«إمحوتب» أول مهندس عرفه التاريخ

dl

أستطيع أن أقولَ بكل ثقةٍ أنّ «إمحوتب» هو واحدٌ من أعظم العقول التي أنجبتها مصر، بل من أعظمِ العقولِ على مدار التاريخ الإنساني والبشري كلِّه، لهذا أطلق عليه المؤرخون لقب «عبقريّ الدنيا الحقّ»، وسأبرهنُ بعد قليلٍ أنَّ هذا ليس بمبالغةٍ أبدًا، بل إنه لا يُمثِّل مثقالَ ذرةٍ في وصفِ هذا الرجل العظيم.[1]

«إمحوتب» باللغة المصرية القديمة، أو «الرجل الذي جاء في سلام»، كما هو معنى اسمه باللغة العربية [2]، سيتضح أنه اسمٌ على مُسمَّى، فما بين مولدِه في سلام، وحياتِه التي جلبت للناس السلامَ، ثم موتِه بعد ذلك في سلامٍ، حيثُ رحل بلا أثر، حتى شك المؤرخون في وجوده وحقيقته، كأنما لم يوجد في التاريخِ رجلٌ بهذا الاسم. وحُقَّ لهؤلاء المؤخرين أن يشكوا في وجود إمحوتب، فرجل بتلك العبقرية وتلك الحياة الزاخرة الحافلة، لَمِنَ الصعب أن يتكرر في التاريخ مثيله، وعادةُ الخلق ألا يصدقون وجود عبقرية كتلك، بل لربما استكثروا وجود إنسان بهذا القدر والعِظم. ألا ترى أن الناس حينما رأوا مصنفات جابر بن حيان التي لم يسبق لها مثيل، ولم تعرف العربُ قبله علمَ الكيمياء، ثم جاء هذا العبقري ليؤلف عشرات الكتب في هذا العلم الجديد دون أن يكون له أساتذةٌ يأخذ عنهم، استكثر الناسُ أن يوجد عقلٌ بهكذا ذكاء، فذهبوا إلى إنكار وجود جابر بن حيان لأنهم لا يؤمنون أن إنسانًا يستطيع فعل هذا كلِّه؟ اقرأ إن شئتَ لابن النديم في «الفهرست» وهو يقول: «وقال جماعةٌ من أهل العلم وأكابر الورَّاقين: إنَّ هذا الرجلَ يعني جابر لا أصلَ له ولا حقيقة.»[3]

فإذا وُجِد مَن شكك في وجود إمحوتب، ومَن شكك في وجود جابر بن حيان، ووُجد — ولا يزال يوجد — مَن يشكك في وجود هوميروس، ووُجد — ولا يزال يوجد — مَن يشكك في وجود شكسبير، فلا يخبرنا هذا إلا أنّ هؤلاء العباقرة قد بلغوا حدًّا من الذكاء والإبداع والعظمة، ما يستحيل معه أن يقتنع العقلُ العادي أنَّ البشريةَ يُمكن أن تُخرج لنا هؤلاء الأعلام الخالدين. كيف لا وقد وصل الحال أن جعل المصريون القدماءُ هذا الرجلَ إلهًا معبودًا، وأفردوا له معابد لزيارته وتقديسه، ولم يعدوه من بني البشر نظير ما رأوا من عبقريته، فهو للآلهة أقرب وأشبه بهم من الآدميين. حتى بعد مرور الوقت ومع توقف المصريين عن تقديسه وعبادته، فإنهم دائمًا ما يذكرونه في بردياتهم ومخطوطاتهم لا باسم إمحوتب منفردًا، وإنما يطلقون عليه اسم إمحوتب الأعظم «Imhotep The Great»، كما يطلق اليونان على الإسكندر المقدوني اسم الإسكندر الأكبر «Alexander The Great»، وكما يطلق الروسيون على بطرس الأول اسم بطرس الأكبر «Peter The Great». فلا يقل إمحوتب في نظر المصريين عن هؤلاء الأكابر العظماء.[4]

حياة إمحوتب بين الحقيقة والخيال

«في التعاليم الدينية، في السحر، في صياغة كلمات الحكمة الخالدة، في الطب وفي فن الهندسة.. ترك هذا الشخص المذهل الذي عاش في زمن الملك زوسر بصمةً في التاريخ لا ولن تُنسى، وسيظل اسمُه خالدًا أبد الآبدين.»

— عالم المصريات جيمس هنري برستد

من الصعب جدًا — بل يكاد يكون من المستحيل — الجزم بمعلومات دقيقة عن الفترات الأولى من حياة إمحوتب، فلا يُدرى أين ولا متى وُلد، ولا تُعرف أسرته، ولا كيف وأين وعلى يد مَن تلقّى تعليمَه، ولا أين وكيف عاش… لا نعرفُ أيَّ شيءٍ تقريبًا عن حياته الأولى قبل أن يصير وزيرًا للملك زوسر. لكن ما يمكن قوله على وجه الترجيح هي تكهنات بناءً على ما لدينا من معلومات بعضها مأخوذ من قصص خيالية كُتبت عنه، ولا يُدرى أيٌ من هذه المعلومات المذكورة في تلكم القصص صحيحًا وواقعيًا، وأيٌ منها لا تعدوا كونها محض خيالات كتبها عنه المصريون القدماء. ولنبدأ بالمعلومات التي نعلمها عن إمحوتب على وجه اليقين التام، ففي عام 1926، أي أقل من مائة عام فقط، تم اكتشاف قاعدة تمثال الملك زوسر، وكان محفورًا عليها اسم إمحوتب مع الألقاب والوظائف التي شغلها، وكانت بالترتيب التالي «مستشار ملك مصر السفلى، الأول بعد ملك مصر العليا، مدير القصر العظيم، النبيل الوراثي، المهندس — أو البنَّاء —، كبير كهنة هليوبوليس، رئيس النحاتين، والمشرف على صنع المزهريات.»

قاعدة تمثال الملك زوسر بألقاب إمحوتب

إن تدوين كل تلك الألقاب الخاصة بشخص من المدنيين — فلا هو بملك ولا بفرعون، ولا هو من سليل أسرة ملكية —أقول: إن تدوين تلك الألقاب ونحتها وكتابتها على تمثال الملك زوسر، لهو أمر لم يحدث لأي شخص في التاريخ الفرعوني والمصري كله إلا لإمحوتب وإمحوتب فقط. فأي عظمة وصل إليها هذا الرجل كي يخالف الملكُ زوسر جميعَ العادات والتقاليد المتبعة ليحفر اسمه وألقابه على تمثاله هو!

المصدر الثاني من المعلومات التي نعلمها عن إمحوتب على وجه اليقين هو اسمه المكتوب على حجر جرافيتي على جدارٍ يُحيط بهرم الملك «سخمخت Sekhemkhet»، ويرجع اكتشاف هرم الملك «سخمخت» إلى عالم الآثار المصري «محمد زكريا غنيم» الذي وُلد بمحافظة دمياط، وانتهت حياته بشكل مؤسف، فبعد اكتشافه لثاني هرم مدرج في التاريخ البشري كله عام 1952، اتهمته هيئة الأثار المصرية بسرقة وتهريب بعض الآثار وحققوا معه، وبلغت مضايقاتهم له حدًا دفعه إلى الانتحار بأن يلقيَ بنفسِه في ماء النيل نتيجة ما عايشه من تشويهٍ لسمعته ودمار لحياته المهنية والعلمية والشخصية. لكن صديقه عالم المصريات الفرنسي «جان فيليب لوير Jean Philippe Lauer» قد اكتشف تلك الآثار التي تم اتهام الدكتور غنيم بسرقتها وتهريبها، وجدها في البدروم السلفي للمتحف المصري، لكن للأسف كان دليل البراءة بعد أن قضى الرجلُ نحبَه بعامين.

د. زكريا غنيم

ولنترك الدكتور غنيم ومأساته التي اعتادت مصر إيقاعها بحق أبنائها، ونترك كذلك — بشكل مؤقت — الحديث عن هرم سخمخت أو «الهرم الدفين» كما تم الاصطلاح على تسميته، ولنرجع إلى إمحوتب والمعلومات التي نعلمها عنه على وجه اليقين ونقول: يبدو من خلال ذكر اسم إمحوتب على الجدار المحيط بهذا الهرم أنه عاش بعد وفاة الملك زوسر، وأنه عاصر الملك «سخمخت Sekhemkhet» الذي تولى حكم مصر بعد الملك زوسر. ويظهر كذلك أنه شارك في بناء هرم آخر غير هرم زوسر لهذا الملك الجديد، لكن الملك «سخمخت» كانت فترة حكمه قصيرةً ومات قبل أن يُكمل إمحوتب بناءَ هرمه.

نأتي بعد ذلك إلى المعلومات غير المعاصرة لحياة إمحوتب، حيث ظل الرجل غائبًا اسمُه، ومختفيًا ذكرُه لأمد طويل. والمرة الأولى التي يُذكر فيها إمحوتب بعد وفاته كانت في «بردية ويستكار The Westcar Papyrus» والتي تعود إلى عصر الهكسوس في مصر، أي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد تقريبًا.[5] تتحدث تلك البردية عن خمس قصص حُكيت في مجلس الملك خوفو. القصة الأولى قالها له أحد أبنائه، لكن القصة كلها مفقودة تمامًا وليس فيها إلا الجزء الأخير الذي يأمر فيه الملك خوفو موظفيه بأن يقدموا القرابين والخبز واللحم والخمر لأجل رئيس كهنة الملك زوسر الذي قام بالمعجزات، والذي استفاد الملك خوفو من تعاليمه. وهنا لا يُذكر إمحوتب باسمه، وإنما ذُكرت وظيفته كونه «رئيس كهنة الملك زوسر». لكن ماذا فعل إمحوتب من المعجزات التي استحقت أن تُذكر بعد 900 سنة من وفاته، وتُروى ليتعلم منها الملك خوفو ويقدّم لأجله القرابين؟ للأسف، لا أحد يعلم، إذ فُقدت القصة بالكامل.

أما المرة الأولى التي يُذكر فيها إمحوتب باسمه لا بصفته، فقد كانت في نقوشات داخل مقبرة الملك «أمنحوتب الثالث Amenhotep III»، الذي عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أي بعد حوالي 1300 سنة من وفاة إمحوتب. لكن النقش الموجود في تلك المقبرة مثير للغاية، حيث يتحدث عن مراسم تقديس وتبجيل وشبه عبادة لإمحوتب، يقول النص:

«سوف يُقَدِّمُ الكهنةُ القرابينَ لروحك، وسوف يمد لك الكهنةُ أياديهم وأذرعهم ويسكبون لأجلك الخمر على الأرض، تمامًا كما يُفعل ذلك لإمحوتب الذي يُسكب لأجله الخمر، لتبقى بقايا الماء الشريف في أوعيتنا.»[6]

يدل هذا النص دلالةً واضحة أن عملية تقديس إمحوتب وسكب الخمر لأجله كانت أمرًا مشهورًا ومعروفًا ومُمَارَسًا مِن قِبل المصريين حتى صارت مضربًا للأمثال، ولهذا ذكره الكاتب على جدران تلك المقبرة الملكية. أضف إلى ذلك أن العبارة السابقة تدل على أن الكهنة سيقدمون القرابين لروح الملك كما يقدم الناس القرابين لروح إمحوتب، وهو ما يدل على أن تقديس إمحوتب بلغ من الكمال حدًا يتمنى الملوك أن يبلغوه. كما يدل ذلك النص على المكانة العظيمة التي وصل إليها بعد وفاته؛ فلا يوجد في التاريخ المصري كلِّه إنسانٌ عاديٌ رفعه المصريون إلى مرتبه الآلهة إلا شخصين اثتين لا ثالث لهما. الأول هو إمحوتب، والثاني هو «أمنحوتب بن حابو Amenhotep, son of Hapu»، والجميل أنّ هذين الشخصين كانا مهندسين، وكانا علماءً وكَتَبَةً، ولم يتميزا بشيء إلا بالعلم والحكمة، وحُقّ لصاحب العلم والحكمة أن يتم تقديسه وتأليهه.

المرة الثانية التي ذُكر فيها إمحوتب كانت على نقش في مقبرة المغني الملكي «باتينمحب Paatenemheb»، والذي خدم تحت حكم «أمنحوتب الثالث»، ثم تحت حكم «أمنحوتب الرابع» الذي سمّى نفسه إخناتون. وإذا كان الغناءُ عادةً وتقليدًا للمصريين القدماء، سواء بشكل ديني أو ترفيهي، فقد كتبوا أغانيهم على جدران معابدهم ومقابرهم، وكانت أكثر آلة يستخدمونها في الغناء هي القيثارة، وهي آلةٌ وتريّة تشبه الجيتار الحالي. كانت الأغنية المنقوشة في قبر «باتينمحب» تقول:

«لقد سمعت أقوالَ إمحوتب وجدفور… بكلامها يتحدّث الناسُ كثيرًا.»[7]

جدار قبر «باتينمحب»
جدار قبر «باتينمحب»

وفي رأيي لا يمكن فهم هذا الشطر من الأغنية، ولا يمكن فهم مكانة إمحوتب دون معرفة من هو «جدفور Djedefhor» الذي ذُكر بعد إمحوتب في تلك الأغنية. فإذا علمَ القارئُ أنّ «جدفور» هو ابن الملك «خوفو Khufu» صاحب الهرم الأكبر، وأن «جدفور» يشتهر بأنه أحد أعظم الحكماء في تاريخ مصر، وأنه كتب كثيرًا من الحِكم والعظات والوصايا لابنه، وظل المصريون يتعلمون من حكمته، ويتلون مواعظه، ويحترمون رجاحة عقله وحسن تفكيره وأخلاقه وتعاليمه. ثم يأتي ذكر تعاليم أمحوتب وحكمته وكتابته ومواعظه قبل أعظم الحكماء المصريين — أو إن شئت قل: قبل أعظم الفلاسفة المصريين. بمصطلحنا الحديث — فيبدو جليًا أن لإمحوتب كتابات كانت منتشرة في ذلك الوقت لكنها لم تصل إلينا بعد، وإن كان قد وصل إلينا قدر ضئيل للغاية من تعاليم «جدفور». وهذا يعني أن إمحوتب لم يكن وزيرًا ولا مهندسًا، لكنه كان — بالإضافة إلى ذلك — أحد أعظم حكماء وفلاسفة مصر القديمة.

أما وإن كانت تلك الأغنية التي تتحدث عن حكمة إمحوتب المنقوشة على جدار قبر «باتينمحب Paatenemheb» وهو من الأسرة الثامنة عشر، فكذلك استمر ذكرُه كواحدٍ من أعظم الحكماء المصريين بعد ذلك، ففي بردية « تشيستر بيتي Papyrus Chester Beatty IV» يرجع تاريخها للأسرة التاسعة عشر، تتحدث عن قيمة الكتابة وعن الكُتّاب الخالدين، حيث تمدح البردية الكتابة وأن كتابات المرئ هي ما تجعله خالدًا أبد الدهر، فتذكر البردية أسماء الكَتَبَة الخالدين العظمام وتقول:

وهل يوجد أحد بيننا مثل «جدفور»؟ بل هل يوجد في العالم كله نظير لإمحوتب؟[8]

إن أردتُ أن أجيب كاتبَ تلك البردية، لقلت له: لا والله لا يوجد في العالم كله نظير لإمحوتب، فهناك أشخاص لا تهبنا الدنيا منهم إلا نسخةً واحدةً لا تتكرر، بل تأبى كلَّ الإباء أن يكونَ لها نظيرٌ أو مثيل. ولا أدري، أنلوم الدهرَ أن ضنّ علينا بآخرين من أمثالهم؟ أم نشكر الدهرَ أن جعلهم منفردين بتلك المكانة لا يزاحمُهم فيها أحدٌ؟ ألا ترى أن الوحدانية أحد دلالات العظمة، وأن الشرك هو أصل كل ذلة ومهانة؟ فكأنما رفض الدهرُ أن يكون لهم شركاء في عظمتهم، وجعلهم منفردين ومستقلين بوحدانيهم فيما وصلوا إليه. وصدقتَ كلَّ الصدق عزيزي كاتب تلك البردية حين جعلته من الخالدين الثمانية في التاريخ المصري.

أما وأنَّا لا نزال مع تسلسل المصادر التي ذكرت إمحوتب، ووقف بنا التاريخ إلى الأسرة التاسعة عشر. فإذا ما أكملنا مسيرتنا ووصلنا إلى العصر البطلمي سنجد إهداءً مكتوبًا على أحد حجرات معبد فيلة بمحافظة أسوان، يهب فيه الملكُ «بطليموس الثامن» هذا المعبدَ إلى إمحوتب، وكتب على مدخله: «إلى سيد الدنيا، إلى المُحيي الذي يهب الحياةَ، إلى ربِّ الصحة، إلى مُخرِج الحي من الميت.» وفي الترنيمة المنقوشة على القائم الجنوبي لمعبد بتاح في منطقة الكرنك، والتي ألفها الإمبراطور الروماني «تيبيريوس Tiberius» كتب يقول: «حمى إمحوتب مصرَ، وجعلها خاليةً من الأمراض، ثم منحها الصحةَ والحياةَ، وشفى كلَّ امرأةٍ عقيم، وأطال أعمار الناس. إنه إله يأتي ليساعد الإنسان الذي يدعوه. إنه واهب الحياة لجميع البشر. كما وُجد نقشٌ على تمثال «بسنتايس Psentais» من الأسرة الثلاثين الموجود الآن في الفاتيكان، يقول: «هذا قربانٌ يقدمه الملكُ لإمحوتب بن بتاح، الذي يشفي الأمراض، ويُطبب أعضاء جسم الإنسان… إلى سيد الحياة الذي يعطي ابنًا لمن يطلب ابنًا، وبنتًا لمن يدعوه أن يهب له بنتًا، إلى مَن يشفي كل طفل مُتألّم.»

معبد حتشبسوت

وفي حدود سنة 300 قبل الميلاد، تم إنشاء معبد لإمحوتب داخل المعبد الملكة حتشبسوت الشهير ذو الجمال الفتان، والذي كانت فيه تتم عبادة إمحوتب بشكل مستمر.[9] وكما أن هناك الكثير والكثير من النصوص والمعابد التي بُنيت خصيصًا لعبادته، وقُدِّمت قُربانًا لعظمته وقدسيته، لكن للأسف لا يتسع هذا المقال لذكرها، وإن أراد القارئ الاستزادة فليرجع إلى الكتب التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة عن حياة هذا الرجل إلا ذكرتها، أقول: وإن كان لا يتسع هذا المقال لذكر المزيد إلا أنني أريد أن أنهي تلك الفقرة بنصيّن مُهميّن.

الأول هو نص على لوحةٍ مكتوبةٍ بالهيروغليفية في عصر الملكة كليوباترا، تتحدث فيه امرأةٌ مصريةٌ تُدعى «تيمحتب Taimhotep»، حيث ولدت تلك المرأة ثلاث فتيات، ثم رغبت في إنجاب ولد، فذهبت إلى الإله إمحوتب كي تدعوه ليهب لها غلامًا زكيًا، فجاءها إمحوتب في منامها يطلب منها أن تقدم له القرابين في معبده في سقارة، ففعلت ما طُلب منها، وبالفعل أنجبت ولدًا، ثم ردًا لجميل إمحوتب قررت تلك السيدةُ أن تُسمِّيَ تلك المرأةُ مولودَها الصغير باسم إمحوتب عرفانًا بفضله أن وهبها هذا المولود،[10] وكان اسم الطفل الصغير «إمحوتب-بيدوباست Imhotep-Pedubast». 

النص الثاني والأخير هو ما وُجد في بردية تتحدث عن صراع بين جيوش الآشوريين والمصريين، حيث تحكي عن ساحرة آشورية تحاول الإتيان بسحر عظيم، ثم يتصدى لها إمحوتب بسحر أعظم من سحرها، فتأتي في اليوم التالي بسحر أشد قوة من اليوم الأول، فيتصدى إمحوتب بسحر أقوى من سحرها، وهكذا حتى ينتصر عليها بسحره. كما تذكر تلك البردية عائلةَ إمحوتب، فتذكر اسم والدته «خريدونخ Khereduankh» وأخته أو زوجته «رينبيتنفريت Renpetneferet»، وكما ذكرت آنفًا أن التاريخ المصري كله ليس فيه من بني البشر ما تم تأليههم إلا إمحوتب وأمنحوتب، فإن أمحوتب حين تم رفعه إلى تلك مرتبة الآلهة، قُدست معه أمه وأخته، لكن ليس هكذا الحال مع إمنحوتب، فإنه وإن كان إنسانًا قد تم تأليهه، وبالتالي تم معه تقديس والدته إلا أن أخته لم تقدس كما حدث مع إمحوتب. لذلك يمكننا القول: إن إمحوتب هو الشخص الوحيد في التاريخ المصري كله، الذي لم يكن ملكًا ولا من نسل الملوك ورُفع من كونه بشريًا إلا إلهًا، ورفعت معه أمه وأخته.[11]

مما سبق يتضح أن لدينا معلومات حقيقية مختلطة بمعلومات خيالية وخرافية عن إمحوتب، ولنحللها معًا ونقول:

  • هل يمكننا الثقة باسم والدته أو أخته؟ لا يبدو كذلك؛ لأن اسمهما قد ذُكر في عصر متأخر، والقصة التي ذُكرا فيها هي قصة خيالية بامتياز.
  • هل يمكننا التصديق بأنه كان ساحرًا وانتصر على الآشوريين؟ لا يبدو هذا حقيقيًا بل هي خرافة من نسج الخيال.
  • هل يمكننا الثقة بأنه كان طبيبًا؟ أقول: مع أنه لا يمكن إثبات ذلك، إلا أنه لا يمكن نفيه أيضًا؛ فهو إلى الحق أقرب منه إلى الخيال.
  • هل يمكننا التصديق بأنه كان حكيمًا وفيلسوفًا؟ نعم، فهذا أمر غاية في الظهور على مدار العصور.
  • كما يبدو كذلك أنه عاش وقتًا طويلًا بعد وفاة الملك زوسر، فقد وجدنا اسمَه على الجدار المحيط بهرم الملك «سخمخت».

إمحوتب المهندس

  • الشكل الهرمي

لو كان لنا أن نُعيِّنَ شيئًا واحدًا فقط كان له أعظم تأثير على الحضارة المصرية القديمة، فلن يكون هذا إلا «مفهوم الموت»، الذي يمكن لنا أن نقول — بنوع من التَجوُّز — إنَّ الحضارةَ المصريةَ القديمةَ كلَّها قائمةٌ على هذا المفهوم بشكل رئيس؛ فلولاه ما بُنيت الأهرامات التي لا تزال قائمةً شامخةً في سماء الدنيا حتى يوم الناس هذا، ولا أُنشئت تلك المعابد الساحرة، ولا تفوّق المصريون على الجنس البشري كلِّه في فنّ التحنيط وحفظهم لجثث موتاهم، ولا تطوّر الفَنُّ ولا العمارة ولا الأخلاق ولا السياسة بهذا الشكل الذي لم يشهده التاريخ قط إلا في مصر وحدها. لكن الأمر الذي يبدو مُستغرَبًا هنا أن هذا الشكل الهرمي الذي تفردت به الأهرامات ليس مستوحًى من الموت والفناء والنهاية، بل من بداية الحياة ونشأة الخليقة.

للمصريين القدماء أساطير عديدة عن بداية الخلق ونشأة الكون، تتفاوت تلك الأساطيرُ فيما بينها تفاوتًا قليلًا أو كثيرًا حَسب الزمان والمكان والأديان والآلهة التي يعبدونها. وفق واحدة من أهم وأكثر تلك الأساطير شهرةً وانتشارًا أن ماءً بدائيًا لانهائيًا فوضويًا أسموه «نون Nun»، خرج منه كومةٌ أو تلٌ على شكل هرمي، كانت تلك القطعة الهرمية — والتي أطلقوا عليها اسم «The Benben»أول ما خُلق من الأرض، وأول ما وُجد من الكون، وقف عليها الإله «رع» إله الشمس، ليخلق بعد ذلك كل شيء.[12]

  • الدفن قبل بناء الأهرامات

    المصطبة الفرعونية

اعتاد المصريون القدماء دفنَ ملوكِهم وكهنتهم وكبار رجال الدولة وأمرائهم داخل بناء مستطيل الشكل اسمه «المصطبة». كانت تلك المصطبة تُبنى من الطين، ثم تطورت بعد ذلك وأخذت تُبنى من الطوب المحروق. وكانت تحت هذا البناء غرفتين، غرفة الدفن التي يُوضع بداخلها الجثمان، وغرفة أخرى لحفظ الأغراض والملابس والكنوز الخاصة بالميت. وكانوا يصنعون تمثالًا للميت يضعونه داخل هذا البناء ليحفظه ويحميه. وإن جرت العادة بعد ذلك أن تكون مقابر الملوك عبارة عن أهرامات، إلا أن المصطبة لم تختفِ حتى بعد استخدام الأهرامات كمقابر، وكانت المصطبات يدفن فيها الطبقة العليا من المجتمع ذات الشأن والنفوذ. ومع مرور الوقت تغيرت طريقة بناء المصطبة شيئًا فشيئًا، فكانت غرف الدفن أكثر عمقًا في باطن الأرض، وبدأ المصريون في استخدام الصخور كي يحافظوا على المصطبة عصيةً على أيدي السارقين.

  • هرم زوسر المدرج

    صورة تقريبية لشكل الهرم قديمًا

لسبب ما نجهله الآن، قرر إمحوتب تغيير وجه التاريخ للأبد؛ فلم تعهد الدنيا بأسرها بناءً بهذا الحجم الضخم، ولا مشروعًا يتطلب هذا الجهد الشاق والكثافة العمالية مثل هذا المشروع، فلأول مرة في التاريخ يرى البشرُ هذا البناء، ولأول مرة في التاريخ يُستخدم الصخر في البناء بهكذا كثافة وضخامة عوضًا عن البناء بالطوب، ولأول مرة في التاريخ يُبنى بناءٌ يصل طوله إلى هذا الارتفاع الشاهق ليكون أطول بناء بشري على كوكب الأرض، ولأول مرة في التاريخ تتقدم الهندسة وآليات البناء إلى هذا المستوى غير المسبوق في العالم أجمع. لم يفتن الناسَ عظمةُ هذا البناء وحسب، بل فتنهم جماله وسحره ولمعانه، فقد كان الهرم مبنيًا من الصخر الجيري أبيض اللون، حتى أن الناظر إليه ليراه كأنه منارة ساطعةٌ حين تنعكس عليه أشعةُ الشمس.

لم يتوقف إنجاز إمحوتب على بناء أول هرم في التاريخ (ولو توقف على ذلك لكفاه فخرًا وشرفًا)، لكنه – بالإضافة إلى ذلك – أنشأ مجمعًا كاملًا من الأبنية والمنشآت الدينية والاجتماعية، فقد بنى الهرمَ المدرج، وساحةً كبيرةً للاحتفال، ومعبدًا جنائزيًا، ومقابرَ بجواره لكبار الرموز السياسية والدينية والملكية، بل وأكثر مِن معرض للتحف والأشياء المقدسة، ثم بنى مدخلًا فاتن الجمال لهذا المجمع، وحاول أن يكون شكل هذا المجمع وتصميمه مماثلًا لشكل وتصميم قصر الملك زوسر. وبعد هذا كله، أحاطه بسور كبير من جميع الجوانب، ليكون مجمعًا شاملًا لكلِ شيء، وهو ما لم يرَ التاريخ مثيله قط. لذلك أن أراد أحد أن يرى صورةً أقرب ما يكون إلى الشكل الحقيقي الذي بناه إمحوتب فلينظر إلى تلك الصورة البديعة.

مجمع سقارة

لم يهتم إمحوتب فقط بالتصميمِ الظاهرِ الخارجي للهرم وحسب، بل لقد أولى اهتمامًا بالغًا بما تحت الهرم، حيث سيُدفن الملك. ومن أجلِ الحفاظِ على جثمانِ الملكِ وممتلكاتِه آمنة من أيدي اللصوصِ؛ أنشأ إمحوتب ممراتٍ تحت الهرم بطول ثلاثة أميال، فيها ما يقرب من أربعمائة غرفة تحوي كل شيء من الشرابِ والطعامِ والثيابِ والذهبِ والجواهر. كما صنع إمحوتب متاهةً كاملةً تحت الهرم، فيها طُرُقٌ طويلةٌ مسدودة، وممراتٌ خاطئة، وأبوابٌ مغلقة، لحماية كل ما في داخل القبر من كنوز، ثم جاء إلى الغرفة التي سيُدفن فيها الملك، وأنشأها تحت عمودٍ يصل طوله إلى 90 قدم تحت الأرض، وأغلقها من جميع النوافذ ووضع على رأسها حجرًا يصل وزنه إلى ثلاثة أطنانٍ ونصف كي لا يتمكن إنسان من حمله وإزالته، وبالتالي يضمن أن يبقى جثمان الملك في أمان تام.

ولشدة براعة إمحوتب في تشييده لهذا البناء، فقد فشل الناسُ أن يشيدوا بناءً مثله لمدة مائة عام بعد إنشائه، إلى أن جاؤوا بعد قرنٍ كاملٍ من الزمانِ وبدؤوا بناءَ أهرامات الجيزة الكبرى، التي اعتمدوا في تصميمِها على تصميمِ إمحوتب الأصلي.

كما اعتنى إمحوتب بالشكل والمظهر الداخلي للهرم اعتناءً بالغًا، فنستطيع أن نرى كيف أدخل هذا المهندسُ البارعُ عناصرَ جديدةً في فنِّ العمارة، منها استخدام جذوع النخل وحزم نبات البردي، — وهي العادة المستمرة حتى يوم الناس هذا في العمارة الريفية —. واستخدم أيضًا البوابة الخشبية، وغطى الجدران بالقيشاني الذي يعد أقدم بلاط قيشاني في العالم، ويتسم بالذوق الرفيع. وقد ثبَّت هذا القيشاني بثقبين صغيرين يمر فيهما خيط من الكتان أو الجلد، ورصَّ كُلَّ واحدةٍ بجوار الأخرى بصورةٍ تشبه الحصير، وجزء من هذا الحائط القيشاني محفوظ الآن في المتحف المصري بالقاهرة.

إمحوتب الطبيب

«وكل رجلٍ في مصرَ طبيبٌ، وحكيمٌ يفوق سائر الجنس البشري كله.»

— هوميروس، الأوديسة، الأنشودة الرابعة

أتقن إمحوتب عميلةَ التحنيط، وقام هو شخصيًا بتحنيط الملك، ويظهر إتقانُه لتشريح الجسم البشري ومعرفتُه الطبية بشكل بارز فيما وُجِدَ من بقايا جسم الملك زوسر. فحين دخل علماء الآثار مقبرة الملك زوسر عام 1934 وجدوا جذعَه وذراعَه اليمنى وقدمَه اليسرى، ويبدو بشكلٍ جليٍّ وواضحٍ أن الذي أشرفَ على تحنيطِ الجسم هو شخصٌ مُتقنٌ تمامًا ومُلمٌّ بعلوم الجسم البشري، فقد لفّ الضمادات الكتّانية حول الجسد بأفضل ما يكون.[13]

ليس هذا فحسب، بل اكتشف علماءَ الآثار دليلًا أثريًا لربما يشير إلى أن إمحوتب كان لديه معملٌ ومختبرٌ مثاليٌ ورائع لمزوالة الطب، حيث اكتشف الدكتور زاهي حواس في عام 1990 بالقرب من الأهرامات، مَجْمَعًا ومدفنًا جماعيًّا للعمال المصريين الذين بنوا الأهرامات[14]، وبعد أن أرسلها إلى معامل حديثة للكشفِ على هذه الهياكل بالأشعة السينية، تبيَّن أنها كانت لمرضى لديهم إصابات، والجميل في الأمر أن بعضَ هذه الإصابات بالفعل قد تم علاجها.[15]

بل لقد وجدوا أيضًا أنَّ بعضَ كسور اليد قد عولجت عن طريق تجبير الكسور، بل الأكثر إثارةً أنَّ بعضَ المرضى الذين بُتِرت سيقانهم وعولجوا، تمكّنوا من العيشِ لسنواتٍ بعد بتر الساق، وهذا يعني أنهم لم يتلقوا علاجًا جيدًا فحسب، بل ومتابعةً طبيةً رائعةً.[16]

وربما كان أهم ما توصلوا إليه هو رصدهم لمرضَى قد عانوا من السرطان، وقد استطاع الأطباءُ المصريون إجراءَ أولَ عميلةٍ جراحيةٍ في التاريخِ، وكانت عبارة عن ثقبٍ في الجمجمة ليخففَ من آلام أولئك الذين يعانون من السرطان بسبب الأورام التي في أدمغتهم.[17]

وكباني أوَّلَ هرمٍ في التاريخ، فيبدو أن إمحوتب قد عالج الأمراض التي عانى منها العمال، وترأَس أول مركز علاجي في العالم. وإذا ما أخذنا في الاعتبار ادعاءات بعض العلماء بخصوص محتوى بردية «إدوين سميث» والتي سُميت على اسم أول مالك لها، التي تُعدّ أقدم مخطوطة طبية في العالم، التي يرجع تاريخها إلى عام 1600 قبل الميلاد، أقول: إذا ما أخذنا قولهم بأن المعرفة الطبية الموجودة بتلك البردية يرجع الفضل فيها إلى إمحوتب، سيكون له الفضل حقًا في اختراع علم الطب بالمعنى الحرفي للكلمة كما وصفته بعض الآثار اليونانية.[18]

تكمن الأهمية العظيمة لهذه البردية ليس فقط لكونها أقدم مصدر طبي على الإطلاق، بل لأنها تحتوي على طرق علمية رصينة في التعامل مع المرضى، فتصف البردية 48 حالة من الجروح وآلام العمود الفقري، حيث تبدأ مُرتَّبَةً من الجمجمة والرقبة والأطراف العلوية والصدر ثم العمود الفقري والأطراف السفلية. تبدو البردية مُرتَّبَةً بشكل مذهل (كما وصفها الباحثون في الورقة العلمية التي تتحدث عن البردية حيث قالوا: The papyrus is astonishingly well structured) حيث تبدأ بالعنوان، ثم التعليمات المتبعة لعملية الكشف، ثم وصف الأعراض، ثم التشخيص، ثم الاستنتاج، ثم وصف الأدوية للمريض، ثم خانة إضافة تسمى «توضيحات» لتفسير بعض المصطلحات التي تبدو غير مألوفة للقارئ. بل إن فيها أقدم تشخيص في العالم لصدمات العمود الفقري والحبل الشوكي. كما أن بها شروحات كأنها ورقة تعليمية للأطباء عن كيفية تعاملهم مع هذه الصدمات، حيث أكد كاتبها على توخي الحذر الشديد أثناء التعامل مع مريض صدمات الحبل الشوكي. وكان بها أيضًا خانة إضافية لوصف كل مرض هل يمكن علاجه أم لا. ثم كتبوا بجوار صدمات الحبل الشوكي (هذه حالة ليس لها علاج) وحتى هذه اللحظة، ومنذ كتبها المصريون القدماء، وهذا المرض ليس له علاج.[19]

وإن صحت نسبة هذه البردية إلى إمحوتب، فهذا يعني أن إمحوتب قد مارس الطبَ الحديث قبل أبقراط الملقب بـ «أبي الطب» بأكثر من ألفي عام.[20] وقد تحدث ديودوروس عن المصريين وقال: «[إنهم] يديرون علاجاتهم وفقًا لقانون مكتوب وضعه في العصور القديمة العديد من الأطباء المشهورين…. وإنهم في حملاتهم العسكرية وفي رحلاتهم في البلاد يتلقون جميعًا العلاج مجانًا.» مَن هؤلاء الأطباء المشهورين الذين وضعوا آليات ممارسة الطب الذين تحدث عنهم ديودوروس؟ هل كان إمحوتب أحدهم؟ ربما من المرجح أنه كان، خاصةً عند حديثه عن فكرة العلاج المجاني، إذ من الطبيعي أن يعالج إمحوتب عماله الذين عادةً ما يصابون نتيجة عملهم في بناء الأهرام.

لم يمارس إمحوتب الطب فقط، بل وضع القوانين الأخلاقية لممارسة مهنى الطب قبل أبقراط، حيث أريد هنا أن أُوردَ عبارةً قالها من أروع ما يكون:[21]

لا تسخر من الإنسان الذي به إعاقة، ولا تسخر من الذي فقد بصرَه، ولا تضحك من الرجل الذي عقلُه فى يد الله [يقصد المريض العقلي].

ومن هنا تتضح المكانة التي أولاها إمحوتب إلى المرضى العقليين، حيث لم يسخر منهم ويهزأ، بل وصفهم بأن عقولهم في يد الله. وإذا كان الفكر السائد أن الله هو الذي يهب الناس عقولًا من عنده، فلا يزال الإله متحفظًا بعقول هؤلاء المرضى بين يديه ولم يضعها بعدُ في أجسادهم. ولم تكن القوانين الطبية مصدرًا للمعرفة وطريقةً للممارسة المهنية فحسب، بل كانت تأمينًا ضد الفشل المحتمل الذي ربما يقع فيه الطبيب، وإذا خالف الطبيب تلك القواعد والقوانين، كان يعاقب بالموت، فيذكر المؤرخ اليوناني ديودوروس ذلك بوضوح ويقول: «إذا اتبعوا [أي الأطباء] قواعد هذا القانون كما قرأوها في الكتاب المقدس ومع ذلك لم يتمكنوا من إنقاذ مريضهم، فإنهم يُبرأون من أي تهمة؛ ولكن إذا خالفوا أحكام القانون فيجب تقديمهم للمحاكمة حيث ينتظرهم الموت كعقوبة.»

نعود فنقول: نظرًا للبراعة منقطعة النظير التي اتصف بها إمحوتب، فيكفي تدليلًا على ذلك أنَّ جميعَ التماثيل المصنوعة له، كلها تصوره وهو جالسٌ وفي يديه ورقة يقرأ فيها. فلكم أن تتخيلوا معي كيف كانت حال هذا الرجل وحبه للعلم، حتى تكونَ جميعُ تماثيله تصوره وهو في حالٍ واحدةٍ فقط، وهي حالُهُ وهو جالسٌ يطلب العلم ويحمل بين يديه أوراقًا يقرأ فيها.

نظرًا لهذه البراعة الفذة، فقد قدسه الناسُ مع مرور الزمن، وصار إمحوتب نصف إله بعد ما يقرب من قرن ونصف من وفاته، واستمر معبودًا للمصريين وإلهًا لهم لمدة تصل إلى ألفي عام. ووصلت ذروة تقديسه وتأليهه إلى أن اعتبره المصريون إلهًا كاملًا عام 535 قبل الميلاد. وهو أمر بالغ الأهمية والندرة، حيث اعتاد المصريون تأليه الملوك والأشخاص الذين ينحدرون من أسرة ملكية، لكن أن يصل إمحوتب — الذي لم يكن يومًا ملكًا، ولا من نسل أسرة ملكية —، أن يصل إلى تلك المكانة ليكون إلهًا كاملًا، لهو أمر لم يحدث في التاريخ المصري إلا لإشخاص بالغي الندرة والقلة. وكانت طريقة تنصيبه إلهًا كاملًا حين تم استبدال والده البشري ووضعوا له أبًا جديدًا، وهو الإله “بتاح” أحد أشهر الإله في مصر القديمة. ولم تقف عبادته وتقديسه عند المصريين وحدهم بل عبدته شعوب اليونان كذلك، وكانوا يسافرون إلى قبرِه طلبًا للشفاء. وقد انتشرت عنه الحكايات والأساطير، حتى اعتبره المؤرخون أسطورةً لا وجود لها في الحقيقة. وظلَّ الناسُ يعاملون إمحوتب على إنه أسطورةٌ خياليةٌ لا وجود لها في التاريخ مدة طويلة من الزمن.[22] ولكن تأبى الحقيقةُ إلا أن تظهرَ مهما طالت السنون والأزمان، فبعد اكتشافِ حجر رشيد، وتمكنّا من قراءة اللغة المصرية القديمة، بدا اسم إمحوتب يتردد بشكلٍ عجيبٍ ومُستمرٍ دائمًا، وبدأ يتسائل العلماء أي مكانة وأي موضع ناله هذا الرجل! وظهرت شمس الحقيقة في عام 1926، حيث وجد الباحثُ الأثريُ «خور سلسيل» قاعدةَ تمثال الملك زوسر، المنحوت عليها اسم إمحوتب، والذي لُقِّبَ بألقابٍ لم يبلغها أحدٌ مثلُه، فوجدوا مكتوبًا عنه أنه:

  • مستشار ملك مصر السفلى
  • الأول بعد ملك مصر العليا
  • مدير القصر العظيم
  • النبيل الوراثي
  • المهندس — أو البنَّاء —
  • كبير كهنة هليوبوليس
  • رئيس النحاتين
  • المشرف على صنع المزهريات

كل هذه الألقاب كانت لشخصٍ واحد، هو إمحوتب، هذا المهندس والطبيب والفيلسوف، ثم بعد ذلك الإله المصري العظيم.

إمحوتب ونبي الله يوسف ﷺ

كما ذكرتُ في الأسطر السابقة، أنَّ المصريين القدماء قد غالوا في مكانة إمحوتب، فرفعوه فوق مصاف البشر ليكون نصف إله، وظلّوا يقدسونه ألفي عام، ثم زادوا في مكانته ثانيةً ليكون إلهًا كاملًا. لكن هذا الاحتفاء بعبقرية إمحوتب ورفعه فوق طبيعته البشرية لم يقف عند المصريين القدماء وحدهم، ولا حتى جيرانهم من شعوب اليونان والرومان، لكنه استمر حتى يوم الناس هذا، فعلى ظهر الأرض الآن مَن لا يزال يعتقد أن إمحوتب ليس إنسانًا عاديًا كباقي جنسه، بل هو في نظر بعض الباحثين المسيحيين نبيٌ من الأنبياء، فهو يوسف بن يعقوب — عليهما السلام — الذي ذكر الكتابُ المقدس سيرةَ حياته، حتى أضحى وزيرًا لحاكم مصر. ولو اقتصر هذا الرأي على بعض الباحثين في دوائر صغيرة محدودة لكان أمرًا أخف وطأة وأكثر قبولًا، لكنه رأي تبناه أكبر ساسة أمريكا، وعلى رأسهم «بن كارسون Ben Carson» الذي ترشح لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016[23]، ثم أيَّدَ دونالد ترامب وشغل منصب وزير الإسكان والتنمية العمرانية في حكومته لمدة أربع سنوات. لكن حُقَّ لنا أن نسأل: ما الذي يعطي هذا الرأي قوةً كي يتبناه هؤلاء الباحثين وتلكم السياسيين؟ بالتأكيد لم يأتوا به من العدم، فلننظر إلى ما استندوا إليه من أدلة ليصلوا إلى هكذا رأي.

يبدو — على حد علمي — أنَّ أولَ مَن طرح تلك الفكرة كان هو «توم شيتويند Tom Chetwynd» في ورقةٍ نشرها عام 1987، حيث وجد تشابهًا بين شخصية يوسف — عليه السلام — وشخصية إمحوتب. وامتدت تلك الفكرة إلى غيره من الباحثين من بعده، لكن أي تشابه هذا الذي وجدوه بين إمحوتب ويوسف؟

أولًا: قصة يوسف تتحدث أنه تحوّل فجأةً من شخص عادي إلى ثاني أهم شخصيةٍ في مصر كلها، فكان هو وزير الملك والمُتحكم في كل شيء في مصر تقريبًا. وهو ما حدث تمامًا مع إمحوتب، فقد كان شخصًا عاديًا، ثم تحوّل فجأةً إلى ثاني أهم رجل في مصر. بل إنّ نفسَ الوظائف والأعمال التي أوكلت لإمحوتب، هي نفسها تمامًا التي أوكلت لنبي الله يوسف. فلا يمكن في اعتقادهم أن يكون هذا محض صدفة؛ فالكتاب المقدس يقول في سفر التكوين:

ثم قال فرعون ليوسف: «انظر، قد جعلتك على كلِ أرض مصر». وخلع فرعونُ خاتمَه من يده وجعله في يد يوسف، وألبسه ثياب بوص، ووضع طوق ذهب في عنقه، وأركبه في مركبته الثانية، ونادوا أمامه «اركعوا». وجعله على كل أرض مصر. وقال فرعون ليوسف: «أنا فرعون. فبدونك لا يرفع إنسانٌ يدَه ولا رجلَه في كل أرض مصر».

ذلك هو نص الكتاب المقدس في حديثه عن مكانة يوسف التي نالها في مصر، وإذا ما نظرنا إلى وظائف إمحوتب فقد كانت:

«رئيس القضاة»، «والمشرف على سجلات الملك»، «وحامل الختم الملكي»، «ورئيس جميع أعمال الملك»، «والمشرف على ما تأتي به السماء»، «وما تخلقه الأرض»، «وما يأتي به النيل»، «والمشرف على كل شيء في هذه الأرض بأكملها».

هذا التشابه دفع كثيرًا من الباحثين للربط بين يوسف عليه السلام وإمحوتب الوزير الفرعوني، حيث ذكر الدكتور «لينارت مولر Lennart Möller» في كتابه ما يقرب من سبعة وعشرين وجهًا من أوجه التشابه بين أمحوتب ويوسف عليه السلام .[24] بعد ما طرحوه من دليل، أظن أن لنا الآن أن نسأل: هل يمكن لأجل هذا التشابه في الوظائف أن يكون كافيًا للربط بين الشخصيتين؟ بالتأكيد لا يبدو هذا الدليل كافيًا إلى حد يقنع القارئ؛ لأن هناك الكثير من الشخصيات المصرية التي ينطبق عليها هذا الوصف وليس فقط إمحوتب، فالدكتور «دونوفان كورفيل Donovan A. Courville» قد اختار «منتوحتب» ثاني وزير للملك «سنوسرت الأول Senusret I» في الأسرة الثانية عشرة ليكون هو يوسف عليه السلام .[25] والباحث «تيد ستيوارت Ted T. Stewart» قد اختار أول وزير لنفس الملك على الرغم من أن المصادر التاريخية لا تذكر لنا اسم هذا الوزير.[26] والدكتور «تشارلز ألينج Charles F. Aling» قد اقترح أن يكون يوسف هو وزير الملك «سنوسرت الثاني».[27] وغيره من الباحثين اقترح أن يكون يوسف وزيرًا لملكٍ من الهكسوس وليس ملكًا من المصريين. مهما يكن من شيء، فهذا التشابه يصدق على أشخاص كُثُر كانوا وزراء في التاريخ المصري، فلا يكفي تشابه المهام للاستدلال على أنهما نفس الشخص. 

قالوا: إن لم يكن الدليلُ الأولُ — وهو التشابه في الوظيفة وأدوار كل منهما — كافيًا، فلدينا دليل آخر أكثر قوةً وأوضح دلالةً. حيث يحكي الكتابُ المقدس أن يوسف كانت لديه قدرة على تأويل الأحلام وتعبيرها، وأن الملك قد استعان به ليعبّر له منامَه، وكان تعبير يوسف أن الأرض ستمر بسبع سنوات عجاف لا نبت فيها ولا زرع ولا ماء، واستعان الملك بيوسف ليقوم بتولي أمر مصر ليتجنب بها ويلات تلك المحنة المميتة، ويرسوا بها على شاطئ الأمن والرفاهية. كل هذا يذكره الكتاب المقدس عن دور يوسف في مصر، وإذا ما نظرنا إلى بعض النقوشات الحجرية في «جزيرة سهيل Sehel Island» التي تقع وسط نهر النيل بجنوب محافظة أسوان، سنجد العجب العجاب، ففي نقشٍ على صخر من الجرانيت يُسمّى «لوحة المجاعة The Famine Stela» يتحدث هذا النقش عن قصةٍ لمجاعة استمرت لمدة سبع سنوات أيام حكم الملك زوسر، فكتب الملكُ رسالةً إلى وزيره إمحوتب يقول له فيها:

أريد أن أعلمك أنني أعيش في ضيق على عرشي العظيم، والذين معي في القصر تنفطر قلوبُهم من شدة الوجع نتيجة ما رأوه من شرٍّ مُهلِك؛ إذ لم يأت النيل في عهدي منذ سبع سنين. فقلَّت الحبوب في الأرض ونقصت، ويبست الثمار وذبلت، ولم يجد الناس ما يأكلونه ولا ما يقيمون به أودهم. فصار كل رجل يسرق رفيقه… وأمسى الأطفال الرُّضع ينتحبون من شدة الفقر، والشباب ينتظرون الفرج؛ وخيّم الحزن وأصاب الوهنُ قلوبَ الرجال المسنين، وكانت أرجلُهم لا تقدر على حملهم، وأيديهم فقيرة ومغولة إلى أعناقهم. لقد تم إغلاق المعابد، وصارت الأماكنُ المقدسةُ خاليةً من كل شيء وليس فيها فقط إلا الهواء. لكنني بعد ما أمعنتُ التفكير والنظر، لم أجد أمامي إلاك يا إمحوتب، وزيري الكبير، ورجل الحكمة المتعالية، وابن الإله بتاح، لأسألك: إن كنت تعلم من أي مكان ينبع نهر النيل؟ ومَن هو إله النيل الذي يتحكم به لتساعدني في الوصول إليه؟ 

لوحة المجاعة The Famine Stela

تمضي القصة في سردها لتخبرنا بأن إمحوتب أجابه بأنه سيستعين بالله، وسيمضي إلى حيث ينبع النيل، ليعلم مَن هو الإله الذي يتحكم به، ويطلب منه أن يُجريَ النيل بالماء مرة أخرى لينعم المصريون بالحياة. فتوصّل إمحوتب إلى أن النيل ينبع من جزيرة اسمها «إلفنتين Elephantine» وأن الإله الذي يتحكم به هو الإله «خنوم Khnum»، فذهب إليه على الفور، وتطهّر وهو مقدم على هذا الإله، وناداه وعظّمه وقدّسه، وأخبره بأنه سيقدم له كل الخير والقرابين الذي يريدها، ثم أصاب إمحوتب النُعاسُ فجأةً ونام رغمًا عنه، وفي حلمه، ظهر له الإله «خنوم Khnum» بمظهرٍ حسن، وأخبره عن نفسه، ووعده بأنه سيسمح بجريان النيل بالمياة لتعود الحياة للمصريين مرةً ثانية، وتنمو النباتات وتنضج الثمار، وتعود البهجة والفرحة في قلوب الناس. وما إن أفاق إمحوتب من نومه، كتب كلَ ما رآه في حلمه إلى الملك زوسر، فقرر الملكُ أن يمنح هذا الجزء من الأرض لعبادة الإله «خنوم Khnum» وكهنته وتقديم القرابين له.[28]

يجادل أصحابُ هذا الرأي بأن تلك القصة دليلٌ أكثر ظهورًا على فرضهم وإدعائهم، فهذا التشابه الصارخ بين قصة نبي الله يوسف وإمحوتب، بداية من الملك الذي طلب مساعدة يوسف، وتشابه هذا مع زوسر الذي طلب مساعدة إمحوتب، والسنوات السبع بهذا العدد المذكور في النقش، هو نفسه العدد بعينه الذي ذُكر في الكتاب المقدس، وقصة الحلم الذي رآه إمحوتب، تتشابه مع الحلم الذي رآه الملك في الكتاب المقدس. ورغم إقرارهم بأن القصةَ ليست متطابقةً في جميع تفاصيلها تمامًا، إلا أن هذا التشابه الكبير لا يمكن إهماله. ثم لا يقف الإدعاء عند هذا وحسب، بل يذهب البعض إلى أن هرم سقارة المدرج الذي بناه إمحوتب لم يكن مجرد مكان بُني ليُدفن فيه الملك، فهذا البناء الضخم المهيب، بحجراته الكثيرة وأحجامها الكبيرة، وطريقة تصميمها، ثم نوعية الصخور التي بُنيت بها، كل تلك الأمور ربما تشير إلى أن الهرم كان في حقيقة الأمر صومعةً عملاقة بناها إمحوتب الذي هو يوسف ليحفظ فيها الحبوب والثمار والطعام.

لكن بعد فحص دقيق لهذا النقش الهيروغليفي الذي يستندون إليه، سيتبين أنه قد كُتب في عصر البطالمة في مصر غالبًا في عهد بطليموس الخامس أي في حدود القرن الثاني قبل الميلاد، والملك زوسر قد عاش في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، أي أن هناك فارق زمني يصل إلى ٢٥٠٠ سنة بين كتابة هذا النص وبين الأحداث التي يتحدث عنها. فهل يمكن الاعتماد على مصدرٍ يفصل بينه وبين الواقعة أكثر من خمسةٍ وعشرين قرنًا؟

يرى بعض الباحثين أن هذه القصة تم اختلاقها مِن قِبَل كهنة الإله «خنوم Khnum» في مصر ليبرروا بها سلطانهم وامتلاكهم وحقهم وسيطرتهم على تلك الجزيرة؛ فقد اختاروا الملك زوسر ووزيره إمحوتب، لما يتمتع به هذا الملك وذاك الوزير من شهرة عالية وسلطان كبير في نفوس كلٍ من المصريين والبطالمة على حد سواء، وأنَّ حقَّهم في تلك المعابد هو بمرسومٍ من الملك زوسر، وأنه لو تم إبعادهم أو إخراجهم من معابدهم وأماكنهم، فإن الإله «خنوم Khnum» سيحل سخطه عليهم وسيُنزل غضبه بالمصريين وسيمنع عنهم ماء النيل ليصيروا إلى مجاعة وبؤس كما كانوا من قبل.[29] لكن رغم قول بعض الباحثين أن تلك القصة ربما اختلقها كهنة الإله «خنوم Khnum» إلا أنهم لا يجزمون بذلك على وجه اليقين، ويقرون بأن الجزم واليقين في تلك القضية من الصعوبة بمكان، إذ من المحتمل كذلك أن تكون قد وقعت حقيقةً واستطاع إمحوتب أن يُنجي مصر من تلك السنين العجاف، وأنّ تطاول الزمن بين تاريخ الواقعة وكتابة النص ربما يدل على أنها استمرت في وجدان المصريين وعقولهم ورواياتهم الشعبية.

لكن ماذا عن التطابق في عدد سنوات المجاعة السبع بين الكتاب المقدس والنقش الهيروغليفي، ألا يعتبر ذلك دليلًا قويًا على صدق هذا الادعاء؟ الحق يُقال أن ذلك العدد — أعني السنوات السبع من المجاعات ذُكر كثيرًا في حضارات الشرق الأوسط، ففي مصر الفرعونية هناك ذِكْرٌ لمجاعة استمرت لمدة سبع سنوات أيام حكم الملك «نفركاسوكار Neferkasokar» وهو أحد ملوك الأسرة الثانية.[30] وكذلك نفس السنوات السبع مذكورة في حضارة بلاد الرافدين في ملحمة جلجامش.[31] فلا أظن القارئ سيختلف معي أن زعم هؤلاء الباحثين بأن الاتفاق في عدد السنوات السبع يعد دليلًا قويًا على أن إمحوتب هو سيدنا يوسف هو زعم ليس بصحيح، خاصةً إذا ما أضفنا إليه الاختلاف بين القصتين، ففي القصة التوراتية يتم الحديث عن سبع سنوات من الرخاء تلي تلك السنوات العجاف، وهو ما ليس له ذكر في قصة إمحوتب. أضف إلى التعارضات الصارخة بين قصة الكتاب المقدس وقصة المجاعة التي كان لإمحوتب الفضل في إخراج مصر منها. ولنذكر خلافين اثنين فقط أساسين منعًا للتطويل في هذا المقال.

أولًا: هناك شبه إجماع تقريبًا من علماء الكتاب المقدس أن يوسف عليه السلام عاش سنة 1876 قبل الميلاد، بناءً على حساب تاريخ وجود موسى وخروج اليهود من مصر.[32] وإذا ما صحّ هذا التاريخ، فإن نبي الله يوسف من المفترض أن يكون قد عاش تقريبًا في وقت الأسرة الثانية عشرة. لكن كما ذكرنا في بداية المقال أن الملك زوسر كان أحد ملوك الأسرة الثالثة، أي أنه يفصل بين إمحوتب وبين التوقيت التوراتي لوجود سيدنا يوسف تسع أسرات فرعونية، أي ما يقرب من 800 سنة. وهو فارق زمني هائل لا يمكن بحال من الأحوال الجمع والتوفيق بينهما.

ثانيًا: تُجمع المصادر التاريخية تقريبًا بما فيهم علماء المصريات أن الخيول ليست من الحيوانات التي عرفها المصريون القدماء ولا كانت جزءًا من ثقافتهم، وأن أول دخول للخيول لمصر وأول معرفة للمصريين القدماء بوجود الخيول كانت مع دخول الهسكوس واحتلالهم لمصر، وبذلك بدأ تأسيس الأسرة الخامسة عشر.[33] لكن الكتاب المقدس يحكي عن يوسف عليه السلام أنه حين مات أبوه يعقوب أمر بتحنيطه وكانت مراسم دفنه فيها عربات وفرسان، والفارس هو الذي يمتطي فرسًا، فإذا ما صحت الرواية التوراتية، فمعنى ذلك أن المصريين القدماء قد عرفوا العربات والخيول قبل دخول الهكسوس بما يقرب من الألف عام، مع أن ذلك يتعارض مع ما لدينا من معلومات حول التاريخ المصري القديم.

إمحوتب الأديب

كتب إمحوتب كتاباتٍ عديدة في مجالاتٍ كثيرة، ولا بد أن نذكر لهذا الرجل فضله على اللغة المصرية القديمة، فقالوا: «إنه أوَّل مَن أدخل الأفعال في اللغة المصرية». ففي الوقت الذي كانت اللغة المصرية فيه عبارة عن مجموعة من الصور، ولكل صورة منهم معنى، فقد واجه المصريون مشكلةً كبيرة حين زاد عدد الصور بحيثُ تجاوز الألف، وحينها أدركوا أن الكلام ليس أسماءً فقط، بل هو أفعال أيضًا. فليس من الممكن أن نستخدم صورة العين لكي نستدل بها على العين، ونستخدمها أيضًا لنقصد بها فعل «يرى».[34]

وهنا تدخل إمحوتب ليدلو بدلوه، فطوّر استخدامات الصور، فإذا أُضيفت الصورة إلى رجل بعد أدوات الكتابة، فكان هذا دلالة على «الكاتب»، بينما إذا أضيفت بردية مع أدوات الكتابة، فتكون هذه دلالة على فعل «يكتب» وليس على «الكاتب».

صورة توضح الفرق بين الاسم والفعل
صورة توضح الفرق بين الاسم والفعل

وأريد في النهاية أن أنقل لكم نصًّا أدبيًّا كتبه إمحوتب، يُعرف بـ«أغنية الهارب»، الذي استمر المصريون في ترديده حتى فتراتٍ متأخرةٍ من التاريخ المصري، التي تكشف بعضًا من عُمْق تفكير وفلسفة إمحوتب، الذي استطاع من خلال أشعاره أن يُعلِّم الإنسانَ قيمة الحياة، وكيف يصنع من الحزنِ فرحًا.[35]

الكلُ يذهب.. الفقيرُ والنبيل.. ومن ادّعى الألوهية
ماذا بقي من القصورِ بعد أن غابت الحياة؟
هل عاد إلينا أحدٌ منهم؟
نعرف أنّ أحدًا لن يعود، فلنقل: هذا جميل، ولنسعدْ به
ولنحيَ بإحساسٍ نابعٍ من القلب، ونندهش دائمًا، فربما نلتقط السعادةَ.

خاتمة

هذا هو إمحوتب، أردت أن أقدمَه لكم في سطور، لعلكم تحبونه كما أحبه، فما أحوجنا أن نرى من أبناء جيلنا الآن من يكونون خلفًا لأجدادهم العظماء الذين أبهروا الدنيا بعلومهم وقادوا العالم بعقولهم وإنجازاتهم. رحم اللهُ هذا العبقري العظيم وأسكنه في عليين، ونسأل الله أن يجزيه عنا خير الجزاء.

فريق الإعداد
الدورالاسم
إعدادمحمد رضا
شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي