في القرن الخامس عشر قبل الميلاد علم الملك (تحتمس الثالث) بتمرد المدن الكنعانية، وتكوينهم تحالف للخروج من سيطرة الدولة الفرعونية، فقاد جيشه للقضاء علي التمرد، تحصن جيش التحالف في مدينة (مجدو) فوق تل (مجدو) الذي يبلغ ارتفاعه 60 متر، ويتحكم في مدخل سهل مرج ابن عامر في شمال فلسطين علي الطريق بين جبال الكرمل.
وتواجه الجيشان خارج أسوار المدينة في قتال عنيف استخدم فيه العجلات الحربية، وجنود المشاة، وأثناء تطويق الفراعنة لجيش التحالف، استطاعوا الفرار داخل المدينة المحصنة؛ لانشغال الجنود المصريين بجمع الغنائم، فحاصر تحتمس المدينة بصنع سياج من الأوتاد الخشبية، وحفر الخنادق، وقطع كل الطرق لدخول المدينة، إلا أنه ترك طريق وحيد لمن يرغب في الخروج من المدينة بشكل آمن؛ حتي لا ييأس المدافعون، ويلجأوا للاستماتة في الدفاع عن المدينة فيما عُرف بـ(الجسر الذهبي)، واستمر لمدة سبعة أشهر حتي عانت المدينة من المجاعة، والمرض، فأرسل ملوك التحالف أبناءهم؛ لطلب الصلح .
وكان هذا أول حصار مسجل بالتفصيل في التاريخ القديم، ومع الوقت تطورت طرق حصار المدن بتطور الآلات المستخدمة في الحصار، وأثر ذلك بشكل كبير علي الشكل الداخلي للمدن، وأسواراها، كما أثر علي القلاع، وأساليب الدفاع عنها.
أسوار المدن القديمة.
في العصور القديمة كانت الحرب، والإغارة علي المدن هي المحرك الأساسي للاقتصاد في ذلك الوقت، وكانت أسوار المدن هي السمة الأساسية لهذا العصر خصوصًا في الشرق القديم، فكانت تُبني علي ارتفاع عالي؛ للحماية من الغارات، والهجمات، وكان يتم صناعتها من الأحجار، والطوب اللبن، والأخشاب علي حسب توافر أي منهم، ومن أقدم الأسوار وأشهرها السور الذي كان يحيط بمدينة أورك (الوركاء) السومرية، الذي ذُكر في ملحمة (جلجامش)، وكان محصن بأبراج لحمايته وبلغ طوله 9 كيلومترات تقريبًا وارتفاع يقرب من 12 متر .
كما قام الحيثيون ببناء أسوار كبيرة من الحجارة حول مدنهم علي قمة التلال للاستفادة من التضاريس، وفي بلاد حوض نهر السند قبل الميلاد بـ3500 عام كانت مئات من القرى في طريق فيضان النهر، وكان بعضها محصن، وكانت تبنى البيوت خلف السدود الضخمة، والأسوار الدفاعية.
بجانب الأسوار، والتحصينات التي تعطي ميزة دفاعية للمدن، كان أيضاً موقع المدينة المحصن يعطيها ميزة أخري، مثل مدينة (صور) القديمة، والتي كانت عبارة عن: جزيرة تبعد حوالي 850 متر عن ساحل لبنان، مع مؤن تكفي لحصار طويل، وبحرية قوية، وأسوار بارتفاع يزيد عن 45 مترًا كان من الصعب الاقتراب منها، حتي عام 332 ق.م عندما حاول الأسكندر الأكبر الاستيلاء علي المدينة؛ فقام مهندسوه الحربيون ببناء ممر يربط بين ساحل لبنان والجزيرة بعرض 60 مترًا، مما جعل من السهل الوصول للمدينة، وفرض الحصار عليها من البر باستخدام الأبراج، والمنجنيق، واستسلمت بعد 6 أشهر من الحصار، ثم جمع بعد ذلك الرمل والطمي، وأمر بردم المسافة بين الجزيرة والساحل، وحولها لشبه جزيرة.
في الجانب الآخر من العالم لم يبن الرومان قلاعًا حقيقية، وإنما بنوا حصونًا صغيرة على الجبهات المهمة التي تحتاج إلى حماية، وأسوار للحماية مثل جدار هدريان الذي تم بنائه بطول 128كم في عهد الإمبراطور هادريان في شمال إنجلترا، وانتهى العمل فيه عام 122؛ لحماية إنجلترا من هجمات السكان القدماء لاسكتلندا.
وكانت الأسوار بشكل عام تحد من المساحة الداخلية للمدن علي اعتقاد أنه كلما قلت مساحة الدينة كلما سهل الدفاع عنها، وزادت القدرة علي إنشاء تحصينات أقوي، وتقل تكاليف الإنشاء، كمدينة بغداد التي كانت مقيدة بأسوار، وأثُر ذلك علي تخطيط شوارعها، وتكوينها المعماري مقارنة بمدينة سامراء التي كانت غير مسورة، وكان نمو المدن المسورة يمتد خارج الأسوار في مدة قصيرة لازدحام المدينة بسكانها، وكان هذا الامتداد يأخذ شكل مجمعات سكنية تسمى (أرباض) بنيت لها أسوار خاصة بها، كانت تربطها بأسوار المدينة الأصلية مناطق إتصال، وكان يوجد أبواب تسهل الإتصال بين المدينة، وأرباضها، ومن المدن التي وجدت فيها هذة الظاهرة بصورة واضحة مدينة قرطبة.
القلاع في العصور الوسطى.
كان يتم تشييد القلاع علي موقع يسهل الدفاع عنه، علي قمة جبل أو تل مرتفع مثل قلعة الموت في إيران، والتي كانت مركزًا للإسماعلية النزارية (الحشاشون)، أو تكون بجوار البحر؛ بحيث يصعب الوصول إليها مثل قلعة روملي حصار التي بناها السلطان العثماني محمد الفاتح علي مضيق البوسفور.
كان الحصن يحتوي على مخزن للطعام، ومستودع للمعدات العسكرية؛ للصمود أمام الهجمات التي قد يتعرض لها، ويُبني عادة، فوق بئر توفر المياه العذبة لسكانه أو يقوموا بشق قنوات تقوم بتخزين مياه المطر لتوفير مصدر للمياه أوقات الحصار.
في بعض القلاع كانت تحتوي علي أبراج تُبنى بجوار القلعة، ويوجد بينها وبين القلعة جسر أو قنطرة؛ لتصل بينها وبين القلعة، وتحتوي علي فتحات في جدران علي شكل مستطيل يتم من خلالها رمي السهام، وكانت المداخل الخارجية مزودة بجسور متحركة، لها بوابات مصنوعة من الحديد أو الخشب، يتم إنزالها؛ لتغلق المدخل الذي كان في معظم الأحيان، في الدور الأول أو الثاني، وكان الوصول إليه يتم بعبور مسافة ضيقة من سلم مسقوف. وكان بإمكان قلة من الجنود عند هذا السلم، الدفاع عنه بسهولة ضد أي هجوم ،ويمكن مشاهدة مثل هذه السلالم الخارجية،في القلاع الإنجليزية كقلعة دوفر.
وكانت للحروب الصيلبية دور هام في تطوير القلاع في الشرق؛ فاهتم الصيلبيون بإعادة بناء، وتقوية القلاع، وأسوار المدن التي استولوا عليها، وبنوا هذة القلاع، والأبراج، و الأسوار حسب التقاليد النورماندية التي ساهمت قي تطّور العمارة العسكرية في الشرق، و كانت قلاعهم تتألف كما هو حالها في شمال فرنسا، وإنجلترا من برج متعدد الطبقات منيع للغاية. و هو البرج المحصن يحيط به سور ساتر وحيد، و معزز في أكثر الأحيان بأبراج زاوية مع خندق عريض ( ditch ) أو قناة مائية عريضة ( Fosse ) و من أمثلة ذلك صافيتا، وقلعة يحمور. كما كان يتم تشييد أبراج محصنة من هذا الطراز في القلاع الكبري لحماية الجهات الضعيفة فيها مثل قلعة صهيون في اللاذقية.
هذا التطور في العصور القديمة، والوسطي كان مرتبط بشكل أساسي بتطور وسائل الحصار والهجوم، فمع تطورها كان يتم تطوير القلاع والأسوار.
بدأ حصار المدن باستخدام أساليب بسيطة مثل وضع أوتاد خشبية، وحفر الخنادق، وقطع طرق المؤدية للمدينة لإجبار الجنود، والسكان علي الخروج، بعد معاناتهم مع الجوع، وانتشار الأمراض، ثم تطور الأمر بعد ذلك بمحاولة اختراق أسوار المدينة، والاستيلاء عليها لتقليل وقت الحصار، وما يسببه من تكلفة عالية، فبدأت ظهور أدوات الحصار، كان هناك مجموعة من الآلات التي تستخدم في كل الحصارات، إلا أنها كانت دائمة التطور، وكانت من أوائل الآلات المستخدمةالمدق أو رأس الكبش :وكان عمود ضخم معلق بسلاسل، يستخدم؛ لثقب أبواب القلاع وجدران الأسوار.الأبراج والسلالم :وكانت تستخدم؛ لمحاولة اجتياز وتسلق أسوار المدن.
ثم اختلف شكل حصار المدن مع ظهور المنجنيق علي الرغم من الخلاف حول بداية صنعه فالبعض يري أنه ظهر في الصين ما بين القرنين الخامس والثالث ق.م، وانتقل للعرب من خلال الفرس، والبعض يري أن أصله بدأ من روما مثل المؤرخ البيزنطي (إميانوس مارسللينوس).
مع بداية ظهور المنجنيق كان يعتمد بشكل أساسي علي أجهزة السحب التي تستمد قوتها من مجموعة من الرجال تقوم بسحب الحبال، وكانت المجموعات تضم حتى 250 رجل تقوم بالسحب، لإرسال القذائف إلى مسافة 100 متر أو أكثر. ثم تطور الأمر بعد ذلك للأجهزة التي تعمل علي الثقل المتوازن، وتعمل عن طريق هبوط كتل ضخمة فتقوم بإطلاق القذيفة لمسافات طويلة، وأجهزة هجينة تستخدم القدرة البشرية، والثقل معًا. وعندما ظهرت آلات السحب للمرة الأولى في حوض البحر المتوسط في نهاية القرن السادس، كانت إمكاناتها أكبر بكثير من إمكانات أجهزة القصف المستخدمة في ذلك العصر. فكانت الآلات الهجينة الأكثر قدرة تسمح برمي قذائف أثقل من تلك التي ترميها الراجمات الكبيرة الشائعة آنذاك حتي ستة أمثال، كما أنها كانت تستطيع إطلاق عدد أكبر من القذائف خلال فترة زمنية معينة.
واستخدمت المنجنيقات في الخطط الدفاعية، والهجومية على حدٍّ سواء. حيث قام المهندسون بزيادة سماكة الجدران لتتحمل قذائف أجهزة القصف الجديدة، كما قاموا بإعادة تصميم التحصينات؛ لكي يتم استخدام المنجنيق ضد المهاجمين، وفي العصور الوسطي قام المعماريون في عهد الملك العادل (1196 -1218) بإدخال نظام دفاعي يستخدم منجنيقات تعمل بالثقالة، جرى تركيبها فوق منصات أبراج؛ لمنع أجهزة القصف المعادية من الوصول إلى داخل نطاق فعاليتها، إن هذه الأبراج التي تم تصميمها في البدء كأماكن لأجهزة القصف، أصبحت أضخم بكثير كي تناسب المنجنيقات الأكبر حجمًا، وتم تحويل القلاع من مجرد جدران محيطة مع عدد قليل من الأبراج إلى مجموعات من الأبراج الضخمة متصل بعضها ببعض بوساطة جدران ساترة قصيرة. وكانت الأبراج على قلاع دمشق، والقاهرة، والبصرة تشكل منشآت ضخمة يصل سطح كل منها إلى 30 مترا مربعا.
ويمكن تصنيف المجانيق علي حسب طبيعة القذيفة التي كان يتم رميها إلى :
قذف الحجارة: تقذف قطع الحجارة الضخمة بإتجاه العدو، وقد بلغ قوة بعضها أن ترمي حجارة بوزن مابين 60 و90 رطلًا دمشقيًا، ويكون الرمي عن طريق وضع الحجارة في الكفة التي يحملها السهم، وبزيادة حجم الكفة أمكن رمي قطع أكبر من الحجارة، وكان هذا النوع ثقيل فكان يتكون من عدة قطع قابلة للفك تُحمل علي ظهر الجمال، وقد استخدم هذا النوع بكثرة، فهو بمثابة المدفعية في الجيوش الحديثة.
قذف السهام: قوس يرمي سهمًا كبيرًا من 60 إلي 180 سم، ووزنه من 2 :3 كيلوجرام، وهو قوس ميكانيكي، له جهاز لشد الوتر والإطلاق.
منجنيق النفط: وكانت مناجيق عادية، ومزودة بكفة من صفائح الحديد، ومعلقة بالذراع بواسطة سلاسل لمنع الاحتراق، وكانت مقذوفاتها عبارة عن قدور مليئة بالنفط، وكرات مشبعة بالنفط يتم إشعالها، والقاءها علي الأعداء، واستخدم هذا النوع في حصار الرشيد (766-809) لمدينة (هير أقلية)، فرمى عليهم حجارة مخلوطة بالكبريت، والنفط، وملفوفة بقطع من الكتان، تُشعل قبل أن تطلق.
منجنيق القنابل: وهي تشبه مناجيق الحجارة، وكان يستخدم فيها أنواع كثيرة من القنابل مثل
- قنابل النحاس: وهي عبارة عن صناديق نحاس ، مملؤة بالنفط ،ومتصل بها رمح صغير مغطى باللباد، وعند إطلاقها يتم إشعال قطعة اللباد.
- قنابل الزجاج: وكانت تشبه النحاس إلا أنه كان يتم إلقاءها فينكسر الزجاج، ويسيل محتواها فيملأ المكان، وكان محتواها من مزيج من الزيوت، والدهن، والنفط، وفي الغالب يتم رمي مواد قابلة للإشتعال بعدها.
- القنابل الخانقة: وكان يتم اشعالها في إتجاه الرياح التي تحملها في إتجاه العدو، وكانت تصنع من الكبريت، والزنيخ، والأفيون.
كما كان يوجد أنواع أخري من المجنيقات تستخدم في رمي الأفاعي، والعقارب، والجثث، والحيوانات الميتة لإصابة الأعداء بالأمراض، مثل حصار المغول لبلدة كافا في شبه جزيرة القرم، حيث قاموا بإلقاء الجثث المصابة بالطاعون علي سكان المدينة.
ومنذ أواسط القرن الخامس عشر تراجع بشكل كبير استخدام المجانيق، وبدأت الجيوش تتوسع في استخدام المدافع التي حلت محل المجنيقات، ومنذ ذلك الحين تغيرت طرق حصار المدن وزاد سمك الأسوار بشكل كبير، واستخدمت المدافع في الدفاع عن المدن، واستمرت أهمية الأسوار والحصون حتي القرن الثامن عشر ثم أصبحت هذة التحصينات بلا أهمية مع بداية استخدام الصواريخ، والمدفعية الحديثة مما سمح بتوسع المدن بشكل كبير، لكن في القرن العشرين، ومع التوسع في استخدام الطيران اهتمت الدول بإقامة خنادق، وتحصينات؛ للحماية من غارات الطيران، والمدفعية، وتوسعت مفاهيم الحصار لتشمل الحصار الاقتصادي، وفرض العقوبات التي تؤدي في أحيان كثيرة إلي نفس نتائج الحصار البري أو البحري في العصور القديمة.
إعداد:عمرو الديهي
مراجعة علمية: Mostafa Mohamed El-Ashmawy
مراجعة لغوية: Sara Hassn
تصميم: Sara Hassan
المصادر :
(1) المدينة الإسلامية(د.محمد عبد الستار ) عالم المعرفة العدد 128 (1978) ص121 :151
(2) الأنيق في المناجيق (لابن أرنبغا الزردكاش 867 هـ) تحقيق/ د.إحسان هندي
(3) http://sc.egyres.com/ctG9y
(4) http://sc.egyres.com/CLVDx
(5) http://sc.egyres.com/lVCMC
(6) http://sc.egyres.com/CgY40
فيديو المنجنيق:
(1) http://sc.egyres.com/w26v1
(2) http://sc.egyres.com/lVS6w