حينَّما يُطلق لفظُ «فلسفة»، ففي الأغلب، أن أول ما يتبادر إلى الذهن؛ صورة بشكل أو بآخر عن الحضارة الإغريقية أو أحد أعلامها، وهذا يرجع إلى أهمية اليونان فهي مهد نشأة مطلع الفلسفة، وربَّ التفكير العقلي الأصيل، عبر طرح الأسئلة العامة، مع سُبل التجريد العقلي. وبالرغم من أن حضارة اليونان متأخرة زمنيًا عن حضارات مصر وبلاد الرافدين، إلا أن العقل اليوناني كان سباقًا إلى النزوع الفلسفي؛ وحب الاستطلاع والاستكشاف الذهني، وهذه النزعة الفضولية للفسلفة هي التي أحدثت البصمة الأعظم في تحرير العقول من أثر التفسيرات الأسطورية والخرافية للعقل الميثولوجي الإغريقي، فبعد ما كانت الإجابات حول العالم ومظاهر الطبيعة والحياة؛ مستمدة من التفسير الديني، الذي يعتمد على أطروحات قصصية جاهزة. أصبح باب التساؤلات مفتوح على مصراعيه أمام العقل؛ يستثيره لخوض مغامراته الأولى نحو تفسير فلسفي وعلمي للظواهر المحيطة. لذا كانت هذه القطيعة هي التي تَطرح فكرة إمكانية إدراك العقل البشري للطبيعة، دون الحاجة إلى التصورات الميثولوجية القديمة.
الميثولوجيا وتناغم الكوسموس
قديمًا، لم يكن للإنسان قدرة على قَصَد دروب التفكير العقلي المنظم، بل أنه كان يستعيض عنها باستعمال مَلَكة القصّ والتخيّل؛ عبر نسج السطور التي تحكي مرويات التكوين؛ الكون والحياة والآلهه والبشر. والأساطير هي في مقدمة المكونات الرئيسية للدين، فهي تلازم الطقوس، وتعبر عن الجانب الأدبي القصصي، لذا فهي لُب الإعتقادات الدينية، فالذهن الميثولوجي هو طريق اتخذته المسيرة البشرية في إحدى محاولاتها ومراحلها في الإجابة عن طبيعة الوجود وماهيته ومعناه. وتضفي الأساطير الإغريقية طابع النظام الكوني والتناغم بين الإنسان وظواهر الطبيعة والآلهه، وهذا ما سُميّ عند اليونانين «الكوسموس»، فالإنسان القديم يُعطي تفسير للتغيرات التي تحدث في ظواهر الطبيعة حتى يتمكن من طمس مظاهر الفوضى: «فقد اكتُشف في الطبيعة، منذ اقدم العصور، تغيرات منتظمة، كتعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول، ومع ذلك فإن التغيرات لم تفهم لأول مرة إلا في ضوء تفسير بشري ما (أسطوري/فوق طبيعي). فالأجرام السماوية آلهة، وقوى الطبيعة أرواح، صنعها الانسان على صورته»، هكذا كانت تعطي التصورات الأسطورية انطباعًا عن العالم، أنه ليس فوضى بل هو على العكس متناغم في شكل نظام كوني، لكلٍ منزلته ودوره. وتعتبر أشهر الملاحم الأسطورية المسجلة هما: «الإلياذة والأوذيسا» اللاتي تنسب إلى هوميروس –القصائد الهوميرية- وهما قصتين حول حرب طروادة، حيث نجد فيهما أفكارًا وأساطير في «الطبيعة والآلهة والإنسان والأخلاق»، ومع الشاعر الإغريقي الأخر هزيود في قصيدته «ثيوغونيا / أصل الآلهة»، يسرد نشأة الكون والآلهة، وتكوّن نظام الكوسموس الكوني، وتنعكس الثقافة الأسطورية في جَلّ أنحاء الحياة عند الإغريق كما نجدها في الفنون المسرحية والتراجيديا اليونانية.
نشأة الكوسموس في الميثولوجيا الاغريقية
ففي البدء كانت الفوضى (Chaos)، قوى العماء الكوني، ثم ظهرت الأرض «غيا» الإلهة الأم؛ وإيروس «الحُب الذي يُرقق القلب»، ومن غيا تنبثق بقية الألهة، في البداية ينشأ أورانوس إله السماء من رَحِم الأرض غيا ويكون هذا الإبن عشيقًا لها، ويبقيا متحدان وملتصقان، حيث يُغطيها أورانوس بالكامل ويجامعان بعضهما بلا انقطاع، ومن هذا الاتحاد سيولد ثلاث مجموعات من الألهة: الجبابرة والسيكلوب والهيكاتنشير، ويظل هؤلاء الأبناء محبوسون في بطن غيا، وذلك لأن أورانوس يخشى على مكانته وسلطته من أن تُسلب مِنه، لكن غيا تتأمر وتوحي إلى الشاب كرونوس أصغر الجبابرة، فيقوم بقطع قضيب أبيه أورانوس أثناء إيلاجه مع أمه غيا، وبذلك ينفصل أورانوس عن غيا، ويعرج إلى الأعلى، ومن هذا الوضع تكون نشأة المكان والزمان، ويصبح كرونوس إله الزمان، وتوالت عمليات الخلق، وتقلد كرونوس الحكم ثم تزوج أخته ريا، ولكن فور ولادتها لأطفالها، يقوم كرونوس بإبتلاعهم خِشية أن يُفعل به كما فَعل مع أبوه. حزنت ريا، وناشدت والديها أورانوس وغيا أن يساعداها لكي تنقذ طفلها الأخير «زيوس»، فأخذت غيا الطفل الوليد لترعاه بينما قدمت ريا حجرا في قطعة من القماش إلى كرونوس، فلم يَرتب في الأمر وابتلعه على الفور. هكذا نأى زيوس الصغير بنفسه عن قسوة والده، وحالما بلغ زيوس مبلغ الرجال وضع خطة لإنزال العقاب بوالده؛ «وبعد أن دحرته قوة زيوس، طُرد كرونوس من السماء وألقي في أعماق الكون»، ولكن لم ينته الأمر، حيث ثار غضب ألهة التيتان (الجبابرة) والعمالقة، وصار صراع جديد ضد زيوس وأخواته الناجون، وهكذا في المراحل الأولى من العالم، كان الاضطراب سائدًا، وكانت المادة لا تزال متمردة، ولكن مع تفوق زيوس الدائم والنهائي، قد استقرت الأوضاع وولد التناغم، وتأسس الكوسموس على يد زيوس الذي أصبح رئيس مجمع الألهة «بانثيون الأولمبوس». وبذلك قد انتهت حالة العنف والفوضى، وتقاسم زيوس العالم بشكل عادل مع الألهة، ورد لكل واحد ما له، وبذلك تكون نظرة العقل الميثولوجي إلى العالم مليئة بالتناغم والنظام الذي هو كإنسان جزء منه، وله دور منوط به الإنسجام في ظل هذا التناغم، ولذا نجد أن الميثولوجيا اليونانية تَحمل الكثير من المعاني للكون ولوجود الإنسان.
نشأة الفلسفة من رَحِم الميثولوجيا
بيد أن هذا النظام الكوني الكوسمولوجي الذي يمثل أساس الرؤية الأسطورية، هو الذي سَيُعاد استعماله بشكل أو بآخر؛ ويُحول إلى خطاب فلسفي، فعلى حد تعبير الأستاذ لوك فيري: استعيد هذا الجواب ونُقل وتمت عَلمنته -أي تخليصه من الآلهة- في خطاب مفهومي ومدعم بحجج عقلية من قبل مفكريين كبار ينتمون للتقليد الفلسفي اليوناني. فعملية الانتقال من الميثولوجيا إلى الفلسفة والتي أطلق عليها «المعجزة اليونانية»، سنراها أول المذاهب الفلسفية في مرحلة نشوء الفلسفة –أي القبلسُقراطية- كيف اهتم أوائل الفلاسفة بتفسير الظواهر الطبيعية، وبالنظر والملاحظة عن طريق التجريد في البحث عن أصل الكون والمادة، والشغف بمعرفة ما هي المكونات الأولى للعالم، فإذا كانت الميثولوجيا تُرجع أصل الكون لألهة غير مشخصة كأورانوس يرمز للسماء و غايا ترمز إلى الأرض وبونتوس إلى البحر، فإن التفكير الفلسفي في مرحلة النشوء قد نظر إلى ما وراء الميثولوجيا، فقد تم تجريدها وعلمنتها، ورد التفسير إلى العناصر الطبيعية فقط. ولقد ساهمت طبيعة المناخ الاقتصادي ذو الطابع التجاري واستقرار الأوضاع السياسية والنزوع نحو طرق الديموقراطية في الحكم السياسي؛ في توفير بيئة خصبة لبروز الاهتمام بالتفكير العقلاني.
فلسفة ما قبل سقراط
بدأت حركة الفكر الفلسفي في الظهور مع القرن السادس ق.م، على سواحل أيونية إلى إيطاليا الجنوبية وصقلية، وقد تفرعت إلى عددة اتجاهات مختلفة، منهم مَن أولى النظر إلى العالم الخارجي وتفسير الظواهر الطبيعية وحقيقة الأشياء وأصل ومصدر المادة وهم: «المدرسة الأيونيةۚ» التي تمثل بذرة العلم الطبيعي، ومجموعة ثانية اتجهوا نحو الاهتمام بالنظام في الكون والتصور الرياضي والعددي للعالم وهم: «المدرسة الفيثاغورسية» الذين أفادوا الفكر الإنساني في المعرفة الرياضية والفلكية، وإما اتجاه أخر اعتنى بفكرة الوجود والعقل وابتعد عن التفسير الطبيعي إلى ما فوقه وهم: «المدرسة الإيلية»؛ إذ كانوا هم أول من أسس الفلسفة الميتافيزيقية. ونلاحظ أن الثلاث محاور الفلسفية ذات المنطلقات المتباينة، تنبع من داخل الموروث الميثولوجي، حيث نجد أن الموضوعات المعرفية كما هي، وما تغير هو طريقة التفكير، فعوضًا عن تفسير حركة الأشياء وتغيرها من خلال اضفاء طابع مشخص وتخيل أسطوري، يعبر عن عجز العقل وقصره على معرفة طبيعة الأشياء، إلى الإيمان بقدرة العقل على إمكانية معرفة الظواهر الطبيعية، وتقديم المحاولات الفكرية من نظريات وفرضيات تشرح عمل الأشياء وتناغمها، وكذلك موضوع «النظام» وما يمثله من أهمية في الكوسموس الميثولوجي.
المدرسة الطبيعية (الأيونية)
كما وسبق وذكرنا، أن الفلسفة هي القدرة على طرح الأسئلة، لذا يعتبر طاليس الذي نشأ في ملطية على ساحل أيونية، وكان يعتبر من الحكماء السبعة في الإرث اليوناني، هو أول من مارس التفلسف، وطرح أول سؤال؛ ما مصدر مادة الكون؟ وذهب طاليس إلى أن المادة الأولية وجوهر كل الأشياء هي الماء، «إن الأشياء جميعًا جاءت من الماء»، ونلاحظ أن هذه الإجابة لم تكن جديدة، حيث أنها موجودة في أساطير هوميروس الإغريقية، وفي ميثولوجيا الحضارات الأخرى، كبابل ومصر وفي ألواح التوراة، لكن ما يختلف بشكل رئيسي هو الطريق الذي إتخذه طاليس للتدليل على الإجابة وهو منهج الملاحظة والاستقراء والبرهنة، أي أنه قام بإبعاد تفسير القوى الطبيعية عن رواية الآلهة والأساطير، إنما نظر إليها على أنها أشياء محسوسة يمكن معرفتها بالملاحظة والتجربة. وسار على هذا النهج الفلسفي من بعده تلميذه أنكسيمندرس، ولكنه انتقد نظريته في اختيار الماء، ورأى أنه لا يصلح بأن يكون مبدأ أول، لأن المبدأ الأول لا يمكن أن يكون متعين، فذهب إلى أن المادة الأولية هي «الأبيرون» أي اللامحدودة أو اللامنتاهية، وقال أنها لا متناهية بمعنين: من حيث الكيف، أي لا معينة، ومن حيث الكم، أي لا محدودة، فهي مزيج الأضداد جميعًا، كالحار والبارد و الرطب واليابس. أما الجدير بالذكر، بأنه يفسر أصل وجود الإنسان من منظور تطوري، ويبرهن على ذلك حينها من خلال برهان الخلف: أي أنه يلاحظ أن الإنسان يحتاج مِن صِغره إلى رعاية ولذلك يستنتج أنه لو كان على ما هو عليه، لما كان استمر في البقاء، فالإنسان هو آتٍ من أسلاف، ويرى أن أصل الإنسان يرجع إلى أسماك البحر. وجاء الفيلسوف الثالث، تلميذ أنكسمندرس وهو: أناكسيمنس الذي رأى أن الهواء هو أصل كل شيء، فهو يرى أن «الهواء هو قوام النفس»، فالهواء لا متناهٍ، يُحيط بالعالم ويَحمل الأرض، وتنشأ المادة منه، عن طريق عملية التكاثف والتخلخل. بذلك كانت أهمية المدرسة الأيونية في طرح المنهج الفلسفي في التساؤل، وهذا يفوق أهمية الإجابة وقتئذٍ، فلقد مثلت مهد الفلسفة والعلم.
المدرسة الرياضية (الفيثاغورسية)
«لستُ حكيمًا، فإن الحكمة لا تُضاف لغير الألهة، وما أنا إلا فيلسوف (أي مُحب للحكمة)»
تُنسب هذه العبارة إلى الفيلسوف فيثاغورس، فإنه أول من أَطلق لفظ «فلسفة»، وقد أسس فيثاغورس فرقة دينية علمية ذات نظرة صوفية إلى العالم، وذلك تأثرًا بالديانة الأورفية (إحدى صور ديانة يونانية قديمة)، كما أنه قد طاف كثيرًا بالشرق وتعرض للثقافات الروحية، فلقد كان يؤمن بالتناسخ وبتحريم أكل الحيوانات وبعض النباتات، وبالرغم من تلك النزعة الصوفية التي تهتم بالأخلاق والإصلاح الفردي والجماعي، إلا أن الفيثاغورسين كان لهم دور هام في ظهور تراث علمي ورياضي، فلقد اهتموا بالرياضيات والموسيقى والفلك، وقد كانت نظرة فيثاغورس إلى العالم تنهج نفس طريقة التجريد مثل المدرسة الأيونية لكن مع الابتعاد عن النظرة الطبيعية، «فرأوا أن العالم أشبه بعالم الأعداد منه بالماء أو النار أو التراب، وقالوا إنَّ مبادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، أو إنَّ الموجودات أعداد، وأن العالم عدد ونغم»، بذلك يكون العدد هو جوهر الأشياء ومصدر النظام والتناظر في تناغم الكون. ولقد كانت للفيثاغورسية تأثيرًا فيما بعد لما تحمله من تجاوز لحدود المادة من خلال المبادئ الرياضية (نظرية المُثُل الأفلاطونية)، كما أنهم أول من ذهبوا إلى القول بكروية الأرض وعدم مركزيتها، والذي أدى إلى نشوء نظرية أريستارخوس فيما بعد (كان متأثرًا بفلسفة الفيثاغورسين) عن المجموعة الشمسية، حيث الشمس مركز الكون والأرض وباقي الكواكب تدور من حولها.
المدرسة الما بعد طبيعية (الأيليون)
في مرحلة نزع التصورات الأسطورية والدينية عن العالم والحياة التي مرت بها الحركة الفكرية في مدن الإغريق، تأسست مدرسة ميتافيزيقية عقلية تبتعد عن الأساطير القديمة، في إيليا بجنوب ايطاليا، بل وأن أول فلاسفتها وهو أكسانوفان؛ والذي عُرف بتهكمه على الأديان وعلى عقائد الفيثاغورسيين، قد قال وقتئذ: «إنَّ الناس هم الذين استحدثوا الآلهة وأضافوا إليهم عواطفهم وصوتهم وهيئتهم»، وقد جاء تلميذه «بارمنيدس» والمؤسس الحقيقي لمذهب الإيلية؛ الذي ذهب إلى تجاوز عالم الظواهر والمحسوسات للمدرسة الأيونية، وعالم الأعداد والأشكال للمدرسة الفيثاغورسية، إلى موضوع الوجود الذي يُعرف عن طريق العقل وحده، فإن المعرفة العقلية عنده هي يقينية ثابتة أما معرفة الحواس هي ظنية متغيرة. وقبل استكمال أساس فلسفته، لابد أن نتوقف عند فيلسوف معاصر له، فهو يعتبر من أهم فلاسفة القبلسقراطيين والذي يقف على طرف متنافر مع بارمنيدس الذي انتقده الأخير، وبنى على أثر ذلك فلسفته عن الوجود، إنه: «هيراقليطس» الذي اشتهر باحتقاره للعامة وللمعتقدات الدينية والأسطورية والمعارف التقليدية، وقد سار هيراقليطس على غرار مذهب الطبيعية في وضع مبدأ أول للأشياء وهو النار، لكنه اختلف من حيث الصورة، فلم يعني بها النار المحسوسة المادية التي نستخدمها، بل إنما هي جوهر أزلي ومبدأ كلي عام، هي قانون العالم «اللوغوس»، كما أن رمز النار المجازي يدل على ماهية مُلخص مذهبه، ألا وأن النار أسرع حركة وأدل على التغير، فهو يرى أن الأشياء في صيرورة تغير مستمر ولا شيء يظل ساكنًا، فمن حيث استعمل مفهوم صراع الأضداد من نموذج أبيرون انكسمندرس، في تفسير حركة الأشياء، إذ يقول: «إنك لا تسطيع ابدا أن تنزل في النهر نفسه مرتين، لأن مياها جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع»، فهذا يعني أنه ليس لوضعٍ أن يبقى على حاله، إنما كل الأشياء في صيرورة دائمة.
وكما انتقد بارمنيدس قدرة الحواس على المعرفة، وبذلك رفض المبدأ الأول المادي للمدرسة الأيونية، فقد رأى الوجود ثابت وساكن على عكس هيراقليطس، فالتغير عنده يعني أن هناك وجود ولا وجود في نفس الآن ونظر إلى العالم وكأنه ما هو إلا كرةً مادية متصلة (كرة كونية) بلا زمان ولا حركة ولا تغير، فهو لا يرى أي حقيقة سوى الوجود: «فهو موجود ولا يمكن ألا يوجد»، وجاء تلميذ بارمنيدس؛ «زينون الأيلي»، لكي يرسخ لمذهب الوجود الساكن ويورد الحجج الجدلية في امتناع الكثرة والحركة.
المدرسة الذرية (العلم الطبيعي مجددًا)
يمكننا القول أن المدرسة الذرية هي اتجاه توفيقي، حيث أنها انطلقت من العلم الطبيعي إلى التوفيق بين القطبين المتنافرين؛ بارمنيدس وهيراقليطس، وهذا ما يلاحظ بشكل جَلِيّ من خلال نظريتهم الفلسفية الآلية، ولكن قبل عرض ما ذهبوا إليه، يجدر الإشارة إلى أنبادوقليس الفيلسوف؛ الذي سعى للتوفيق بين أراء الأيونية والإيلية.
اختلف أنبادوقليس عن فلاسفة الطبيعة الأوائل، حيث لم يرد أصل المادة إلى عنصر واحد، بل إلى عدد من العناصر سويًا؛ «الماء والهواء والنار والتراب»، والذي يضم ويفرق تلك العناصر هما قوتين: المحبة والكراهية -يمكن أن تشبه مفهوم، التجاذب (+) والتنافر (-) باللغة المعاصرة؛ إذا نظرنا لهما من منظور الطبيعة المادية- فدورهما الجمع والتفريق بين العناصر. وهذا المذهب الذي يحاول الملائمة بين سكونية بارمنيدس وصيرورة هيراقليطس، سيكون بداية المجال لتبلور المذهب الذري الذي يجمع بين نقيضين في نموذج واحد. تأسست المدرسة الذرية على يد «لوقيبوس» وتلميذه «ديموقرطيس»، الذين بنو نموذجهم الذري على الاتفاق مع بارمنيدس والإيلين في أن الوجود هو الحقيقة، أي أنه ملاء، وأن الخلاء هو اللا وجود، وأن التغير والحركة يحتاجان شرطيًا إلى الفراغ. لكنهم قالا أن الفراغ أو العدم موجود، ومن هذه النقطة يحدث الحركة والتغير. هذا يعني أن الوجود في النموذج الذري يتكون من عدد غير متناهٍ من الجوهر الفرد «الذرة» (الجزء الذي لا يتجزأ) التي تمثل وحدات متجانسة ساكنة، غير متحركة على الإطلاق، أي يعني أن الذرة هنا هي مثل نموذج الكرة الكونية الثابتة لبارمنيدس، وهذه الذرات موجودة في فراغ غير متناهٍ تتحرك فيه، وبالحركة يحدث التغير (الكون والفساد)، بذلك تجمع المدرسة الذرية بين سكون بارمنيدس في الذرة التي لا يحدث بها أي تغير أو حركة، وبين صيرورة هيراقليطس حيث تتحرك الذرات فيما بينها في ظل الخلاء. وأخر نظرية ترتبط بالمدرسة الطبيعية، هي نظرية أناكساغوراس عن المادة، حيث قال؛ بقابليتها للانقسام إلى ما لا نهاية، فإن ما يكونها هي مبادئ لا متناهية، تحمل طبائع الأشياء المتباينة في الطبيعة؛ أي أن للأشياء ماهية وطبائع، وأن: «أي شيء يتولد من أي شيء»، وأن تركيب المواد يحصل من مبادئ متفاوتة النسب، فما يغلب من طبيعة تحدد نوعه، وسمّي هذه الطبائع الأولى بـ«المتجانسات».
كانت هذه المدارس أول الغيث في حقل ثمار نشوء الفلسفة الأولى، فبعد هزيمة الفرس على يد اليونانيين، قد استقرت الأوضاع الاجتماعية وازدهرت الديموقراطية، واستدعت الأوضاع إلى ظهور ووجود الخطباء والمناقشات في كثير من المناحي، مما أفرز ذلك الوضع، فلسفة عملية، بدأت بالسفسطائيين الذين اهتموا بالأوضاع السياسية وبالجدل الفلسفي القائم على الشك المطلق، «فالإنسان مقياس الأشياء جميعًا» كما قال بروتاغوراس، فهم بالطبع نتاج مترتب على مشكلة المعرفة الإنسانية التي أثيرت من قبل على يد هيراقليطس وبارمنيدس في موضوع الثقة بما يأتي عن طريق الحواس. وعلى الجانب الأخر ظهرت فلسفة سقراط الذي اتخذ طرق الجدل لبناء معرفة يقينية، ومن هنا بدأت مرحلة نضوج الفلسفة على يد أفلاطون وأرسطو أعلام الفلسفة الهيلينية بأكملها.
هكذا كان فجر الفلسفة الأولى يجهر بالبزوغ، فمن رحم الميثولوجيا، ولدت الفلسفة من مخاض طويل للعقل البشري، ظل قابعًا تحت سيطرة الخيال. ويرى البعض أن الشخصية اليونانية قبل عصر الفلسفة هي مزيج بين الموقف العقلي والموقف الانفعالي الغرائزي، فنجد برتراند راسل يؤكد على أن الملاحم الهومرية تعكس مواقف عقلية مسيطرة، فيقول: «والحق أن هذا يرمز، على نحو ما، لتوتر الروح اليونانية. فهذه الروح يتنازعها عنصران، أحدهما عقلي منظم،و الآخر غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة.»، في طبيعة الحال، لقد قدمت تلك الشخصية مفتاح التطور وحركة الفلسفة والعلم للبشرية جمعاء.
إعداد: عصام أسامة
مراجعة: مايكل ماهر
تحرير: سامح منصور
مراجع:
[1] موسوعة تاريخ الأديان، فراس السواح.
[2] تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم.
[3] حكمة الغرب، ج1، برتراند راسل.
[4] أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فيري.