مركبتي (Voyager 1) و(Voyager 2) أكثر مركبتين قطعتا مسافةً بعيدًا عن الأرض، بجانب كونهما أطول سفن الفضاء في العمر أيضًا، يصادف أنهما يكملان خلال شهري أغسطس وسبتمبر الجاري 40 عامًا من العمل والاستكشاف المستمرين، وعلى الرغم من تلك المسافة الشاسعة التي تفصلنا عنهم إلا أن هذا لم يمنعهم من التواصل يوميًا معنا، محققين إنجازات إلى اللانهائية وما بعدها.
لم تؤثر قصة كفاح المركبتين فقط على أجيال حالية وقادمة من العلماء والمهندسين، إنما شمل تأثيرها حتى على ثقافتنا الأرضية من أفلامٍ وفنٍّ وموسيقى: حيث أنَّ كل سفينة منهما تحمل فوقها أسطوانة من خام الذهب، مسجل عليها الكثير مما يخص كوكبنا من أصوات، صور وموسيقى. وبكون تلك السفن بإمكانها الصمود لمليارات السنين؛ فإن تلك الكبسولات الزمنية ستكون يومًا ما هي آخر أثر باقي من الحضارة الإنسانية.
وقد قال (توماس زيربشن – Thomas Zurbuchen) -المدير المساعد لمديرية بعثة ناسا للعلوم (NASA’s Science Mission Directorate (SMD)) بالمقر الرئيسي لوكالة ناسا-:
«أنا أؤمن بأنه ليس بمقدرة إلا القليل من البعثات أن يواكب إنجازات مركبتي فوياجر خلال ال(40) عامًا المنصرمة من الاستكشافات”، كما أضاف توماس: “لقد قدمونا إلى عجائب كونية مجهولة، وقاموا حقًا بإلهام الإنسانية للاستمرار في استكشاف نظامنا الشمسي وما وراءه.»
وقد حققت المركبتان أرقامًا قياسية عظيمة خلال رحتلهما بشكلٍ منقطع النظير، ففي عام 2012 أصبحت مركبة فوياجر1 –والتي انطلقت من الأرض في الخامس من سبتمبر عام 1977- هي المركبة الوحيدة التي دخلت (الفضاء البين نجمي – Interstellar space) أي خارج حدود المجموعة الشمسية. كما أصبحت مركبة فوياجر2 –والتي انطلقت في العشرين من أغسطس عام 1977- المركبة الأولى التي تحلق بجانب الكواكب الأربعة الخارجية: (المشترى، زُحل، أورانوس ونيبتون).
كما شملت تلك اللقاءات الكوكبية المتعددة استكشافات كثيرة منها:
- أول سلسلة براكين نشطة خارج الأرض، والذي وُجدت على سطح (آيو – Io) أحد أقمار كوكب المشترى.
- دلالات وأثار لوجود محيط تحت سطح قمر (أوروبا – Europa) وهو أحد أقمار المشترى أيضًا.
- كما وجدوا أكثر غلاف غازي مشابه لجو الأرض على قمر (تيتان – Titan) أحد أقمار زُحل.
- استكشاف القمر الجليدي (ميراندا – Miranda) التابع لأورانوس.
- منابع الماء المتجمدة على سطح قمر نبتون (ترياتون – Triton).
ومع أن المركبات تركت تلك الكواكب وراءها ولن تقترب حتى من أي نجم آخر لمدة 40 ألف عامًا، إلّا أنّ المسباران مازالا يرسلا إلينا معلومات عن المواقع والظروف التي يتلاشى فيها تأثير الشمس، ومن أين يبدأ الفضاء البين نجمي.
فويجر1 -والتي تبعد عن الأرض مسافة 13 مليار ميل- تتجه شمالًا خلال الوسط بين النجمي، وخارج مستوى كواكب المجموعة الشمسية. وقد أبلغ المسبارُ الباحثين أن الأشعة الكونية -والتي تتحرك أنوية ذراتها بسرعة تصل تقريبًا إلى سرعة الضوء- منتشرة في الوسط البين نجمي بكثافة أكبر 4 مرات عن انتشارها في محيط كوكب الأرض، مما يعني أن (الغلاف الشمسي – Heliosphere) –وهو غلاف أشبه بفقاعة ضخمة تحوى جميع كواكب النظام الشمسي بالإضافة للرياح الشمسية- يعمل كدرع واقي وفعال لحماية الكواكب من الإشعاعات.
كما أشارت فوياجر1 إلى أن المجال المغناطيسي للوسط البينجمي يلتف حول الغلاف الشمسي.
ومن الجهة الأخرى نجد أن فوجير2 –والتي قطعت مسافة 11 مليار ميل بعيدًا عن الأرض- تتجه جنوبًا عكس شقيقتها الصغرى، ومتوقع أن تدخل الفضاء البين نجمي خلال السنوات القليلة القادمة.
هذا الاختلاف في المواقع والاتجاهات بين المركبتين سمح للعلماء بالمقارنة بين منطقتين مختلفتين من الفضاء حيث يتداخل الغلاف الشمسي مع الفضاء البين نجمي، ويتم ذلك باستخدام أدوات ومعدات تقيس الجسيمات المشحونة، المجال المغناطيسي، موجات الراديو منخفضة التردد وبلازما الرياح الشمسية، وما أن تعبر فوياجر2 إلى وسط الفضاء البين نجمي سنتمكن أيضًا من قياس عينات من وسطين مختلفين في الوقت ذاته.
وتعقيبًا على ذلك صرح (إيد ستون – Ed Stone) –عالم بمشروع فويجر المقام بجامعة كالتيك بمدينة باسادنا بكاليفورنيا-:
«عندما أطلقنا المركبتين من 40 عامًا لم يتوقع أي منا أنها ستظل تعمل حتى هذه اللحظة وتستمر في تلك الرحلة الأولى من نوعها»، ثمَّ أضاف: «كما أن أكثر الاستكشافات إثارة من المرجح اكتشافها خلال الخمس سنوات المقبلة وسنتفاجئ بعدم علمنا بوجودها حتى لنرسل ما يستكشفها.»
وبفضل بُعد نظر هؤلاء العلماء ومصممي البعثة؛ أصبح الأخوان فوياجر أصحاب إنجازات عظيمة، وذلك من خلال إعدادهم لمواجهة مختلف البيئات والعوامل المناخية خلال محطاتهم المختلفة مثل: بيئة المشترى الإشعاعية -والتي تعتبر أقسى بيئة كوكبية من بين كواكب المجموعة المشسية-، كما تمَّ تجهيز المركبتين جيدًا لمحطات أخرى لاحقة؛ فكل منهما يحمل أنظمة تمكنه من التبديل ذاتيًا لأنظمة دعم متعددة، بالإضافة إلى (مزودات طاقة – power supplies) طويلة الأمد، وكل منهما يحمل على متنه ثلاثة من (بطريات النظائر المشعة – radioisotope thermoelectric generators) وهي مصادر طاقة تستخدم الحرارة المتولدة من التحلل الإشعاعي لمادة (plutonium-238) والتي تمتد فترة عمر النصف الخاصة بها لـ 88 عامًا.
أما من ناحية الأمان فالفضاء -من اسمه- تقريبا خالٍ من أي شيء؛ لذا لا يوجد ما يهدد بارتطام السفن بأجسام فضائية ضخمة، ومع ذلك فإنَّ بيئة الفضاء البين نجمي المحيطة بفوياجر1 ليست فارغة بالكامل، ولكنها مليئة بسحب من مواد خفيفة ظلت عالقة من أثر إنفجار نجوم كـ(مستعرات عظمى – supernovae) منذ ملايين السنين، تلك المادة لا تشكل أي خطر على المركبة بل على العكس تعد جزءً أساسيًا من بيئة الفضاء هناك والتي أُرسلت إليها المركبة لمساعدة العلماء على وصفها ودراستها.
ونتاجًا لانخفاض الطاقة المحركة للمركبتان بمقدار 4 وات سنويًا، يدرس المهندسون كيفية تشغيل المركبات تحت أكثر قيود الطاقة شدة، وفي سبيل إطالة عمر المركبتين، كان على المهندسين أيضًا الرجوع إلى المستندات والوثائق العلمية المؤرشفة لمدة عِقْد من الزمن والتي بها وصفًا مفصلًا للبرمجيات والإرشادات، وذلك بالإضافة إلى خبرة المهندسين السابقين المختصين بالمركبتين.
وقد صرحت (سوزان دود – Suzanne Dodd) -مديرة مشروع فويجر الواقع بمختبر الدفع النفاث الخاص بوكالة ناسا بمدينة باسادينا-:
«التكنولوجيا المستخدمة يقدر عُمرها بعدة أجيال ماضية، وقد استغرق الأمر من المختصين خبرة تصميمات سبعينات القرن الماضي كاملة؛ ليتوصل إلى كيفية إدارة المركبة، وعن ماهية التحديثات التي يمكن إضافتها لتمكنهما من الاستمرار في العمل حتى يومنا هذا وحتى المستقبل أيضًا.»
كما قدَّر أعضاء الفريق بأن المركبتين ستضطران إلى إيقاف آخر المعدات بحلول عام 2030، وحتى بعدما يحدث هذا وتستمران في السباحة في الفضاء بسلام، ستظل محتفظة بالالتزام بالسير في مساراتها بسرعة تقدر بأكثر من 30,000 ميل في الساعة أو ما يعادل (48,280 كم في الساعة)، صانعة دورة كاملة حول مجرة درب التبانة كل 225 مليون سنة.
ترجمة وإعداد: محمود الدعوشي
مراجعة وتدقيق: Mohammed Abkareno
المصادر: