تخيل معي ..
أنت الآن جالس بغرفتك تتناول كوبًا من القهوة وتشاهد التلفاز، تخترق أصوات الصخب بالخارج فضاء الغرفة من النافذة المغلقة، تتوجه إليها وتفتحها، تنظر إلى السماء، حسنًا، الآن أغمض عينيك وتخيل أن في هذه اللحظة أنت، وكل شيء بداخل الغرفة وخارجها، المدينة والقارة والكوكب والمجرة والفضاء العامر بالمجرات -قابعون بداخل ثقب أسود. نهاية عالمنا لم تكن بفناء الأرض داخل ثقب أسود كما حسبنا بل أننا نحيا بداخله بالفعل!
ليس هذا فحسب، تخيل أن كل ما تعرفه عن الحياة الواقعية ليس في الواقع سوى وهم، كانعكاس صورتك في المرآة – حيث أن لا وجود مادي حقيقي بينما الوجود الحقيقي لك وللعالم عبارة عن شيفرات وأكواد رقمية معقدة للغاية كشيفرات الحاسوب الدقيقة بفيلم ماتريكس مبعثرة على سطح الثقب الأسود (أو أفق الحدث) الذي نحن بداخله، شيفرات تجسد بدقة كل مكون أو عنصر يشغل حيزًا من الفراغ في عالمنا من أصغر كوارك بداخل أصغر نواة ذرة حتى آخر شعاع ضوء ممتد إلى حدود كوننا المرئي، وعند سقوط الضوء على سطح هذا الثقب تتجسد صورة ثلاثية الأبعاد على بعد مناسب من السطح، صورة ثلاثية الأبعاد للبيانات المخزنة على السطح تمامًا كما في تقنية الهولوغرام.
وما الهولوغرام؟
الهولوغرام أو التصوير التجسيمي هي تقنية تمكن من إعادة تكوين صورة الأجسام بأبعادها الثلاثة في الفضاء باستخدام أشعة الليزر.كيف يحدث ذلك ؟ عند التقاء شعاعي ليزر يقوما بتوليد شبكة تداخل معقدة من الأشعة. شبكة يمكن تسجيلها على لوحة عرض ولكي نرى الصورة التي تم تسجيلها لابد أن نسلط شعاع ليزر على اللوحة، عندئذ يظهر جسم ثلاثي الأبعاد على بعد صغير من اللوحة. استخدمت تلك التقنية في فيلم “حرب النجوم” وفيلم “اوشن ١٢” في عملية سرقة أحد التحف لإيهام الناظرين أنها لا تزال في مكانها. إن كنت تملك بطاقة ائتمانية لأحد البنوك فأنت في الواقع تملك هولوغرامًا صغيرًا. تأمّل الفيلم البلاستيكي اللامع بأعلى البطاقة، ما تنظر إليه هو صورة مصمتة ثنائية الأبعاد من البلاستيك لكن عند تحريك البطاقة رأسيًا وأفقيًا ستلاحظ تشكل صورة ثلاثية الأبعاد بسبب نفاذ الضوء بداخلها.
فهل يكون عالمنا مجرد صورة هولوغرامية مجسمة غير حقيقية كتلك الموجودة على البطاقة؟ هل تخدعنا عقولنا في فهم المادي و الملموس بينما حياتنا الحقيقية المادية الملموسة في مكان آخر ؟ هل نحيا بداخل ثقب أسود ؟
السؤال ليس محض خيال علمي، بل هو أحد النظريات العلمية محل الجدل الكبير بين علماء الفيزياء، يدعمها “ليونارد سسكند-Leonard Susskind” عالم الفيزياء بجامعة ستانفورد و”چيرارد هوفت”Gerard’t Hooft- عالم الفيزياء النظرية بجامعة أوتريشت والحاصل على جائزة نوبل و “رافاييل بوسو – “Raphael Bousso عالم الفيزياء بجامعة كاليفورنيا، ويعارضها ” ستيفن هوكينج-Stephen Hawking”، لنحاول فهم ما يجري: إذا قمنا بإلقاء هاتف محمول ومحفظة نقود بداخل ثقب أسود، ماذا سيحدث؟ سيسافر الإثنان داخل ظلام وفضاء فارغ ويستمران بالسقوط في اتجاه مركز الثقب “”singularity، وعند الوصول إليه يتحطمان على الفور. السؤال الآن هو: أين تذهب المعلومات (الانتروبي)؟ من المعروف أن أي عنصر له ترتيب معين مميز من الجزيئات فأين تذهب تلك المعلومات التي صنعت تلك الجزيئات؟
في منتصف السبعينات، أثبت هوكينج أن الثقوب السوداء ليست “سوداء” بالكامل؛ لأنها تُخرِج إشعاعًا مستمرًا يؤدي في النهاية لـ”تبخر” الثقوب وزوالها بالكامل. سُمي الإشعاع باسم هوكينج “إشعاع هوكينج “Hawking Radiation، وحسب فرضية هوكينج فإن هذا الإشعاع لا يقوم بنقل أي مما يدور داخل الثقب؛ لذا عند زوال الثقب تزول كل المعلومات بالداخل. يزعم هوكينج أن الطاقة تبقى لكن المعلومات يتم تدميرها وتُفقد للأبد؛ فالثقب الأسود مكان تقع فيه الأشياء لكن لا شيء يخرج منه، الهاتف و المحفظة مصيرهما واحد وهو الزوال. عارض عدد كبير من علماء الفيزياء تلك الفرضية مما تسبب في نشوء معضلة في عالم الفيزياء سُميت ب”معضلة انتروبي الثقوب السوداء-Black hole information paradox”.
يستند العلماء في معارضتهم إلى أن فكرة تدمير المعلومات لا تبدو صحيحة، ولا تطابق أي شيء نعرفه عن الفيزياء. يؤكد هوفت أن الفيزياء في عالمنا قائمة على مبدأ بسيط وهو أن لا يمكن للمعلومات أن تُفقد أو تتبخر كأن لم تكن؛ فالمعلومات هي التمايز بين الأشياء، كل معلومة تخبرنا عن كيفية ترتيب الجزئيات داخل عنصر معين، ومن ثم ينشأ عنصر جديد. هناك هاتف وهناك محفظة، و كما يوجد هذا التمايز بالطبيعة لابد أن يوجد داخل الثقب حتى بعد زوال العنصر نفسه. إذا انتهى الشيئان لنفس النتيجة فنحن هنا نعارض نظرية الكم نفسها؛ لأن حسب ميكانيكا الكم إذا تمايزت البدايات تمايزت النهايات what starts differently ends differently.
هنا يتدخل المبدأ الهولوغرامي بفرضية في صالح ميكانيكا الكم. المعلومات لن تُفقد وسيتم الحفاظ عليها بشكل ما على سطح الثقب (أفق الحدث) .سجل المعلومات الكامل الدقيق لأي عنصر في شكله المادي المجسم ثلاثي الأبعاد محفوظ على هيئة شيفرة أو كود أشبه بكود الكمبيوتر الثنائي صفر واحد على السطح ثنائي الأبعاد، شيفرة مبعثرة معقدة للغاية ولكنها دقيقة وتحوي جميع التفاصيل بداخلها. وهذا ما جعل العلماء يتسائلون، ماذا لو انطبق ذات السيناريو على الكون بأكمله؟ كوننا المجسم ثلاثي الأبعاد، نحن، وكل شيء فيه، كل تلك المعلومات، ماذا لو أنها موجودة ومشفرة على سطح ثنائي الأبعاد محيط بنا وما نحن إلا صورة هولوغرامية لهذه البيانات البعيدة، تم تشكيلها عند تسليط الضوء عليها كما في الهولوغرام وتكفلت عقولنا لاحقًا بخلق الوعي والإدراك اللازمين لما يُسمى بالحياة الواقعية بينما حياتنا الحقيقية ليست إلا “داتا” رقمية قابعة الآن على سطح الثقب ثنائي الأبعاد. هل شاهدت فيلم ماتريكس؟ حسنًا، الفكرة قريبة جدا منه.
محاولات لحل اللغز:
ينضم اسم جديد للساحة هو “چيكوب بيكينشتاينBekenstein Jacob- Jacob ” عالم الفيزياء النظرية الإسرائيلي/الأمريكي الجنسية، والذي ساهم بشكل كبير في وضع بعض الحلول للمعضلة؛ حيث قام بوضع معادلات تفترض أن الثقوب السوداء هي أعلى انتروبي في هذا الكون، وأن قيم الانتروبي الخاصة بهم أعلى من أي شيء مكافئ لهم في الحجم، وأن المعلومات بداخل الثقب مكافئة للمعلومات على السطح مما دعم نظرية الهولوغرام في أن السطح بإمكانه تخزين معلومات(نفس حجم المعلومات بالداخل للمزيد من الدقة) ، وأن أفق الحدث الخاص بنا هو حدود الكون المرئي الذي لم يجد الضوء بعده الوقت الكافي للوصول إلينا خلال 13.7 بليون سنة من عمر الكون.
عيوب النظرية:
- النظرية وفقًا لهوفت لا تشرح السببية “causality”في التجسيم ثلاثي الأبعاد ، بمعنى أن هناك قوانين وقيم ثابتة في عالمنا..سرعة الضوء على سبيل المثال لها قيمة ثابتة لا تتغير أبدا، فلا يوجد تفسير لثبات القيم في الهولوغرام لأن من المفترض أن المعلومات بالداخل مبعثرة عشوائية، فمن أين أتت القوانين ؟
- النظرية وفقًا لبوسو لا تشرح مكانية الجزيئات locality”” بمعنى أدق لا تقدم شرح لطريقة تحرك الجزيئات في الطبيعة، وطريقة تشكل العناصر منها، أيضا بسبب عشوائية الهولوغرام.
- تفترض بعض المعادلات لأينشتاين وجود قيم للانتروبي أعلى من قيم الثقوب السوداء نفسها، مما يعارض الهولوغرامية ويهدم عمل بكنشتين وتُسمى في الفيزياء Wheeler’s bags of gold.
- لا يمكن إثبات النظرية رياضيًا بسبب تمدد الكون، و عدم وجود حد أقصى لأقصى مسافة يمكن أن تقطعها الجزيئاتhorizon” particle “في عمر هذا الكون.
إعداد/ترجمة : Mona Ghoneim
مراجعة : Abdallah Taha
المصادر:
Scientific American,pages 45 – 52 – August 2003, illustrated by Alfred T.Kamajian