فنسنت فان جوخ، الفنان الذي يعرفه الجميع بطريقة أو بأخرى، سواء كانوا مهتمين بالفنون أم لا، ذلك الرجل الفريد المختلف الذي لم ينل التقدير الذي يستحقه أثناء حياته، ولولا زوجة أخيه، لضاعت ذكرى فنسنت وأخيه ثيو في غياهب النسيان.
عن الفيلم
يعد الفيلم يُعد الأفضل حتى الآن عن حياة فنسنت فان جوخ وأحد أفضل أفلام السنة، كما يشترك في قصته مع مجموعة مكونة من سبعة أفلام أخرجها جوليان شنابل (Julian Schnabel) والتي تهتم بالفنانين ذوي السيرة الحياتية الخاصة، أشهرها (بدلة الغوص والفراشة The Diving Bell and the Butterfly) والتي تحكي عن الكاتب الفرنسي جان دومينيك بوبي (jean dominique bauby) الذي أصاب بشلل كلي في جسده وكتب كتاب بنفس اسم الفيلم.
جوليان شنابل
يظهر في ذلك الفيلم إبداع جوليان على شكل لوحة متعددة التفاصيل والأبعاد، عمل كهذا لا يمكن أن ينبثق من مخرج متوسط أو حتى جيد، لكن يجب أن يكون المخرج فنانًا وغير مألوف.
استخدم جوليان نظام التصوير الواحد ليجعلنا نصبح داخل رأس فنسنت ونرى الأشياء كما يراه، وهذا ما جعل المُشاهد ينخرط في التجربة كأنه داخل الأحداث،أيضًا استعان جوليان بالمصور السينمائي بينوا دلهوم (Benoit Delhomme) -سيد الكاميرا المحمولة-، ذلك الرجل جعل الفيلم إلهامًا خاصًا للحواس، فتصويره كالضوء الضبابي الناعم؛ جعل العمل يبدو كرحلة مبكرة تقضيها في أحد أيام الشتاء مشيًا على الأقدام، ظهر لك واضحًا في أبعاد الأشخاص واستخدامه للتصوير المائل أو المشوش أو المتشنج ليبرز بعض الصراعات أو المشاعر الصادرة من الممثلين عمومًا والبارزة من فنسنت خصوصًا. كما استخدم جوليان الإضاءة الانتقالية بين المشاهد واعتمد على ألوان أحادية أهمهم الأصفر والأزرق؛ هذان اللونان يصبغان معظم أعمال فنسنت الفنية، مثل لوحة مزهرية عباد الشمس (Vase with Fifteen Sunflowers) ولوحة ليلة النجوم (The Starry Night).
اختيار جوليان شنابل الممثل وليام ديفو «willem dafoe» كي يكون بطل الفيلم، ويا له من اختيار مميز، فمع أنًّ وليام يكبر شخصية فنسنت بحوالي ربع قرن، استغل جوليان ذلك كميزة مميزة، فتجاعيد وجه ويليام وأدائه الشاعري أبرز لنا مكنون الشخصية المرهقة والمتفائلة في نفس الوقت.
ويليام ديفو
هذا ينقلنا للنقطة الثانية والأهم؛ أداء ويليام ديفو الخرافي الذي رشحه للأوسكار…لكن ماذا فعل ويليام حقًا ليستحق ذلك الترشيح؟
حسنًا، مبدئيا دعنا نلقي نظرة سريعة على حياة ويليام ديفو المهنية: يعد ويليام من أفضل الممثلين الأمريكيين الموجودين حاليًا، ومن ذوي الخبرة الكبيرة، وهو ممثل ذو كاريزما طاغية، من أشهر أدواره، دور العفريت الأخضر في أول جزء من سلسلة أفلام الرجل العنكبوت. دوره في بوابة الخلود يذكرنا كثيرًا بدوره في أحد أشهر أفلامه وهو الإغواء الأخير للمسيح المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب نيكوس كازانتزاكي؛ ألا أن دوره كفنسنت فان جوخ أكثر تعمقًا ونضجًا وتأثيرًأ.
يمكن وصف أداء ويليام كالجرح المفتوح، ينبض أداءً عبقريًا ويخرج لنا العديد من المشاعر، فتقمَّص ويليام شخص فنسنت إلى أبعد الحدود، حتى أنه تعلم الرسم، بل ما زاد الأمر حيوية وتشويقًا أن المخرج جوليان شنابل -والذي هو رسامًا بدوره- هو من علم ويليام كيف يرسم، علمه كيف يرسم الضوء، وكيف يحمل الفرشاة، وكيف يصنع العلامات وكيف ينظم المواد والألوان.
يقول ديفو في أحد المقابلات:
«هذا ليس سيرة ذاتية تقليدية، كان لدينا فريق من الرسامين الذين يعدون شكل فان جوخ للعمل. لقد مارست الرسم وعلمني جوليان كيف أرى الأشياء بطريقة مختلفة، فقد ظل يقول لي “ارسم الضوء”؛ حتى صار التحول لأفهم ما تراه العيون المدربة، ولأضع العلامات بجانب بعضها البعض لمعرفة كيف يهتزون مع بعضهم البعض. لقد علمني كيفية الوصول إلى ما وراء السطح، والوصول للدافع الروحي».
من الأشياء التي ساهمت في إنتاج تلك التحفة الفنية القصة والسيناريو، لم ترتكز القصة على حياة فنسنت كلها ولكن ارتكزت على النتيجة الأخيرة للتطور النهائي من شخصية فنسنت في أعوامه الأخيرة. يقول المخرج:
«هذا الفيلم هو تراكم للأحداث تبعًا لرسائل فان جوخ، والاتفاق المشترك حول الأحداث في حياته كالوقائع والأقاويل، والمشاهد التي تم ابتكارها ببساطة، فهذه ليست سيرة أكاديمية عن الرسام، ولكنها هو حول ما هو ليكون الفنان».
أيضًا اشترك جوليان شنابل نفسه مع الكاتب جان كلود كاريير (Jean-Claude Carrière) -والذي تم ترشيحه للأوسكار أربع مرات- في كتابة السيناريو مما جعل العمل أكثر تماسكًا وذا معدل معقول في عرض الأحداث ومنظم بشكل لا يضر بالتجربة كاملة بل ويضيف إليها التسلسل المنطقي للقصة المنضبطة والمؤثرة، يمكننا أن نختزل روعة السيناريو في ذلك السطر على لسان ويليام ديفو:
ربما جعلني الله رسامًا لأشخاص ليسوا هنا بعد
الفيلم الأفضل
كان هناك عشرات الأفلام الأخرى عن فان جوخ، وأبرزها شهوة للحياة (lust for life) بطولة كيرك دوغلاس وإخراج فينسنت مينلليني ،وفيلم فنسنت وثيو (Vincent & Theo) بطولة تيم روث وإخراج روبرت ألتمان، وفيلم الرسوم المتحركة فنسنت المحب (loving Vincent) بطولة روبرت غولاكزي في الأداء الصوتي وإخراج ودوروتا كوبيلا، لكن شنابيل هو الأقرب إلى موضوعه، فالفيلم ليس عن فنسنت ولكنه فنسنت، يرسم ويتحرك ويشعر بتفوق ويمر بانهيارات شديدة، أي باختصار هو فيلم انطباعي عن فنان انطباعي، والذي لا ينبغي أن يكون مفاجئًا نظرًا لاهتمام جوليان شنابل السينمائي بالفنانين المميزين، والذي ظهر جليًا واضحًا في أفلامه الستة السابقة، كلها أفلام رائعة حقًا، لكن (عند بوابة الخلود)، أصبح شنابل أعمق من أي وقت مضى في فن صناعة الفن والمعاناة البشرية. أما دافو، الذي يشبه صورة فان جوخ الذاتية، فهو اللوحة القماشية المثالية لشنابل لكي يرسم شخصية فنسنت في الفيلم، لقد صنع من جماله الممزق وتجاعيده الغائرة أداة يبرز بها هشاشة الفنان وعزيمته في نفس الوقت. يمكننا أن نتجادل حول درامتيكية الفيلم والتي أظهرت فنسنت دائمًا في دور المعذب، أو حول كيفية توافق القصة مع السيرة الذاتية في الأحداث الأساسية مثل ذلك الجدل القائم حديثًا حول كيفية موت فنسنت، لكن في النهاية سنتفق أن ما حققه شنابل وديفو في هذا الفيلم هو هيمنة سينمائية وحجة في التمثيل، وهذا بلا شك، انتصار فني.
إعداد: زياد جمال
المصادر: