أصبح الاقتصاد السلوكي من أكثر المجالات تأثيراً في الساحة، ولطالما أكد الاقتصاديون على أهميته في إحداث التنمية، ليس فقط في المجالات المتعلقة بالاقتصاد بل أيضاً في مجالات أخرى مثل السياسات العامة للدولة، إذ يُعدّ من التوجهات الجديدة، وظهر له العديد من التطبيقات في البنوك وطرق فرض وتجميع الضرائب، وأثبت تطبيقه نجاحاً كبيراً في أمريكا وأستراليا وأيضاً في بعض الدول العربية التي تسعى إلى تطبيقه مثل لبنان. إنّ نجاح الاقتصاد السلوكي وتدخله في حل كثير من المشكلات جعل كثيراً من الدول تسعى إلى تطبيقه وإنشاء وحدات للتوجيه السلوكي.
الاقتصاد السلوكي
يُعد الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economics) من المجالات الحديثة في علم الاقتصاد، يمزج الرؤى النفسية والاقتصادية، إذ يقوم بدراسة صنع القرارات غير العقلانية لفهم لماذا يتخذ الناس القرارات التي تعمل ضد مصلحتهم الذاتية، معتبراً أن الناس لا يتصرفون وفقاً لمصلحتهم الخاصة، حيث يتأثر السلوك البشري بالتحيزات العاطفية والمعرفية والاجتماعية. ويقوم بفهم لماذا يتخذ الناس قرار (A) بدلاً من قرار (B)، بالإضافة إلى أنه يفترض أن بعض القرارات التي يتخذها الناس تكون بغرض تحقيق السعادة في الوقت الحالي على حساب مصلحتهم في الأجل الطويل، وأحد الأمثلة على ذلك هو لماذا يقوم بعض الشباب بشرب المواد المخدرة أو لماذا تفضل بعض الفئات مشروباً معيناً على أخر مع أنه بنفس السعر؟
الاقتصاد التقليدي
على عكس الاقتصاد التقليدي الذي يفترض أنّ الناس تعمل على تعظيم المنفعة الذاتية، ويختارون دائماً البديل الذي يصب في مصلحتهم، ويفكرون بعناية في الفوائد والتكاليف، وهم على علم تام بالآثار المترتبة على اختياراتهم، لا تتأثر قراراتهم بالعواطف أو أي مؤثر خارجي، وبالتالي تكون دائماً القرارات العقلانية هي الأمثل بالنسبة لهم. ويطلق علماء الاقتصاد على الشخص الذي يتصرف وفقاً لهذا الافتراض اسم الإنسان العاقل أو الاقتصادي (Homo Economicus)، ومن هنا تم الانتقاد والتشكيك في صحة هذا الافتراض من قبل علماء الاقتصاد السلوكي.[1]
إسهامات العلماء في تطوير الاقتصادي السلوكي
1. آدم سميث
نشر سميث عام 1776 كتاب ثروة الأمم، وافترض فيه أن السلوك الاقتصادي مدفوع بالمصلحة الذاتية، لكن قبل سبعة عشر عاماً، وبالتحديد عام 1759، اقترح سميث نظرية المشاعر الأخلاقية (The Theory of Moral Sentiments)، وافترض فيها أن سلوك الإنسان يتم تحديده من خلال الصراع بين ما أسماه (المشاعر) و(المتفرج المحايد)، إذ شملت المشاعر دوافع مثل الجوع، والعواطف مثل الخوف والغضب، والتحفيز كشعور بالألم. ومن هنا اعتبر سميث أن السلوك الانساني يكون تحت السيطرة المباشرة للمشاعر، ويعتقد أن الناس يمكنهم تجاوز السلوك المدفوع بالعاطفة من خلال النظر إلى سلوكهم الخاص من منظور خارجي “المتفرج المحايد”.[2]
2. دانيال كانمان وصديقه آموس تفرسكي
بدأ علم النفس يتسلل مرة أخرى إلى علم الاقتصاد، حيث قام دانيال وآموس (Daniel kahneman and Amos Tversky) بدراسة العلاقة بين اتخاذ القرارات المعرفية في حالات المخاطرة وعدم اليقين والنماذج السلوكية العقلانية، ويظهر ذلك في مقالة تم نشرها عام 1974 “الحكم في ظل عدم اليقين: الاستدلال والتحيز”(Judgment Under Uncertainty: Heuristics and Biases).
وفي سنة 1979 قاموا بنشر النظرية الاحتمالية (The Prospect Theory) التي كانت تقول إن الناس يتخذون قراراتهم بناء على القيمة المحتملة للخسائر والمكاسب بدلاً من النتيجة النهائية، وهي توضح أن الناس يفكرون بالمنفعة المتوقعة لأنهم يكرهون الخسارة، ولذلك يكونون أكثر استعداداً لتحمل المخاطر لتجنب الخسارة.
وفي عام 2002 حصل دانيال على جائزة نوبل لمساهمته في وجود رؤى متكاملة من الأبحاث النفسية في العلوم الاقتصادية، وبذلك أصبح دانيال أول عالم يحصل على جائز نوبل في مجال علم اقتصاد السلوك، ويكون أول من تحدث عن تداخل رؤى علم النفس والاقتصاد بشكل أوسع، وتكون أبحاثه حجر الأساس لكثير من العلماء للتحدث عن الاقتصاد السلوكي ومن أبرزهم ريتشارد إتش ثالر.[3]
3. ريتشارد إتش ثالر
ساهم ريتشارد إسهاماً كبيراً في وجود علم الاقتصاد السلوكي لكونه الأب المؤسس لهذا المجال، إذ كانت أبحاثه ذات تأثير عميق على العديد من مجالات البحث والسياسات الاقتصادية. قام ريتشارد بدراسة كيف تتحكم السمات الانسانية في القرارات الفردية وتأثيراتها على الأسواق ككل.
أُجري العديد من الأبحاث لإظهار مدى تدني قدرة البشر على التخطيط المالي طويل الأجل، فمعظم الناس مثلاً لا تخطط بما يكفي للتقاعد، كما تظهر مشكلة السمنة المتنامية مدى سوء تصرف البشر. قام ريتشارد بتأليف العديد من الكتب من أشهرها كتاب “سوء التصرف: صنع الاقتصاد السلوكي” (Misbehaving: The Making of Behavioral Economics) الذي اعتبرته مجلة Financial) (Time كواحد من أكثر ستة كتب تأثيراً في عام 2015، وكتاب (Nudge theory) الذي يُعتبر أفضل الكتب على الإطلاق. حصل ثالر على جائزة نوبل عام 2017 لمساهمته في نشأة العديد من المفاهيم الخاصة بالمجال السلوكي.[4]
نظرية الدفع أو النكز
الأساس الذي تقوم عليه نظرية الدفع أو النكز (The Nudging Theory) هو دفع أو توجيه الناس إلى قرارات أكثر حكمة ومساعدتهم على تحسين تفكيرهم. فكما أشرنا سابقاً إن البشر ليسوا عقلانيين، لذلك أكد ثالر وكاس صنشتاين في كتاب (Nudge: Improving Decisions about Health and Happiness) الذي تم نشره عام 2008 على أن البشر يحتاجون إلى التشجيع والدفع للحصول على ما هو أفضل سواء من أجلهم أو من أجل المجتمع ككل، وأكدا على أنه بدلاً من إجبارهم على سلوك معين، يمكن دفعهم لمتابعة أو الكف عن بعض الأعمال.[5]
- تحتوي النظرية على العديد من التطبيقات المتنوعة في المجالات التي تُؤثر على سلوك المواطن، مثل السياسة العامة والرعاية الصحية والتمويل الشخصي والتخطيط الاستثماري، والنظرية أيضاً ذات أهمية بشكل خاص للشركات والمسوّقين الذين يتطلعون إلى زيادة في المبيعات من خلال تشجيع التغيرات في السلوك الإنساني. تُعد وحدة (Whitehall) في بريطانيا أكبر مثال على نجاح نظرية الدفع نجاحاً ساحقاً، حيث استطاعت على مدار خمس سنوات توفير 300 مليون جنية إسترليني للحكومة، وساهمت أيضاً في تحصيل الضرائب المتأخرة من نسبة 1% إلى 17%، وذلك من خلال حسن استغلال مبادئ الاقتصاد السلوكي.[6]
إعداد: نجلاء محمود
مراجعة علميّة: شيرين صبيح
تدقيق لغوي: رؤى زيات
تحرير: سامح منصور
المصادر:
Moral Markets: The Critical Role of Values in the Economy -1
https://books.google.com.eg/books?id=6QrvmNo2qD4C&pg=PA158&redir_esc=y#v=onepage&q&f=false
Adam Smith, Behavioral Economist? – HBS Working Knowledge Harvard -2 .Business School
https://hbswk.hbs.edu/item/adam-smith-behavioral-economist
Daniel Kahneman – Biographical – NobelPrize.org -3
https://www.nobelprize.org/prizes/economic-sciences/2002/kahneman/biographical/
Richard Thaler wins Nobel Prize “for his contributions to behavioural -4 economics” https://news.uchicago.edu/story/richard-thaler-wins-nobel-prize-his-contributions-behavioural-economics
The Rise of Behavioral Economics and Its Influence on Organizations -5 https://hbr.org/2017/10/the-rise-of-behavioral-economics-and-its-influence-on-organizations
Economics for Everyone: The economics of nudge theory-Behavioral -6 Economics.