ماذا بعد حظر الصين التعامل بالعملات الرقمية المُشفّرة؟

ماذا بعد حظر الصين التعامل بالعملات الرقمية المُشفّرة؟

واقع أزمة العملات الرقمية المُشفّرة في الصين

في شهر يونيو الماضي أعلن البنك المركزيّ الصينيّ حظر التعامل بجميع العملات الرقمية المُشفّرة بما فيها (البتكوين Bitcoin)، معلنًا أن جميع معاملات العملات الرقميّة المُشفّرة غير قانونيّة.

كما أعلن البنك المركزيّ الصينيّ حظر جميع الأنشطة التجاريّة المرتبطة بها، معتبرًا أن جميع الأنشطة التجارية الإلكترونية التي تتم بهذه العملات الافتراضيّة أنشطة غير قانونيّة يجب وقفها، محذرًا من المخاطر المصاحبة للتعامل بها، والتي تُشكّل تهديدًا خطيرًا على سلامة الأصول النّقدية للمتعاملين بها، مشيرًا إلى المخاطرة الكبيرة التي يتعرض لها المتعاملون بها.

وتعتبر الصين من أكبر أسواق العملات الرقْميّة المُشفّرة في العالم. ولكن في العام ٢٠١٩ حُظِر تداول العملات الرقمية المُشفّرة رسميًّا في الصين، وذلك بسبب الآثار السلبيّة الناتجة عن التقلبات الكبيرة في الأسعار العالميّة للعملات المُشفّرة، والانعكاسات السلبيّة التي عادت على الاقتصاد الصينيّ، ونتيجةً لذلك انخفض سعر البتكوين بأكثر من ألفين دولار، ولكن عمليات شراء العملات الرقميّة المُشفّرة للأفراد استمرت في الصين عبر الإنترنت من خلال البورصات الأجنبية.

ومع استمرار اعتبار الصين تداول العملات  الرقميّة المُشفّرة  استثمارًا ضارًّا بها على أساس أن أسعار العملات الرقميّة غير ثابتة وتتقلب باستمرار، وأن هناك عمليات مضاربة خطيرة تتم بهذه العملات يصعب التنبؤ بنتائجها، وكذلك اعتبارها طريقة لغسل الأموال تستخدم لحماية مصادر الأموال غير المشروعة،  انتهجت الحكومة الصينيّة سياسة متشددة تجاه المتعاملين بهذه العملات، وأطلقت في مايو الماضي تحذيرًا شديدًا لهم مفاده عدم تقديم أي إطار قانونيّ يحمي المتعاملين بالعملات الرقمية مثل البتكوين والعملات الأخرى عبر الإنترنت، كما  تعّهد المسؤولون الحكوميون بزيادة الضغط على هذه الصناعة بهدف إيقافها تمامًا.

كذلك فقد طلبت الحكومة الصينيّة من كافة البنوك المحليّة ومنصات الدفع وقف التسهيلات التي تقدمها لدعم تعدين العملات المُشفّرة، ووضع قيود مشددة على استخدام أجهزة الحاسوب الكبيرة التي تستخدم في هذه الصناعة. وحظرت قبول التعامل بها كوسيلة دفع قانونية في السوق الصينيّ، ومنعت أيضًا المؤسسات الماليّة من تقديم أيّة خدمات ادِّخار أو قبول للعملات المشفرة عبرها. (1)

ما هي العملات الرقمية المُشفّرة؟

العملات الرقميّة المُشفّرة (Cryptocurrencies) عبارة عن نقود افتراضية أو رقْميّة يتم صناعتها أو تعدينها (mining) عن طريق أفراد عاديين يقومون باستخدام أجهزة حواسيب ضخمة تعتمد على استخدام تكنولوچيا تعرف باسم «الكتل المتسلسلة» (blockchain)، تتخذ شكل عملات معدنية أو رموز افتراضية (tokens)، تُتَداوَل عبر مواقع محددة مقابل الحصول على مبالغ نقدية حقيقيّة تُدفَع عن طريق بطاقات ائتمان، كما يمكن تداولها عبر محافظ إلكترونية تُنْشَأ باستخدام حسابات على أجهزة الحاسوب التي تتعامل معها. بالإضافة لذلك يتم منح عملات معدنية مُشفّرة جديدة بشكل عشوائي لأولئك الذين يشاركون في هذا العمل كمكافأة لهم لتشجيعهم على المشاركة في عمليات التعدين. عملية صناعة العملات الرقمية المُشفّرة تعرف باسم «تعدين العملات المّشفّرة» (crypto mining)، وتحتاج هذه العملية بالإضافة إلى أجهزة الحاسوب الضخمة إلى طاقة كهربائية كبيرة تُستَنفذ خلال عمليات التشفير والتداول. تتميز هذه العملات بأنها مُشفّرة بحيث يتم تعدينها باستخدام نظام تشفير معقد، ويُتَعامَل بالعملات الرقْميّة عبر أنظمة الإنترنت اللامركزية.(2)

العملات الرقمية المُشفرة.

ومن أهم ما يميز العملات المُشفرة أن إصدارها دائمًا يكون غير خاضع للسيطرة الحكوميّة ولا يوجد ضمانات حكوميّة للمتعاملين بها. ومن أول العملات المُشفرة التي عُدِّنَت عملة البتكوين (Bitcoin) وهناك أيضًا عدد كبير من العملات الأخرى المتداولة على شبكة الإنترنت، من أشهرها الإثيريوم (Ethereum) ولايتكوين (Litecoin)   وكاردانو (Cardano)  وبولكادوت (Polkadot) وغيرهم من العملات الرقميّة الأخرى.

يُتَعامَل في تعدين أي تشفير هذه العملات بعيدًا عن أية رقابة حكومية، وكثيرًا ما تدخل في عمليات غسل الأموال. كما أنها غير آمنة في التعامل معها عند تشفيرها وتداولها عبر شبكة الانترنت، مما يجعل عملية قرصنتها وسرقتها على الشبكة أمرًا غاية في السهولة، كما أنها عملات غير ملموسة تنتقل على شبكة الإنترنت فقط ولا يمكن تداولها بين الأفراد على أرض الواقع ولا يمكن توارثها، كما أن سوق تداولها الإلكترونيّ غير آمنة ويمكن التسلل إليها عبر الشبكات واختراق حسابات أصحابها وسرقتها بكل سهولة.(3)

ونتيجة لهذه المخاطر قررت الصين حماية مواطنيها وحظر التعامل بها.

التعدين الرقميّ في الصين

الإعلان الأخير كان المؤشر القاطع على الرغبة الأكيدة لدى الصين بمنع كافة المعاملات بالعملات الرقميّة المُشفّرة بجميع أشكالها تمهيدًا لإغلاق هذه الصناعة لديها.

كما أوضح البيان الرسمي على أن الاستمرار في التعامل بها يعتبر جريمة تُعرّض المتورطين للمحاكمة على اعتبار مشاركتهم في أنشطة ماليّة غير مشروعة. وأضافت أن جميع المواقع الأجنبيّة التي تُقدم هذه الخدمات للمواطنين الصينييّن عبر الإنترنت هي أيضًا أنشطة غير قانونيّة. وبما أن تكاليف تعدين العملات الرقْميّة في الصين منخفضة، نتيجة انخفاض تكاليف الكهرباء فيها مع توافر أجهزة الكمبيوتر الرخيصة، كانت الصين واحدة من المراكز الرئيسيّة للتعدين الرقميّ في العالم. ففي سبتمبر ٢٠١٩ استحوذت الصين على ٧٥٪ من الطاقة المستخدمة في تعدين البتكوين في العالم، ولكن مع حلول أبريل ٢٠٢١، انخفضت نسبة تعدينها للعملات الرقْميّة إلى ٤٦٪ فقط. مما يدلل على جدّيّة الحملة الصينيّة تجاه الحد من صناعة التعدين العالميّة. وترتب على هذا الانخفاض في التعدين حدوث نقص كبير في حجم العملات الرقْميّة المشفرة على المستوى العالميّ.(4)

لم تكن الحملة التي أطلقتها الصين في ٢٠١٩ هي الحملة الأولى التي اتخذتها الصين ضد العملات الرقْميّة، ففي عام ٢٠١٧ أغلقت الصين كافة بورصات العملات المشفرة المحليّة، نتج عنه تضييق نطاق سوق المضاربة بهذه العملات، التي كانت تمثل ٩٠٪ من حجم التداول بعملة البتكوين العالميّة.

العملات الرقمية والصين.

في يونيو ٢٠١٩ أصدر بنك الشعب الصيني بيانًا قال فيه إنه سيمنع الوصول إلى جميع مواقع تبادل العملات المشفرة المحلية والأجنبية ومواقع تقديم العملات الأوليّة، بهدف تضييق الخناق على جميع عمليات تداول العملات المشفرة مع فرض حظر على البورصات الأجنبية.

كما سلط البيان الضوء على مخاطر تداول العملات المشفرة، قائلًا إن العملات الافتراضية لا تدعمها القيمة الحقيقية، ويمكن التلاعب بأسعارها بسهولة، وعقود التداول غير محميّة بالقانون الصينيّ.

ودعم هذا القرار جميع الهيئات الصناعية الصينيّة الثلاث، من الرابطة الصينيّة الوطنيّة للتمويل عبر الإنترنت والجمعية المصرفية الصينيّة وجمعية الدفع والمقاصة في الصين، مما ساعد في دعم هذه الحملات.

مبررات حظر التعامل بالعملات الرقميّة المُشفّرة في الصين

هناك العديد من المبررات التي طرحتها الصين تشرح فيها أسباب حظر التعامل بالعملات الرقميّة المُشفّرة، ومن أهمها أنها عملات وهميّة غير ملموسة ويصدرها أفراد وليسوا حكومات، وهناك أيضًا صعوبة في تتبع عملية إصدارها وتداولها في السوق، ولا يخضع لرقابة أيّة بنك مركزيّ للدولة، مما يجعل من الصعب تنظيمها ويعرض أصحابها لمخاطر الخسارة في حالة إغلاق موقع تعدينها.

كما أنها تستخدم في الدفع للعديد من المشاريع غير القانونيّة وفي عمليات غسل الأموال، مما يساهم في انتشار جرائم حقيقيّة تعيق تقدم وتنمية الدول، إذ يقول المحللون أن الصين تخشى من انتشار الاستثمارات غير المشروعة وجمع الأموال غير القانونية من العملات المشفرة في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، مما يشكل خطرًا على اقتصاد الصين، التي لديها قواعد صارمة تنظم تدفق رأس المال إلى الخارج، ولكن هذا الحظر لتداول العملات الرقْميّة يشكل نوعًا من الحماية للصين واقتصادها ويحافظ على أصول مواطنيها من السرقة أو القرصنة.

في يونيو الماضي قال المسئولون الصينيون إنه أُلقِيَ القبض على أكثر من ألف شخص لاستخدامهم أرباحهم من جرائم غير قانونيّة اُستُخدِمت في شراء العملات المُشفّرة.

كما قامت العديد من المقاطعات الصينيّة الرئيسيّة بحظر تشغيل مناجم العملات المُشفّرة منذ بداية هذا العام، ونتيجة لذلك تراجعت قيم البتكوين العالميّة في مايو على خلفية تحذير بكين للمستثمرين من المضاربة في هذه العملات الرقْميّة المشفرة.(5)

كلمة اخيرة

قامت الصين بحظر التعامل مع العملات الرقميّة المُشفّرة في التعاملات التجارية في الصين، لتكون بذلك هي أول دولة تتخذ إجراءات صارمة ضدها، ولكن عملية تعدين هذه العملات وتداولها تتم بصورة يوميّة دون أيّة رقابة حكوميّة في غالبيّة دول العالم. ولكن مستقبل التعامل بها سيبقى موضوعًا محوريًّا حتى يتم وضع أطر قانونيّة محلية واتفاقيات دوليّة تنظم إصدارها وتداولها لتوفير الحماية اللازمة لجميع المتعاملين بها.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي