يعتقد الكثيرون أن (تشارليز داروين – Charles Darwin) هو أول مَن توصًّل إلى فكرة التطوُّر، أو أنها هبطت عليه من السماء فقرر صياغة نظريته عن النشوء والارتقاء ليقلب علم الأحياء رأسًا على عقب، بل ليُحدث هزَّةً قوية في وعي الإنسان وفي نظرته لذاته وفي مكانته الحقيقية وسط الأنواع الحية الأخرى. ولكن لا، في الواقع فكرة التطور كانت موجودةً بالفعل من قبل داروين، ربما بآلاف السنين، وهذا ما سيفاجئ بعضنا في أغلب الظن. لقد حاز داروين نصيبَ الأسدِ من الشهرة لأنه هو من استطاع أن يجمع الأدلة العلمية التجريبية التي تدعم نظرية التطور ويضعها في كتابه الأشهر (أًصل الأنواع – Origin of species)، لذلك ارتبط اسمه بالنظرية، لكن الفكرة ذاتها الخاصة بتحوُّل الكائنات من نوعٍ لآخر لم تكُن بالجديدة، وهذا ما سنعرضه في مقالنا.
اليونان القديمة
لقد كانت فكرة التطور أو فكرة تحوُّل الكائنات الحية من نوعٍ لآخر متداولةً بشكلٍ ما في اليونان القديمة في حقبة ما قبل (سقراط – Socrates) أو ما يُطلق عليهم فلاسفة الطبيعة. تلك الحقبة من الفلسفة التي كانت تهتم بالطبيعة وبتفسير الظواهر الطبيعية عن طريق التأمُّل واستخدام المبادئ المنطقية الأولية والملاحظة البسيطة غير المبنية على أيِّ نوعٍ من المناهج التجريبية، حيث إننا نجد الفيلسوف الطبيعي (طاليس – Thales) الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد هو أول من قال صراحةً إن الماء هي الأصل في تكوين الموجودات الحية، وإنها الجوهر الأول الذي انبثق منه كل الأحياء(1)، وهذا ما سيؤكده العلم الحديث بعد ذلك بعشرات القرون بإثباته أن الخلايا الحية الأولى تكونت في البحيرات قبل ملايين السنين. ولم تكتفِ بلاد الإغريق بذلك، بل قدَّمت لنا تصوُّرًا هو الأول من نوعه في المقاربة مع نظرية التطور الداروينية، فقد أطلق الفيلسوف الطبيعي (أنكسمندريس – Anaximander) فكرته عن تحول الكائنات من نوع لآخر، والشيء بالشيء يُذكر أنه كان تلميذًا لطاليس، فقد قال أنكسمندريس إن جميع الكائنات الحية تكونت في الماء، ثم حين اشتد عودها وقويت استطاعت أن تخرج من الماء لتعيش على اليابسة. ولم يكُن الإنسان استثناءً من تلك القاعدة، لكنه وضع للبشر تصورًا مغايرًا قليلًا بقوله إنهم تكونوا في بطونِ كائناتٍ بحرية، وظلوا هناك لآلاف السنين، إلى أن استطاعوا الخروج والعيش على اليابسة(2).
يمكننا بالتأكيد أن نلمس بساطة تلك التصورات وافتقارها للمنهج العلمي، ولكن عامل الزمن يحيل بيننا وبين محاولة الانتقاص من تلك التصورات، بل بالأحرى يدفعنا إلى احترام هؤلاء الفلاسفة الذين تمكنوا بعقلهم المُجرَّد، وبدون أيِّ أدواتٍ تعاونهم في البحث، أن يصلوا لتلك الأفكار، وإن كان بشكلٍ بسيط ومُشوَّش، ولكن هذا ما سوف يُنير عقول من لحقوهم ويدفعهم من أجل البحث بشكلٍ أدق في صحة تلك الأفكار.
الحضارة الإسلامية
ربما سيُدهًش بعضٌ بأن للحضارة الإسلامية دور فعَّال في إرثاء التصورات والجذور الفكريّة لنظرية التطور! نعم، لقد كان للمفكرين والفلاسفة المسلمين مكانة مرموقة بين أوائل العلماء الذين اقتادتهم عقولهم إلى وضع أشكالٍ من التصورات لعملية التطور، فكان أول من تكلم في التطور من بين علماء المسلمين هم جماعة إخوان الصفا وخلَّان الوفا، وهي جماعة نشأت في القرن التاسع الميلادي في مدينة البصرة بالعراق، وكانت جماعةً سرية كتبت مجموعةً من الرسائل عُرِفَت بـ «رسائل إخوان الصفا»، اهتمت فيها بالأمور العلمية والفلسفية والعلوم الفقهية. فذَكَرَ إخوان الصفا أن هناك علاقة تراتبية بين الموجودات الحية، فاعتقدوا أن المعادن تأتي في المرتبة الدُنيا من الموجودات، وهي ليست حيةً بالطبع، لكنها تأتي في بداية الترتيب لأنها ستُشكِّل المنشأ الذي سيتطوَّر منه النبات وهو الشكل الأبسط للكائنات الحيّة. ثم يأتي بعده الحيوان الذي تطوَّر من النبات، وهو شكلٌ أكثر تعقيدًا من الكائنات الحية. وعلى رأس الهرم يأتي الإنسان الذي تطور من الحيوان بطبيعة الحال. ولم يكتفوا بذلك، فاستزادوا في الشرح بشكلٍ أدق يبعث على الانبهار، فقد شرحوا آليةً من آليات الانتقاء الطبيعي في النبات عن طريق شرح الأسباب الطبيعية التي أدَّت إلى ظهور الليف على أطراف سعف النخيل لكي تحميه من العوامل الجويّة(3)، وهذا الاستنتاج بالطبع كان سابقًا لأوانه بشكلٍ يدعو للدهشة.
وتبع ذلك كمال الدين الدميري، وهو عالم طبيعي مصري ولد في القرن الرابع عشر الميلادي، صاحب كتاب ضخم يُدعى «حياة الحيوان الكبرى»، وقد أعلن الدميري في كتابه أن الإنسان ما هو إلا نوعٌ من أنواع الحيوانات في شجاعة يُحسَد عليها آنذاك(4). وبعد ذلك، ظهر ابن خلدون في كتابه الخالد المعروف «مقدمة ابن خلدون»، الذي أعلن فيه بمنتهى الوضوح عن أفكاره الخاصة بالعلاقة التراتبية بين البشر والقردة بقوله:
واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرؤية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الفكر والرؤية بالعقل، وكان ذلك أول أُفق من الإنسان بعده. (5)
هذا الإعلان الواضح الصريح لم يكُن هو الأول من نوعه، فقد أعلن إخوان الصفا قبل ابن خلدون بعدَّة قرون عن نفس الفكرة ولكن ليس بنفس ذلك الوضوح (6). من خلال ذلك يُمكننا أن نرى مدى تأثير الحضارة الإسلامية على الفكر الغربي الخاص بنظرية التطور، فلا عجب إذا رأينا المستشرق الفرنسي (كَرَّا دي فو – Carra de Vaux) الذي عاش في القرن التاسع عشر يُعرب عن إعجابه الشديد بابن خلدون في كتابه (مفكروا الإسلام – Les penseurs de l’Islam) حيث يقول:
إن نزعة الاهتمام بالبحث في كل شيء في تاريخ النشوء والتطور وأسباب الحدوث والتقدُّم، تضع ابن خلدون كاتب القرن الرابع عشر الميلادي في مصاف أرقى العقليات في أوروبا الحالية. (7)
بالطبع المُفكرين السابق ذكرهم ما هم إلا مثالٌ ليس أكثر للعديد من المفكرين والفلاسفة الآخرين الذين تكلموا عن التطور في الحضارة الإسلامية، مثل ابن مسكويه والجاحظ وابن طفيل وغيرهم.
من لامارك إلى داروين
كانت العلوم الطبيعية في أوروبا مرتبطةً بشكلٍ كبير بعلم اللاهوت، فقد كان كتاب (التاريخ الطبيعي اللاهوتي – Natural Theology) لـ (ويليام بيلي – William Paley) المرجعَ الذي يفضله الأكثرية في علم الأحياء، ويحظى بتقديرٍ كبير من المجتمع الغربي ورجال الساسة والمجتمع، غير أنه كان هنالك مجموعةٌ من الباحثين الأكاديميين الذين لم يرتضوا ذلك التفسير الذي يُحيل تمايُز الأنواع إلى فعل مُعجزي، وكانوا يرتؤون أن اختلاف الأنواع ناجمٌ عن ظروفٍ طبيعية وبيئية أدَّت إلى ذلك التنوُّع الكبير بين الكائنات الحيَّة.
وكان أهمهم بلا شك هو عالم الأحياء الفرنسي (جان باتيست لامارك – Jean Baptiste de Lamarck) الذي أعلن في كتابه الأهم (فلسفة علم الأحياء – Philosophie zoologique) عن أفكاره الخاصة بتمايُز أنواع الحيوانات من خلال الظروف البيئية الخاصة بحياتهم، فقد كان أول مَن قال بإن كل أنواع الحيوانات بما فيها الإنسان مُنحدرة من أنواع أخرى تطوَّرت منها من خلال تطوُّرٍ بطيء مبني على آلية الانتقاء الطبيعي، وقد ضرب مثالًا بذلك في حيوان الزرافة، بأنها اكتسبت تلك الرقبة الطويلة لأنها تمد رأسها لأعلى من أجل الحصول على الطعام من الأشجار، وذلك أدى إلى انتخاب صفة طول الرقبة على مدار آلاف الأجيال(8).
حتى جاء تشارليز داروين بعد أن قام برحلته الأشهر على السفينة بيجل التي زار فيها العديد من سواحل أمريكا الجنوبية وأفريقيا وبعض الجزر في المحيط الأطلنطي وانتهت بعودته إلى أرض الوطن في شهر أكتوبر من عام 1836، وقد جمع الكثير من المعلومات والمشاهدات وقام بالعديد من المقارنات والأبحاث والتجارب والمُراسلات لمُختصين بمجال الأحياء لعدة سنوات قبل قيامه بجمع كل تلك المُلاحظات في الكتاب الأهم في تاريخ علم الأحياء أصل الأنواع، الذي نُشِرَ في عام 1859 ليُحدِثَ جَلَبَةً كبيرة في الأوساط البحثية والعامة على حدٍّ سواء.
وإلى الآن يُعتبر ذلك الكتاب من أهم الكتب التي غيرت ربما تاريخ الفكر الإنساني للأبد من خلال إسقاط فكرة مركزية الإنسان وتمايزه عن باقي الكائنات الحية، مثلما فعل عالم الفلك البولندي في القرن السادس عشر (نيكولاس كوبرنيكوس – Nicolaus Copernicus) بإسقاط فكرة مركزية الأرض وأنها ليست إلا جُرمٌ سماوي يدور حول الشمس مثل الكثير من أقرانه. وهكذا يستمر الفكر البشري في دحض التصورات المبنية على الغرور الإنساني وإحساسه بالتفوق على كل الموجودات من خلال اتباع مناهج المعرفة العلمية، والتأكيد على أن الإنسان ليس إلا جزءٌ صغير من الكل.
إعداد: مايكل ماهر
مراجعة: محمد فتحي
المصادر:
- تاريخ الفلسفة اليوناينة – يوسف كرم/ الفصل الأول، ص12
- المصدر السابق/ ص16
- رسائل إخوان الصفا/ الرسالة الحادية والعشرون (في أجناس النبات)
- موسوعة الحضارة العربية – عبد الرحمن بدوي/ الجيولوجيا عند العرب، الفصل الخامس، ص62
- المصدر السابق/ ص66
- رسائل إخوان الصفا/ الرسالة الحادية والعشرون (في أجناس النبات)
- موسوعة الحضارة العربية – عبد الرحمن بدوي/ الجيولوجيا عند العرب، الفصل الخامس، ص67
- أصل الأنواع – تشارليز داروين (ترجمة: مجدي محمود المليجي) عن تطوّر المعتقدات حول نشأة الأنواع الحية، ص38