«خبريني عن ذاك الرجل المتأزم.
أيا ربات الشعر قولي لي كيف طاف وتاه؟
حين هدم طروادة العظيمة
إلى أين ذهب، ومن التقى؟ عن الألم
الذي أججته عواصف البحر الهائجة حدثيني
وعمّ فعل لينقذ حياته ويعيد رجاله للديار
عن عجزه في إبقائهم بمأمن أولئك المساكين
الذين أكلوا من قطيع إله الشمس فأقصاهم عن الديار.
خبريني أيتها الآلهة، يا ابنة زيوس، القصة القديمة عن زمننا الحديث.
اعثري على البداية» [1]
«خبريني عن ذاك الرجل المتأزم»… هكذا استهلت باحثة الكلاسيكيات الإنجليزية إيملي ويلسون (بالإنجليزيَّة: Emily Wilson) ترجمتها للملحمة اليونانية القديمة «الأوديسة» (بالإنجليزيَّة: The Odyssey)، في أول ترجمة إنجليزيَّة للملحمة بقلم امرأة، أثارت تلك الترجمة دهشة الكثير من المترجمين والنقاد حينما نُشِرت في عام 2017م. أعادت هذه الترجمة اهتمام النقاد بقصة أوديسيوس وكفاحه الذي دام عشر سنين في سبيل العودة إلى وطنه وإلى زوجته بينيلوبي وابنهما تيليماكوس على جزيرة (إيثاكا)، بعد خوضه حرب طروادة.
ربما تكون إيملي ويلسون أول امرأة تترجم «الأوديسة» إلى اللغة الإنجليزيَّة، لكنها ليست أول امرأة تترجم نص يوناني قديم إلى لغة معاصرة، انضمت إيملي بفضل هذه الترجمة إلى صفوف نساءٍ تمكنّ من التغلب على عائق الجندر، الذي كان يحول دون صدور ترجمات نسائيَّة للكلاسيكيات من قبل، فهل يؤثر جنس المترجم على تفسير النصوص؟
الترجمة نتاج مجموعة من الخيارات التي يتخذها المترجم. «الأوديسة» خير مثال على ذلك، ففيها العديد من المشاهد التي يمكن تفسيرها من أكثر من منظور، والكثير من الألفاظ والعبارات التي يمكن ترجمتها بأكثر من طريقة، لننظر إلى مطلع القصيدة، على سبيل المثال (فالمفتتح أهم أجزاء النص، حيث يُهِيئ مناخ واتجاه كل ما يليه من سرد).
أثارت الترجمة التي اختارتها إيملي ويلسون للسطر الأول من «الأوديسة» انتباه الكثيرين عندما أشارت إلى أوديسيوس بلفظ «المتأزم»، في حين أشارت إليه أغلب الترجمات بعبارات مثل «واسع الحيلة» و«ذو قدرات كثيرة».
تشير إيملي ويلسون في حوار معها نشرته مجلة (نيويورك تايمز) إلى ترجمة محتملة أخرى للسطر الشعري ذاته لم يقع عليها اختيارها. تقول إيملي أنه كان بإمكانها الإشارة إلى أوديسيوس بعبارة «زوج ضل الطريق» بدلًا من «المتأزم»، وكانت لتكون كلتا الترجمتين -عن الأصل اليوناني- صحيحتين. وقد جرى العرف أن يُنظر إلى «الأوديسة» على أنها قصة عن نضال أوديسيوس ضد الآلهة وعوامل الطبيعة، الذين يحولون بينه والرجوع إلى وطنه (إيثاكا). يجد أوديسيوس نفسه في مجابهة عمالقة أحاديّة العين (بالإنجليزيَّة: Cyclops)، وجنيات بحر (بالإنجليزيَّة: Sirens)، وحوريات ممسوخات (بالإنجليزيَّة: Scylla)، ووحوش بحريّة تتسبب في دوامات مميتة (بالإنجليزيَّة: Charybdis). تتقطع بأوديسيوس السبل ويظل حبيس جزيرة نائية طوال سبع سنين. وبعد مرور عشر سنوات كاملين وخوضه حرب طروادة، يتمكن أوديسيوس أخيرًا من الرجوع إلى وطنه.
لو أن اختيار إيملي وقع على وصف أوديسيوس كزوج ضلَّ الطريق، لكانت أحالت تلك العبارة المغامرات الخارقة للطبيعة التي من المفترض أن أوديسيوس قد مر بها إلى مجرد أكذوبة يختلقها لتبرير غيابه عن أسرته، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار السياق الذي رويت فيه تلك القصة. في «الأوديسة»، ينقذ ملك الفينيقيين ألكينوس أوديسيوس بانتشاله من جزيرة نائية ويستضيفه في بلاطه حتى استعادة عافيته. في المقابل، يروي أوديسيوس -على سبيل الشكر- قصة ما لاقاه من أهوال في البر والبحر للترويح عن الملك، قبل أن يهم بالعودة إلى وطنه (إيثاكا). يعود أوديسيوس إلى (إيثاكا) متنكرًا كأحد المتسولين، ويروي للناس قصة مختلفة تمامًا: فيقول أنه رب أسرة من جزيرة (كريت)، شارك في حرب طروادة قبل أن يذهب لمصر، حيث أصبح رجلًا غنيًا قبل أن يسلبه وغد فينيقي كل ما يملك.
عادةً ما تعد ترجمات «الأوديسة» ما رواه أوديسيوس في (إيثاكا) محض كذب، وأن ما رواه في بلاط ألكينوس هو الحقيقة. لكن إذا ما نظرنا لأوديسيوس كـ«زوج ضل الطريق»، سيكون الوضع عكس ذلك. بذلك تصبح الحقيقة محل جدال تختلف باختلاف ما يختاره المترجم.
لطالما سعى الرجال والنساء على مدار قرون لترجمة نصوص من لغة لأخرى. لكن، حسبما تقول جولي كاندلر هايس (بالإنجليزيَّة: Julie Candler Hayes)، أستاذة اللغة الفرنسيَّة ومؤلفة «الترجمة، والذاتية، والثقافة في فرنسا وإنجلترا، ١٦٠٠ – ١٨٠٠» (بالإنجليزيَّة: Translation, Subjectivity, and Culture in France and England, 1600-1800)، لم تكن هناك مساواة بين الجنسين، كان المتوقع من المترجمات النساء -في ذلك العصر- أن يترجمن أعمال من عاصرهن من الكتاب، بينما كانت ترجمة الكلاسيكيات مهمة الرجال. وفي القرنين السابع والثامن عشر في أوروبا، ساهمت ترجمة الكلاسيكيات بشكل كبير في تبلور اللغة في عصر التنوير، بعبارة أخرى، كانت ترجمة الكلاسيكيات إسهام مهم في بناء الدولة، في حين كانت ترجمة الأعمال المعاصرة محض تسلية لتمضية الوقت.
كانت الترجمة بمثابة عمل مقبول للمرأة -في ذلك العصر- بسبب اعتماد الترجمة على النص الأصلي. فبطبيعة الحال، يعتمد النص المترجم على النص الأصلي كاعتماد المرأة على رجل.
أصبحت الترجمات -مع مرور الوقت- طريق المرأة لخلق دوائر ثقافيّة وللمشاركة في النقاشات الثقافيَّة، حسبما تقول جولي كاندلر هايس، وقد شرعت النساء بالكتابة تحت أسمائهن الحقيقية بدلًا من نشر أعمالهن كذكور تحت أسماء مستعارة، وبترجمة أعمال نساء أخريات وإهداء أعمالهن الأدبيّة لنساء أخريات، و بذلك، أنتجت هذه الترجمات رابطة ونظام دعم للمثقفات من النساء.
كانت الإشادة بهذه الرابطة في التصديرات والتعليقات الملحقة جزء لا يتجزأ من تلك الترجمات، فالترجمة تفسير، ويتوجب على المترجم شرح ما أورده من تفسير حتى يفهم القارىء معنى ذلك التفسير. هذا ما يفعله المترجم في التصدير والتعليق. انتهزت المترجمات هذه الفرصة واتخذن من التصديرات والتعليقات الملحقة بالترجمات منصة للشروع في نقد التقليد الأدبي في ذلك العصر، بعدما كان مجال النقد الأدبي محصورًا على الرجال.
من أوائل النساء اللاتي ترجمن الكلاسيكيات الباحثة والمترجمة الفرنسية آن لُو فِيفْر دَاسير (بالفرنسيَّة: Anne Lefévre Dacier)، وهي أول امرأة تترجم «الأوديسة» من اللغة اليونانيّة القديمة إلى اللغة الفرنسيّة، كما أنها من متخصصي الكلاسيكيات المرموقين في عصرها. ومن المعروف عن الشاعر والمترجم الإنجليزي ألِكْسَنْدر بُوبْ (بالإنجليزيَّة: Alexander Pope) أنه استلهم من آن لُو فِيفْر دَاسير أُسُس ترجماته الإنجليزيَّة الشهيرة للشاعر اليوناني القديم هومر (بالإنجليزيَّة: Homer) على الرغم من تأزم العلاقة بينهما قبل وفاتها.
أوردت آن لُو فِيفْر دَاسير، في التعليقات التي ألحقتها سطرًا تلو الآخر بترجمتها لـ«الأوديسة»، تعليقات تتهكم فيها على المترجمين الرجال لاستخدامهم لغة فخمة رنانة في ترجماتهم لشعر هومر المباشر البسيط، بغرض الترفع على النص الأصلي اليوناني كما تقول، ويمكننا سماع صدى تعليقات آن -بعد مضي قرون عديدة- فيما أوردته إيملي ويلسون عن ترجمتها هي لـ«الأوديسة»، حيث تقول أنها حاولت «تجنب التفاخر باللغة المستخدمة في الترجمة عن طريق [تجنّب] استخدام لغة مسرفة في البذخ اللغوي». تشير هذه العبارة إلى التقليد الإنجليزي الذي أسسه ألِكْسَنْدر بُوبْ برمته، والتي لا تجد غضاضة في الانشقاق عنه بشكل صريح.
تأتي ترجمة إيملي ويلسون -التي تهديها إلى «بناتها إيموجين، وسايكي، وفرييا»- استكمالًا لتقليد طويل من التفسيرات والترجمات النسائيّة للكلاسيكيات، حيث فسرتها المثقفات من النساء وفقًا لقواعدهن الخاصة، خالقين بذلك رابطة من النساء إلى النساء. فنلاحظ اختلاف ترجمات آن لُو فِيفْر دَاسير وإيملي ويلسون عن نظيراتها من ترجمات الرجال من حيث التفاصيل والأصوات المستخدمة فيها وليس في الجوهر، و بذلك يصبح خط إنتاجهن من الترجمات ثورة على الجندر والسياسة.