تملأ الكون من جميع الجوانب، إذا نظرت إلى أقطاب السماء فسوف تشعر بها، إنها الدليل المنطقي على بقايا انفجار حدث منذ 13.7 بليون سنة وهو الانفجار الكبير، خطوة جديدة في طريق حل لغز أصعب الأسئلة وهو كيف بدأ الكون في الوجود ؟! وكأن الكون أراد أن يخبرنا بجزءً من ماضيه فأرسل إلينا تلك العلامات لتحل المعضلة الأكبر، هل الكون سرمدي أم مخلوق؟، لتثير موجة من التساؤلات الفلسفية قبل التحليلات العلمية، لنفهم قدرًا صغيرًا من لغة الكون المعقدة والتي يسعى الجنس البشري في تحويل تلك اللغة إلى مجموعة من الصيغ الرياضية.
الكون يخبرنا بأنه خضع لعملية تضخم وتوسع سريعة عند ولادته وما زالت مستمرة وتتسارع حتى اليوم، إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB-Cosmic Microwave Background) يُمثِّل الحرارة المتخلفة عن الانفجار العظيم.
سنتحدث في هذا المقال عن الأشعة الخلفية الكونية ومدى أهميتها، لكن أولًا دعونا نمر سريعًا على بعض المفاهيم الفيزيائية والتي ستصبح مرشدنا خلال المقال.
الاشعاع / الطيف الكهرومغناطيسي
الاشعاع الكهرومغناطيسي (The EM Radiation) هو شكل من أشكال الطاقة التي تحيط بنا وتتخذ عدة صور مثل موجات الراديو، الموجات الميكروية، الأشعة السينية، وأشعة جاما. مثل ضوء الشمس الذي هو شكل من أشكال الطاقة الكهرومغناطيسية، ولكن الضوء المرئي هو فقط جزء صغير من الطيف الكهرومغناطيسي والذي يحتوي على مجموعة واسعة من الموجات الكهرومغناطيسية.
ينشأ الاشعاع الكهرومغناطيسي عندما تكتسب الإلكترونات طاقة بواسطة المجال الكهربي مما ينتج عنه حركة سريعة للجسيمات، تنتج تلك الحركة تذبذبات كهربية ومغناطيسية والتي تسير في زوايا قائمة على بعضها البعض في حزمة من الطاقة المرئية تتخذ سرعة الضوء، تسمى (فوتون – Photon) تلك الموجات تمتلك خصائص مثل الطول الموجي والتردد.
الطيف الكهرومغناطيسي (The EM spectrum) هو مقياس يحتوي على مدى واسع النطاق من الأطوال الموجية والترددات، وينقسم الطيف إلى سبع مناطق من الزيادة إلى النقص الخاص بالطول الموجي وهي موجات الراديو، الموجات الميكروويف، الأشعة تحت الحمراء، الضوء المرئي، الأشعة فوق البنفسجية (الأشعة فوق البنفسجية) ، الأشعة السينية وأشعة جاما.
نظرية الانفجار الكبير وأصل إشعاع الخلفية الكونية
نظرية الانفجار الكبير هي الفرضية الأكثر قبولًا في الأوساط العلمية والتي تفسر كيف بدأ الكون، وتنص على أن الكون كما نعرفه بدأ كمتفردة (Singularity) وهي نقطة صغيرة جدًا درجة حرارتها وكثافتها لانهائية، وهو لم يكن انفجار على النحو المتعارف عليه ولكن ظهر الكون هكذا في كل مكان على هذا النحو، وعندما كان الكون صغيرًا حدثت في 1×10-35 جزء من الثانية طفرة نمو وتوسع للكون والذي يعرف بمرحلة (التضخم – Inflation) حيث تضاعف حجم الكون بشكل سريع جدًا، وكلما تمدد انخفضت درجة الحرارة والكثافة أيضًا، وبعد التضخم استمر الكون في التوسع لكن بمعدل بطيء مع انخفاض الحرارة وتكون المادة.
تكونت العناصر الكيميائية الخفيفة في أول ثلاثة دقائق من ولادة الكون، لم تكن هناك ذرات في المراحل المبكرة من عمر الكون؛ وذلك لأنه كان ساخناً بدرجةٍ كبيرة جداً، ووُجد حينها القليل من الإلكترونات والنوى المُؤلَّفة من بروتونات ونيوترونات. ومع التمدد وانخفاض الحرارة بدأت البروتونات والنيترونات في الاصطدام لتكوين (الديوتيريوم – Deuterium)، ثم اتحدت معًا لتكوين الهيدروجين الساخن الذي يمتلك كثافة تصل إلى 1000 ذرة في السنتيمتر المكعب، وعندما كان حجم الكون مكافئاً لجزء من مائة مليون من حجمه الحالي كانت درجة حرارته تبلغ حوالي 273 مليون درجة فوق الصفر المطلق، وكانت كثافة المادة فيه مكافئة لكثافة الهواء فوق سطح الأرض، وكان الهيدروجين مُؤيَّناً بالكامل تحت درجات الحرارة المرتفعة هذه، بمعنى أنه كان مُكوَّناً من إلكترونات وبروتونات حرة.
وبعد ذلك انخفضت درجة الحرارة بدرجة كافية للإلكترونات أن تتحد مع نواة الذرات لتشكيل ذرات محايدة، ثم انخفضت درجة حرارة المادة لدرجة كافية لاندماج الالكترونات الحرة التي بدورها جعلت الكون شفافًا، والضوء المنبعث في تلك الفترة هو الذي تم رصده اليوم على هيئة اشعاع الخلفية الكونية الميكروية CMB.
كان اكتشاف توسُّع الكون أحد أهم اكتشافات القرن العشرين، ويؤكد هذا التوسُّع أن الكون كان أصغر وأكثر كثافةً وسخونةً في الماضي البعيد عندما كان الكون المرئي بنصف حجمه الحالي، فقد كانت كثافة المادة تبلغ ثمانية أضعاف كثافتها الحالية، وكانت سخونة إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ تفوق نظيرتها الحالية بمقدار الضعف.
في تلك المرحلة تشتت إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ بسهولة على الفوتونات؛ لذلك فقد تحركت تلك الفوتونات في كافة أرجاء الكون المُبكر بشكلٍ مشابه لحركة الضوء البصري داخل الضباب الكثيف. في الواقع فقد تمَّ قياس ذلك بدقةٍ كبيرةٍ باستخدام التجربة (FIRAS) التي أجريت بواسطة القمر الصناعي (Cosmic Background Explorer-COBE) التابع لناسا.
ما هي إشعاعات الخلفية الكونية الميكروي (CMB)
اشعاعات الخلفية الكونية الميكروي (CMB) هي توهج خافت من الضوء الذي يملأ الكون تسقط على الأرض من كل اتجاه مع كثافة موزعة بشكل منتظم تقريبًا، فهي الحرارة المتبقية من الخلق، شفق الانفجار الكبير، تتدفق في الفضاء منذ 13.7 مليار سنة، إنها المتبقي من انفجار عظيم طبقًا لنظرية (الانفجار الكبير -The Big Bang).
تفترض النظريات أن الفترة قبل تكون CMB كان الكون ساخن وكثيف بشكل كببر جدًا والبلازما التي تحتوي على المادة والطاقة لم تستطع الفوتونات الانتشار بحرية لذلك لم يفلت أي الضوء خلال هذا الوقت، ثم بدأت تلك الاشعاعات في الظهور في فترة تسمى (إعادة الاندماج – Recombination Era) وهي الحقبة الزمنية التي اندمجت فيها الإلكترونات والبروتونات المشحونة لتكوين ذرات هيدروجين بعد الانفجار العظيم، ثم انخفضت درجة حرارة الكون إلى 2700 درجة سيليزية فهو بارد كفاية ليسمح لاندماج البروتونات والالكترونات لتكوين ذرات الهيدروجين مما أدى إلى انبعاث الفوتونات لتصلنا اليوم في صورة إشعاع الخلفية الميكروية، لا تستطيع العين المجردة رصد الأشعة بالرغم من تواجدها في جميع أجزاء الكون، وذلك لانخفاض درجة حرارتها والتي تبلغ 2.725 درجة فوق الصفر المطلق (-273.15 درجة سيليزية)، مما يعني أن الاشعاع الناتج عن تلك الحرارة يمكن رؤيته في الجزء الخاص بموجات الميكروويف في الطيف الكهرومغناطيسي.
اكتشاف الأشعة الكونية الميكروي
تنبأ عالم الكونيات الأمريكي (رالف ألفر – Ralph Alpher) لأول مرة بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي عام 1948، عندما كان يعمل على هذا البحث مع (روبرت هيرمان) و(جورج جاموف). كان هذا الفريق يُجري البحوث المتعلقة بالتخليق النووي للانفجار الكبير، أو إنتاج العناصر في الكون بجانب إنتاج أخف نظائر الهيدروجين. وقد تخلّق هذا النوع من الهيدروجين في وقت مبكر جدًا من تاريخ للكون.
رُصد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي للمرة الأولى بالصدفة عام 1965؛ عندما كان اثنان من الباحثين في مختبرات شركة بيل للاتصالات، وهما: (أرنو بنزياس – Arno Penzias) و(روبرت ويلسون – Robert Wilson)، يختبران جهازًا للكشف عن الموجات الراديوية، وكانا في حيرة من أمرهما بسبب التشويش الذي يلتقطه الجهاز في البداية كانا يظنان أن التشويش نتيجة سقوط روث الحمام على مستقبلات معدات البحث، وبعد أن تم التخلص والتنظيف لم ينتهي التشويش، لكن سرعان ما أدركا أن التشويش آتٍ من كافة أقطار السماء بانتظام، في الوقت ذاته، كان فريق من جامعة (برنستون) بقيادة (روبرت ديك – Robert Dicke) و (ديف ويلكينسون – Dave Wilkinson) يحاولان رصد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وعندما تناهى إلى مسامع فريق ديك خبر تجربة مختبرات شركة بيل، أدركوا أن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي قد اكتُشِف.
الأشعة الخلفية الميكروية وماذا بعد؟
نظراً لمحدودية سرعة الضوء، فإن العلماء الذين يرصدون الكون البعيد هم في الواقع يشاهدون الماضي، ومعظم النجوم المرئية للعين المجردة في سماء الليل تقع على بعد يمتد بين 10 إلى 100 سنة ضوئية، وبالتالي فنحن نشاهد حالها قبل 10 إلى 100 سنة من الآن، حين نرصد مجرة (أندروميدا – Andromeda) وهي أقرب المجرات إلينا إذ تبعد حوالي 2.5 مليون سنة ضوئية، فنحن نراها كما كانت عليه قبل 2.5 مليون سنة. يستطيع علماء الفلك الذين يرصدون الكون البعيد باستخدام تلسكوب هابل الفضائي رؤية تلك المجرات على الحال التي كانت عليه بعد بضعة مليارات الأعوام من الانفجار العظيم.
وقد صدر إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ قبل 13.7 مليار عام من الآن، أي بعد بضعة مئات آلاف السنين من الانفجار العظيم، وقبل وقتٍ كبيرٍ من تشكُّل النجوم والمجرات؛ وبالتالي يُمكننا عبر دراسة الخواص الفيزيائية بشكلٍ مُفصّل معرفة المزيد عن الظروف التي كانت سائدة في الكون على المدى الواسع في بداية تاريخه، وكل ذلك بفضل رؤيتنا للإشعاع الذي انتقل لكل هذه المسافة الكبيرة، فهي تساعدهم على معرفة كيفية تشكُّل الكون في بداياته الأولى، لقد كانت درجة حرارة الكون منتظمة، تتخللها تقلبات صغيرة جدًا لا يمكن رؤيتها إلا بمَقارِب عالية الدقة. وكما توضح تقول ناسا أن من خلال دراسة هذه التقلبات، يتمكن علماء الكونيات من التعرف على أصل المجرات، وبنيتها على المقياس الكبير، كما يمكنهم قياس البارامترات الأساسية لنظرية الانفجار العظيم.
إعداد: أمير علاء عياد
مراجعة علمية: محمد المصري
المصادر: