دارت النقاشات في الآونة الأخيرة حول أعظم الروايات الأمريكية، ولا يمكن أن تتجنب هذه النقاشات التحفة الفنية للكاتب الأمريكي مارك توين «مغامرات هكلبيري فين». فهي تتبع -ظاهريًا- فتى مراهق يبحر تجاه الجنوب على طول نهر المسيسيبي، ولكن حرص مارك توين على أن يجمع بالرواية بعضًا من أهم مظاهر التهكم السائد في عصره.
فإذا كان المسعى الأدبي الأمريكي المناسب هو تصوير روح العصر في زمنه، وإرشاد الأميركيين للأفضل، فإن ذلك ما فعله توين بالضبط. وبطريقة ما، تجاوز هذا الهدف.
تعتبر رواية «مغامرات هكلبيري فين» واحدة من أولى الأعمال التي تجسد الإنجليزية الأمريكية اللافتة للنظر، المليئة باللهجة النابضة بالحياة والعامية.
ادّعى المؤلف العظيم، أحد أهم مؤلفي القرن العشرين، إرنست همنجواي أن كل الأدب الأمريكي الحديث يأتي من كتابٍ واحدٍ من تأليف مارك توين يُسمى «مغامرات هكلبيري فين». ولم يكن هناك أي شيء قبله، ولم يكن هناك شيء بذات جودته منذ ذلك الحين. فنحن ما زلنا نتعلم من كتاباته حتى اليوم.
مارك توين، وأول رواية أمريكية عظيمة
من الصعب المبالغة في التأثير الذي خلّفه مارك توين. فكما كتب إرنست همنجواي ذات مرة:
كل الأدب الأمريكي الحديث ينبع من كتاب واحد من تأليف مارك توين يُسمى مغامرات هكلبيري فين
والآن يستشهد العديد من النقاد بهذا العمل كأول رواية أمريكية عظيمة. في حين أن الغالبية العظمى من الناطقين بالإنجليزية قد سمعوا عن مارك توين، وروايتيه الأشهر «مغامرات توم سوير» و«مغامرات هكلبيري فين»، فربما لا يعرفون الكثير عن هذا المؤلف الأمريكي الكلاسيكي بقدر ما يظنون. وكبداية، فإن مارك توين ليس حتى اسمه الحقيقي.
ولد صامويل لانجورن كليمنس في 30 نوفمبر عام 1835، لوالديه (جين لامبتون) و(جون مارشال كليمنس/). نشأ على ضفاف نهر المسيسيبي في هانيبال بولاية ميزوري، حيث شكّلت ثقافة ومشهد طفولته إلهامًا كبيرًا للإعدادات التي خلقها لاحقًا في رواياته. (1)
واجهت عائلة توين الكثير من المصاعب والمعاناة خلال فترة صباه. وقبل أن يصل لسن المراهقة، واجه صدمات حقيقية؛ حيث واجه وفاة إثنين من أخواته وكذلك والده، وتسبب هذا في ترك ما تبقى من عائلته في ضائقة مالية شديدة. وليقدم المساعدة لعائلته، ترك توين -ذو الإحدى عشر عامًا- المدرسة، والتحق بأول وظيفة له كعامل للطباعة في صحيفة (Hannibal Courier).
وبينما لم يشعر توين بأي شغف أو احترام للصحافة، فقد بدأ بتجربة الكتابة الإبداعية في ذلك الوقت. ونُشرت أولى قصصه القصيرة (رجل إطفاء شجاع – A Gallant Fireman) عندما كان عمره خمسة عشر عامًا فحسب.
قرر توين، الذي فُتن بنهر المسيسيبي، أنه يريد العمل على مركب بخاري بعد لقائه مع القبطان هوراس بيكسبي أثناء رحلة إلى نيو أورليانز. بعد عامين من الدراسة والعمل الشاق، حصل توين على رخصة قيادة المركب البخاري في عام 1859.
حقق الوقت الذي قضاه في النهر توقعاته العالية. ثم وصف لاحقًا نهر الميسيسبى قائلًا:
أصبحت صفحة المياه، في الوقت المناسب، ككتاب رائع. كان كتاب بمثابة لغة ميتة للراكب الجاهل، لكنه أخبرني بما يدور بذهنه دون تحفظ، وقدّم أسراره العزيزة بوضوحٍ كما لو كان ينطقها بصوتٍ مرتفع. ولكنه ولم يكن كتابًا ليُقرأ مرةً واحدةً ثم يُلقى جانبًا؛ إذ أن لديه قصةً جديدةً يرويها كل يوم.
حتى اسم الشهرة، مارك توين، وُلد من نهر المسيسيبي، ولكنه لم يكن اسم الشهرة الوحيد الذي استخدمه توين في حياته. ففي بعض الأحيان وقّع خطاباته تحت اسم «توماس جيفرسون سنودجراس»، وعزا رسوماته الأولى إلى «جوش» المجهول.
عندما تسببت الحرب الأهلية في تعطيل التجارة على الأنهار، عاد مارك توين إلى العمل بالصحف ليكسب لقمة عيشه. فبدأ عمله كصحافي، ولكن قصة قصيرة شهيرة طُبعت في صحيفة نيويورك ساعدت في صُنع اسمه ككاتب روائي. نُشر كتابه الأول (الأبرياء في الخارج – The Innocents Abroad) في عام 1869، تلاه بعد ذلك بعامين «مغامرات توم سوير».
وبحلول زمن وفاته في عام 1910، كان قد كتب 28 كتابًا وخلّف وراءه العديد من القصص القصيرة والرسائل التي لا تزال تُدرّس حتى اليوم. وتراوحت أعماله بين القصص الفكاهية الطريفة التي تمتعت بروح الدعابة، وبين التعليقات الجدّية على القضايا الاجتماعية والظلم في زمنه.
عندما يتعلّق الأمر بمزج التسلية بالنشاط التعليمي، فإن توين كان خبيرًا، وألهم العديد من الروائيين الأميركيين الذين جاءوا بعده في السير على خطاه. (2)
شخصية مارك توين وحسّه الفكاهي
بقدر ما تطغى شخصيات المؤلفين، تلك الشخصيات العظيمة جدًا التي تهدد بالتغطية على أعمالهم ذاتها، يعد مارك توين أحد أبرز تلك الشخصيات في الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد توغل في أبعد الدوائر الاجتماعية غير المحتملة، واطّلع على أكثر المعلومات إثارةً للدهشة. بدا الأمر وكأنه امتلك بؤرةً للإحساس بالتطور والتقدم. كما أدى اهتمامه بالتكنولوجيا والاختراع (هناك ثلاثة براءات اختراع باسمه) إلى عقد اجتماعات مع العلماء نيكولا تسلا وتوماس أديسون.
إن ذكاء وفطنة وخفة دم وسحر توين في التعاملات الاجتماعية يضعونه كأمريكي في قدرٍ مساوٍ لـ أوسكار وايلد. فقد صمدت رؤيته اللاذعة أمام ضربات الزمن، كما صمد خياله أيضًا. ومع أن مارك توين قد يكون الشخصية التكوينية في المشهد الأدبي لأمريكا، فإنه يمكن أن يُنظر إليه أيضًا على أنه رائد مشهده الكوميدي أيضًا. وتكريمًا لهذا الإرث، يقدم مركز كنيدي كل عام جائزة مارك توين إلى الشخص تقديرًا لمساهمته في الكوميدية الأمريكية.
كان يُسخّر حسّه الفكاهي دائمًا من أجل السخرية من المؤلفين الآخرين؛ بعض انتقاداته كانت فظّة للغاية، مثل هجومه على الكاتبة (جين أوستن) حيث ادّعى أن روايتها (الفخر والإجحاف – Pride and Prejudice) أجبرته على أن يحفر قبرها ويضربها على جمجمتها بعظم ساقها. بينما كانت بعض الانتقادات الأخرى أكثر وضوحًا، كأشهر انتقاداته للكاتب (جيمس فنيمور كوبر) على قصته (قاتل الغزلان – Deerslayer) في مقالة بعنوان «جرائم أدبية». والتي أوجز توين بها قائمة من القواعد التي يجب أن تلتزم بها أعمال الرواية المناسبة، وأكمل ليشير إلى كيف انتهك كوبر الغالبية العظمى منهم.
يظل مارك توين مؤلف نابض بالحياة على نحو غير عادي خلال الفترة الزمنية التي عاشها. ووفقًا لرغبته، فإنه طلب أن تُنشر سيرة حياته كاملةً بعد مائة عام من وفاته. ليصدر الكتاب في عام 2010، ويستكمل هذا الشرف النادر لكونه مؤلفًا ينشر موادًا جديدة في ثلاثة قرون مختلفة. (3)
إعداد: محمد يوسف
المصادر:
https://bit.ly/2KDmYNy
https://bit.ly/2XuGWNl
https://bit.ly/2Xtk6FU