الكذب، والكذبة النبيلة
قليل هو عدد الفلاسفة المعاصرين، الذين يـتَّـفـقون مع موقف (كانط) الذي يقول:
«إنَّ الكذب دائمًا محظور أخلاقـيًّا، وبالمقابل، ثَـمَّـة نوعان من الكذب حاليًا، يُنظر إليهما بشكل عام، على أنَّهما مقبولان أخلاقيًّا.» [2]
«إن المرء غير معذورٍ في الكذب، حتى وإن كان يكذب على قاتل لمنعه من الوصول لضحيته.»
ففي كتابه «الجمهورية»، وعلى لسان سقراط، يطرح أفلاطون الحاجَةَ لأكاذيب تؤسِّس للمجتمع، وتوفِّر له الاستقرار. [4]
وتنقسم تلك الأكاذيب إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: يتعلَِّق بكيفية نشأة الحياة.
القسم الثاني: معنِيٌّ بالتقسيم الطبقي للمجتمع، وكيفية إدارته.
أمَّا عن الأول؛ فيشمل -حسب أفلاطون- إخبار الحاكمِ أفرادَ المجتمع أنَّهم جميعًا وُلِدُوا مِن رَحِم الأرض، وأنَّ شبابهم كله، وما تلقَّوه مِن تدريب وتعليم خلاله، ما كان إلا حُلمًا رأوه أثناء حمل الأرض لهم في رَحِمِهَا، وأنَّهم مَدِينُون للأرض -بسبب كونها أمّهم- بحمايتهم والدفاع عنهم.
أمَّا القسم الثاني؛ فهدفه الإبقاء على تنظيم معين للمجتمع، عن طريق تقسيمه إلى ثلاث طبقات: الطبقة الأولى تتكون من أولئك القادرين على الحكم، الَّذين يختلط بدمهم الذهب، والطبقة الثانية تجري في دمها الفضة، وهي طبقة الحُرَّاس المسؤولة عن الدفاع عن الأرض، أما الطبقة الثالثة فدورها هو العمل في الحِرَف والعناية بالأطفال، ويجري في دمها الحديد.
الكذبة وما بعد الحقيقة
أصبحت الأكاذيب جزءًا من التكوين الجِيني للمجتمع المعاصر، على الرغم من أنَّنا غالبًا ما نُشير إليها بمصطلحات أكثر تبجيلًا، مثل: الدعاية والإعلان، والبروباجاندا، والدوران حول المعنى.
ويبدو أنَّ جميع الناس، يَجنُونَ قُوتَ يومهم من الأكاذيب، بدءًا مِن بائعي السيارات المستعمَلة -عديمي الضمير-، وصولًا إلى رؤساء الوزراء، الّذين يُصدِرُون تصريحات غير مُدْعَمة بالأدلة عن حيازة أسلحة الدمار الشامل، وفي المخيّلة العامة، السياسيون هم كاذبون محترفون حدَّ التميُّز.
أو كما قال جورج أورويل:
«اللغة السياسية… مصممة لجعل الأكاذيب تبدو حقيقية، والقتل عملًا جليلًا.»
تحدثت الفيلسوفة (حنا أرندت) بامتعاض في موضوعها «الحقيقة والسياسة»، المنشور في ذي نيويوركر(بالإنجليزيَّة: The New Yorker) عام (1967) عن واقع أنَّ السياسة والحقيقة لا يجتمعان معًا.
لكنها على وعي بأنَّ الأكاذيب ليست كلها متشابهة؛ فهناك أكاذيب عبارة عن خداعٍ في صورة متدنية، وتمزق صغير في نسيج الحقيقة، بينما هنالك أكاذيب أخرى كبيرة، إلى حد أنَّها تـتطلب إعادة ترتيب شاملة لنسيج الحقائق كله، وتحوُّلًا إلى حقيقة أخرى.
كانت (أرندت) تحذرنا من الفرق بين الكذبة من جهة، وما يسمى (بمصطلح اليوم) و(كلمة العام) لسنة (2016) في قواميس «أوكسفورد» «ما بعد الحقيقة» من جهة أخرى.
إحدى الطرق لفهم الفرق بين الكذبة وما بعد الحقيقة، هي: أنَّ الكاذب ينكر وقائع معينة، لها إحداثيات محددة في المكان والزمان؛ بينما ما بعد الحقيقة تشكك في طبيعة الحقيقة نفسها. الكاذب يعلم الحقيقة، وبمحاولته إقناعنا برواية مختلفة فإنه، وللمفارقة، يعظِّم من شأن الحقيقة، بينما لا تسمح مقاربة ما بعد الحقيقة للحقيقة بملاذٍ أخير.
يصبح الفرق بين الكذبة وما بعد الحقيقة واضحًا مقارَنَةً بين رئيسَين أمريكيّّـين حديثَين (بيل كلينتون)، و(دونالد ترامب).
ففي مؤتمر صحفي للبيت الأبيض، في (السادس والعشرين من يناير) عام (1998)، قال كلينتون عبارته الشهيرة:
«أُرِيد أن أقول شيئًا واحدًا للشعب الأمريكي: أريدكم أن تستمعوا إليَّ، سوف أقولها ثانية: لم يكن لديَّ علاقة جنسية مع هذه السيدة -سيدة لوينسكي- لم يسبق لي أنَّى لأحد أن يكذب؟! لم يحدث هذا ولو لمرة واحدة، لم يحدث هذا أبدًا.»
لقد كذب كلينتون، وهذا لم يكن مُبرِّرًا، لكن علاقة (ترامب) بالحقيقة أكثر اضطرابًا وتعقيدًا من ذلك؛ فاتهام ترامب المستمر بالأخبار الكاذبة ضد وسائل الإعلام الرئيسيّة التي تضمنت «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«سي إن إن» يعكس ازدراءً طويل المدى للحقيقة.
فترامب على عكس كلينتون لا ينكر ببساطة حقائقَ معينة، بدلًا من ذلك يكون عازمًا على إضعاف وتقويض البنية النظرية، التي تجعل من الممكن إقامةَ نقاش حول الحقيقة.
يعد ردُّ فعل ترامب وسلوكه تجاه ادعاءات الخيانة المُقامَة ضدُّه مثالًا نموذجيًّا لِمَا بعد الحقيقة؛ يقوم على رفض تقارير العزل، ونَعْتِها بالتمثيلية المُصطَنعة، ومُطاردة الساحرات.
استراتيجية ترامب هي صُنع بيئة تكون فيها الحقائق الموضوعيّة ذات تأثيرٍ أقل في تشكيل الرأي العام، حيث الأُطُر النظرية الضرورية لمِنطَقَة بعض الأحداث مُزدراة، وحيث الحقائق العلمية محرومة من شرعيتها.
هذا هو الفرق الجوهري بين الكذَبة، وما بعد الحقيقة!
ففي حين تخرِّب الكذَبَةُ حقيقةً مُعيَّنة، ما بعد الحقيقة تخرِّب الحقيقة نفسها.
عداوة ترامب للحقيقة مُنعكسة في الإدعاء البارز لأحد محاميه -المدعو (رودي جولياني)- أنَّ «الحقيقة نسبية».
(جولياني) كان يتحدّث على أخبار (إن بي سي) عن طلب المستشار الخاص (روبرت ميلر)؛ لمقابلة مع ترامب بخصوص تحقيق روسيا.
أثار جولياني قلقًا بخصوص احتمالية أن يكذب ترامب تحت القسم، لأن «الحقيقة ليست هي الحقيقة».
ما بعد الحقيقة؛ هو مفهوم قاتم، لكن لا يجب الخلط بينه وبين الكذبة.
ما بعد الحقيقة أكثر خداعًا وخطرًا على النسيج الديموقراطي لمجتمعنا.
البادئة «ما بعد» في ما بعد الحقيقة، تشير إلى الادِّعَاء أنَّ فكرة ما قد أصبحت فائضة عن الحاجة؛ ولهذا فمن الآمن التخلص منها.
ما بعد الحقيقة هو القناعة بأنَّ الحقيقة لم تعد ضرورية، وأنَّها أصبحت بالِيَة.
يمكننا التعايش مع كون السياسيين يكذبون، لكن ليس بإمكاننا تحمُّل خطر قيام السياسيين بسحب شرعية الحقيقة. [1]
المصادر:
[1] Bufacchi, V., 2020. What’s The Difference Between Lies And Post-Truth In Politics? A Philosopher Explains [online] The Conversation. Available at: https://theconversation.com/whats-the-difference-between-lies-and-post-truth-in-politics-a-philosopher-explains-130442>
[2] Dombrowski, D. (1997). PLATO’S ‘NOBLE’ LIE. History of Political Thought, 18(4), 565-578. Retrieved from www.jstor.org/stable/26217435
[3] Stanford Encyclopedia of Philosophy. 2016. Kant’S Moral Philosophy (Stanford Encyclopedia Of Philosophy). [online] Available at: https://plato.stanford.edu/entries/kant-moral/#CatHypImp> [Accessed 15 April 2020].
[4] 2002. The Republic By Plato. [ebook] Available at http://www.idph.net/conteudos/ebooks/republic.pdf
[5] Varden, H., 2010. Kant And Lying To The Murderer At The Door . . . One More Time: Kant’s Legal Philosophy And Lies To Murderers And Nazis. [online] Wiley Online Library. Available at: https://onlinelibrary.wiley.com/doi/epdf/10.1111/j.1467-9833.2010.01507.x