«الميتوكوندريا» كيف تعمل مصانع الطاقة في الخلية؟!

download

|||

تَحكُم الجسم كيمياء صارمة للغاية، وهذه الكيمياء هي سر قدرة أجسامنا على تحويل الطعام الذي نأكله والهواء الذي نتنفسه إلى طاقة للحركة وبناء الجسم والعمليات الحيوية والتفكير من خلال مجموعة من التحولات الكيميائية المنضبطة. أغلب هذه العمليات تحدث في الميتوكندريا. الميتوكوندريا تمثل حوالي خُمس حجم الخلية، ولها أهمية خاصة، فهي تعتبر مصانع الطاقة في الخلية.

فما هي الميتوكوندريا؟ وكيف يتم تصنيع الطاقة فيها؟ ولماذا تتشابه مع أوليات النوى في بعض الصفات؟ وإذا كانت هناك كائنات تعيش بدون ميتوكوندريا كيف تستطيع أن تنتج طاقتها؟ كل هذه الأسئلة ـ وأكثر ـ سوف نناقشها في السطور القادمة من أجل إعطاء صورة عامة عن طبيعة هذه العُضَيّة وأهميتها وخصوصيتها.

خلفية تاريخية

  • بدأ الكشف عن وجود الميتوكوندريا mitochondria عام 1840.
  • ووُصفت بأنها تراكيب تسلك سلوك “كائنات بدائية” تعيش في داخل الخلية وليست مجرد أجزاء تقليدية عام 1890 .
  • سُميت باسمها الحالي mitochondrion والذي يتكون من مقطعين لاتينيين يعنيان حرفيا ً (الحبيبة الخيطية granule or grain-like thread) عام 1898.
  • تم التكهن بوظيفتها التنفسية في انتاج الطاقة اعتمادا ً على الملاحظات الظاهرية morphological observation في دراسات مختلفة خلال العقد الثاني من القرن العشرين (1912-1922).
  • تمكن علماء من عزلها عن باقي أجزاء الخلية عام 1934، وبالتالي إخضاعها للتحاليل الكيميائية الحيوية التي أفادت مع الوقت بالأدلة المباشرة عن طبيعة الدور الذي تقوم به كمركز للتنفس الخلوي.

ما هو تركيب الميتوكوندريا؟ وما هو الدور الذي تقوم به تحديدا ً؟

الميتوكوندريا تركيب مزدوج الأغشية، يحيط بها غشاءان داخلي وخارجي لهما وظيفتان مختلفتان تماما ً. ويكوِّنان فيما بينهما المساحة البين-غشائيةintermembrance space . بينما يحيط الغشاء الداخلي بمادة الأساس للميتوكوندريا mitochondrial matrix.


Figure 1رسمة تخيلية للميتوكوندريون (مصدر 3)

والغشاء الخارجي ناعم ومنفذ لكل الجزيئات الصغيرة أقل من 5000 دالتون*، نظرا ً لأن البروتين الذي يتكون منه يحتوى على قنوات تسمح بمرور جزيئات من هذا الحجم.

أما الغشاء الداخلي فهو ذو ثنيات cristae تزيد من مساحة سطحه، وهو متخصص للغاية، إذ لديه طبقة مزدوجة من الدهون الفوسفاتيةphospholipids غير المنفذة للأيونات. ولا يحتوى الغشاء الداخلي على الدهون الفوسفاتية فحسب، ولكن هناك ثلاث أنواع من البروتينات هي ما تهب الميتوكوندريا وظيفتها الهامة:

  1. بروتينات النقل النشط Active Transport Proteins : والتي توفر للغشاء خاصية النفاذية الاختيارية، فتسمح بمرور المواد الهامة لعملية التنفس الخلوي مثل المواد الغذائية التي لم يكتمل أكسدتها (البيروفاتpyruvate والأحماض الدهنية)، والإنزيمات.
  2. بروتينات سلسلة نقل الإلكترون Electron Transport Chain Proteins : وهي مجموعة من البروتينات التي تحدث من خلالها تفاعلات الأكسدة للمواد الغذائية غير كاملة التكسير.
  3. إنزيم تخليق جزيء أدينوسين ثلاثي الفوسفات (اختصارا ً ATP)ATP Synthase : وجزيئات ATP هي عملة الطاقة في الخلية، أي أنها الصيغة الكيميائية التي يمكن للخلية أن تستخدمها مباشرة في أنشطتها المختلفة. ويتم تخليق هذا الجزيء ـ بواسطة إنزيم تخليق أدينوسين ثلاثي الفوسفات ـ عن طريق استغلال الطاقة الناتجة عن تفاعل أكسدة المواد الغذائية.

أما مادة الأساس، فهي تشكل المساحة الأكبر من الميتوكوندريا، وتحتوى على مزيج مركز جدا ً من المواد الغذائية غير المكتملة التكسير مع مئات الإنزيمات المسؤولة عن أكسدتها. وتحتوى كذلك على قطع من الجينوم الميتوكونديريmitochondrial genome ، والإنزيمات المسؤولة عن عمل تلك القطع الجينومية.


Figure 2 صورة لاثنين من الميتوكوندريا بواسطة المجهر الإلكتروني النافذ (مصدر 4)

وعملية التنفس الخلوي cellular respiration هي عملية تحويل الطاقة الناتجة عن أكسدة المواد الغذائية التي يتناولها الجسم و تمتصها الخلية (مثل الجلوكوز الذي ينتج عن تكسير النشويات، والأحماض الدهنية التي تنتج عن تكسير الدهون) إلى جزيئات يمكنها أن تساهم مباشرة في توفير الطاقة للعلميات الحيوية المختلفة مثل جزيئات أدينوسين ثلاثي الفوسفات adenosine triphosphate (اختصارا ATP) المركب الأكثر أهمية على الإطلاق في عالم طاقة الخلية. إن عملية التنفس الخلوي هي عملية تحرير الطاقة المختزنة في المواد الغذائية عن طريق إدخالها في تكوين جزيئات ATP يمكن للخلية أن تستفيد بها في أغراض مختلفة، ولو جاز لنا أن نشبه الميتوكوندريا فهي أشبه بالبنك القادر على تبديل السبائك الذهبية ذات القيمة العالية المجمدة إلى أوراق بنكية تحظي بالتداول والاستخدام.

التنفس الخلوي.. كيمياء صارمة ومعقدة:

بالنسبة للنشوياتcarbohydrates ، يمكن تقسيم عملية التنفس الخلوى إلى مرحلتين: مرحلة أولى تتم خارج الميتوكوندريا وتحديدا ً في العصارة الخلوية cytosol، ومرحلة ثانية تحدث داخل الميتوكوندريا وتحديدا على السطح الممتد لغشائها الداخلي.

ففي المرحلة الأولى تتحول المواد الغذائية إلى صور أبسط، مثل جزيء الجلوكوز(يحتوي على ست ذرات كربون) الذي يتحول إلى جزيئين من البيروفات Pyruvic acid(يحتوي على ثلاث ذرات كربون)، وينتج عن ذلك قدر ضئيل من الطاقة في عملية تعرف باسم التحلل السكري glycolysis.

بعد ذلك تنتقل جزئيات البيروفات إلى داخل الميتوكوندريا عبر الغشائين لتستقر في مادة الأساس، لتبدأ المرحلة الثانية بدخولها في سلسلة تفاعلات كيمائية ينتج عنها صيغ كيميائية قابلة للأكسدة oxidation ** (أي منح إلكترونات). والمستقبلات للألكترونات في هذه الحالة هي بروتينات سلسلة نقل الألكترون التي تستقبل الإلكترونات وتنقلها عبرها (ولذلك سميت سلسلة) حتي تنتهي هذه العملية إلي نتيجتين:

  1. أكسدة المواد الغذائية عن طريق استقبال إلكتروناتها، وبالتالي تحرير الطاقة منها.
  2. منح الإلكترونات إلى الأكسجين الجزيئي (هذا هو الأكسجين الذي نتنفسه وتحتاجه الخلية لإتمام عملية التنفس الخلوي كما نرى) ، وهذه العملية عكس الأكسدة، وتسمى الاختزال reduction **. تكتسب كل ذرة أكسجين إلكترونين وتتحد مع بروتونين ويتحول إلى ماء.


Figure 3 سلسلة نقل الإلكترون وإنزيم تخليق ATP (المصدر 3)

أين ذهبت الطاقة التي تم تحريرها؟ آلية تخليق جزيئات الطاقة:

أثناء عملية نقل الإلكترونات، تقوم بروتينات سلسلة نقل الالكترون ـ كنتيجة لنقل الالكترون عبرها ـ بتحرير طاقة تقوم بدفع البروتونات ـ الناتجة عن الماء الموجود في الخلية بوفرة ـ إلى الخارج في الحيز ما بين الغشائين، مما يؤدي إلى ارتفاع تركيز البروتونات في هذه المنطقة عن تركيزه داخل مادة الأساس (منحدر البروتونات proton gradient)، مما يولد قوة كيموأسموزيةpower chemiosmoticنتيجة فارق التركيز، هذه القوة يقوم بروتين مثبت في الغشاء ـ وهو إنزيم تخليق أدينوسين ثلاثي فوسفات ATP synthase ـ باستخدامها لتحفيز تكوين جزيئات ATP من جزئيات ADP و مجموعات الفوسفات الغير عضوية.

يمكن لجزئياتATP فيما بعد أن تدخل كمصدر للطاقة في كثير من العمليات الخلوية، وتتحول إلى جزيئات ADP مرة أخرى.هذه العمليات تتضمن: تخليق الجزيئات الكبيرة مثل الأحماض النووية، والبروتين ، نقل الجزيئات الكبيرة عبر الأغشية.

طريقة موازية للكائنات التي لا تحتوى على ميتوكوندريا لإنتاج طاقتها:

توجد الميتوكوندريا في حقيقيات النوى *** فقط مثل الفطريات والطحالب الحقيقية والأوليات والحيوان والنبات، بينما تخلو منها أوليات النواة مثل البكتيريا، والبكتيريا الأثرية Archae.

يمكن لأوليات النوى**** أن تنتج جزيئات ATP عن طريق بروتينات نقل الإلكترون المثبتة في غشائها البلازمي، والتي تقوم بنفس وظيفة بروتينات نقل الإلكترون المثبتة في الغشاء الداخلي للميتوكوندريا. وفي الحقيقة حقيقيات النوى غير قادرة على استخدام غشائها البلازمي مباشرة لانتاج الطاقة نظرا ً لتخصيصه بالكامل لعمليات النقل النشط للأيونات والجزيئات.

التشابه بين الميتوكوندريا وأوليات النوى يكشف عن أصل الميتوكوندريا:

اعتقد الألماني ريتشارد ألتمان Richard Altmann (1852-1900) أن الميتوكوندريا كائنات أولية تعيش داخل الخلايا الحيوانية. وقد خضع هذا الرأي للتمحيص في دراسات تالية متعددة، أثبتت وجود بعض التشابهات بين خلايا أوليات النوى والميتوكوندريا، مثل: احتواء الغلاف الداخلي للميتوكوندريا على بروينات نقل الإلكترون تماما ً مثل البروتينات الموجودة في الغشاء البلازمي لأوليات النوى لأداء نفس الوظيفة، واحتواء الميتوكوندريا على بقايا محتوى جيني يشبه ذلك الموجود لدى البكتيريا. كذلك فالميتوكوندريا تنقسم بشكل غير مرتبط بانقسام الخلية كما لو كانت كائنات متسقلة.

وفتح ذلك الباب لتوقعات عدة عن أصل منشأ تلك العضيات. وقد رجحت فيما بعد دراسة النظام الجيني لكل من الميتوكوندريا والبلاستيدات أن نشوءَهما كان من أوليات نوى تم ابتلاعها بواسطة حقيقيات نوى أكبر منها منذ ما يقرب من بليون عام فيما يعرف بنظرية النشوء التعايشي endosymbiosis. ونشأت علاقة تعايشية بين الكائنين حيث تستفيد أوليات النوى بالحماية، وتستفيد حقيقيات النوى بالطاقة الناتجة. ومع الوقت، انحدرت من أوليات النوى الميتوكوندريا كما نعرفها الآن، وتحول الجزء الأكبر من محتواها الجيني إلى نواة الخلية العائلة، وقد أصبح لتلك العضيات الجديدة دوراً حاسماً في تطور حقيقيات النوى فيما بعد.

الهوامش:

* دالتون: هي وحدة الكتل الذرية وتساوي جزء من 12 جزء من كتلة الكربون-12

* الأكسدة: فقد الكترون أو اكثر. الاختزال: اكتساب الكترون أو أكثر. المادة التي تفقد إلكترون تسمى مادة مختزِلة reductant لأنها تمنح إلكترونها لمادة أخرى مسببة لها اختزالا ً. المادة التي تكتسب إلكترون تسمى مادة مؤكسِدة لأنها تكتسب إلكترون من مادة أخرى مسببة لها أكسدة. العمليتان تحدثان آنيا في تفاعل يسمي تفاعل أكسدة ـ اختزال redox. تفاعلات الأكسدة والاختزال: هي تفاعلان كيميائيان يحدثان متزامنان بحيث يتم انتقال الكترونات بين المتفاعلين. وتسمى المادة التي تفقد الكترون بالمادة المختزِلة

***حقيقيات النوى: هي الكائنات الحية التي تحتوى على نواة محاطة بغشاء نووي يغلف مادتها الوراثية مثل الفطريات والطحالبب الحقيقية والحيوان والنبات والطفيليات.

***أوليات النوى: هي الكائنات التي لا تحتوي على نواة، وتوجد مادتها الوراثية بشكل حر في السيتوبلازم مثل البكتيريا والطحالب الخضراء المزرقة والبكتيريا الأثرية.

إعداد:

Mohamed Abo-Elgheit

مراجعة: Mohamed Elsafi

المصادر:

  1. Albert B et al. (2007) Molecular biology of cell. Garlend Science.
  2. Ernster L. and Schatz G. (1981) Mitochondria: a historical view. The Journal of Cell biology. Vol. 21: 227-255.
  3. http://sc.egyres.com/I4aW0
  4. http://sc.egyres.com/dV6xA


شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي