى عليه بعض الصلوات التي تتلى على المرضى ( مسحة المريض) كتب «ثيربانتس»: «أمس حصلت على مسحة المرضى واليوم أكتب هذا؛ الوقت قصير والمخاوف تزداد والأمل يتناقص، ومع كل ذلك أحيا على أمل أنه يجب أن أعيش»، ولقى مثواه الأخير في منزل بمدريد في عام (1616م).(5)
تحتفل الأكاديمية الملكية الأسبانية في الـ 22 من أبريل بذكرى وفاة أفضل من كتب بالقشتالية فتقوم بطباعة نسخ جديدة من أعماله الشهيرة، كما تقيم العديد من الاحتفالات بحضور شخصيات هامة على رأسهم ملك إسبانيا نفسه. يمتد صدى هذه الاحتفالات عالميًا حتى أن البابا «فرانشيكو» تسلم نسخة مُهداه من رواية «الكيخوتي» من قِبل الأكاديمية الملكية الإسبانية.(7)
*:الأسطول الإسباني في عهد الملك «فيليب الثاني» والذي هزم هزيمة نكراء أمام الأسطول البريطاني.
إعداد: رقية التهامي
مراجعة وتحرير: آلاء مرزوق
تصميم: محمد الجوهري
المصادر:
- LITERATURA ESPAÑOLA [Internet]. [cited 2018 Apr 14]. Available from: http://www.spanisharts.com/books/literature/literatura.htm
- La vida de Cervantes es un misterio, es su mejor novela [Internet]. [cited 2018 Apr 14]. Available from: http://www.diariodesevilla.es/entrevistas/vida-Cervantes-misterio-mejor-novela_0_841715826.html
3. Martin_de_Riquer_Cervantes_y_el_Quijote.pdf [Internet]. [cited 2018 Apr 14]. Available from: http://www.rae.es/sites/default/files/Martin_de_Riquer_Cervantes_y_el_Quijote.pdf
- Cervantes, las Novelas ejemplares y la narrativa de su tiempo [Internet]. [cited 2018 Apr 14]. Available from: http://www.unav.es/biblioteca/fondoantiguo/hufaexp30/03.html
- Miguel de Cervantes. Biografía. [Internet]. [cited 2018 Apr 14]. Available from: https://www.biografiasyvidas.com/monografia/cervantes/
- CIRILLO T. Nápoles en el «Viaje del Parnaso» cervantino y en dos parnasos partenopeos. :10.
- IV centenario de Miguel de Cervantes [Internet]. [cited 2018 Apr 14]. Available from: http://www.rae.es/la-institucion/iv-centenario-de-miguel-de-cervantes