لا يجوز مع هذا النوعِ الفني أيُّ كلامٍ يُمهِّد له، فهو بمختصَرِ القول: «أبو الفنون»، الذي حمل على كتفيه إرثَ الشعوب، وتراثَها الثقافي بجُل تفاصيله، فهو الشاهد على تقاليد الأرضِ، وحضارة الأجدادِ، وما وصل إليه الأحفادُ، هو الذي ترجَّم فأحْسَن النقل، وأبدع فأحسن الصَنْعة، وانتشر فأحسن الرقي في الأفكار.. إنه ذلك العملاق المُسمَّى: المسرح، أو كما عُرِفَ قديمًا «المرسح».
إن حكايةَ أيِّ نوعٍ من أنواعِ الفنونِ في دول العالَم المتنوعة لها سحرها الخاص، لكن سنتحدث اليوم عن حكاية المسرح في بلادنا، فإن مثل هذه الحكايا تكتسب رونقًا فريدًا مميزًا في منطقتنا، وهذا ليس مُجرَّدَ تعبيرٍ يُمسك بمجامع الانحياز بين نواجذه؛ فهو صدقٌ وحق، إن المسرح العربي وصل إلى ما هو فيه من مكانةٍ بفضل جهودٍ مُضنيةٍ من أفرادٍ آمنوا به، مُحاولين في ذلك الارتقاء بأوطانهم فنيًّا، وتصحيح شهادة ميلاد المسرح العربي الذي نَسَب بعضٌ بُنوَتَه إلى المسرح الأوروبي، ويا لها من جهودٍ عظيمةٍ.
فجر المسرح
على معبدِ إدفو، على الواجهة الداخلية للجدار المُحيط بالمعبد، من الناحية الغربية، يرى الزائرُ مجموعةً من أحد عشر نقشًا بارزًا تُصور الإله الصقر «حورس» يعتلي قمة سفينة مبسوطة الشراع، وهو يرمي، بسهمه، فرسَ بحرٍ قابعٍ في الماء، وقد وجد «بلاكمان وفيرمان» في النصوص الهيروغليفية التي تصاحب هذه النقوش نص الدراما الدينية المُقدسَة التي كان يدور تمثيلُها في أعياد حوريس السنوية في إدفو(1).
كانت أسطورة «إيزيس وأزوريس وحوريس» مصدرَ الوحي لكثيرٍ من التمثيليات الدينية في مصر القديمة، كما كانت أيضًا وحيًا لمسرحٍ لا يمكن أن تنطبق عليه صفة المسرح الديني، إذ كان يخلو من الشعائر الدينية التي يقوم بطقوسِها الكهنة، والثابتُ أن مصرَ القديمة عرفت هذا المسرح الدنيوي، الذي يقوم بأدواره ممثلون من عامة الناس لا من صفوف الكهنة، وأنه كانت تجوب نواحيها فرقٌ تمثيليةٌ جوَّالة لعلها أقرب شيء إلى الفرق الشعبية التي كانت تجوب البلادَ حتى عهدٍ قريبٍ، تقوم برامجُها على تمثيليات تتولَّد من وحي الظروف ووفقًا لما يطلبه الجمهور(2).
هذا إلى أن أرجح الظن أن المسرح في مصر القديمة كان وثيقَ الارتباط بالرقص والباليه، وكان يتخلَّله الحوار الغنائي والموسيقى، وكان يُعرف التمثيل بالإيماء والمحاكاة(3)، واستمرت الحال إلى مرور الغزاة عبر عديد العصور، وساد الظلام المسرح حتى أضاء شعاعه من جديد بشكلٍ جديدٍ وفقًا لمتطلبات كل عصر.
تلك كانت البدايات التي يحدثنا فيها التاريخ عن إشارات المسرح في الحضارات القديمة التي رصدتها المراجع وسجلها الباحثون بين طيَّات أوراقِهم، ليؤكدوا بزوغ شمس هذا الفن في الحقب القديمة التي مرت على تراب بلاد تلك الحضارات.
حكم المماليك ومسرح القرية
مرت السنون، والإبداع والفن كائنان حيَّان قد يتعرضان للإهمال بفعل ظروفٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ لكنهما لا يموتان، ولأنهما لا ينبتان إلا من قلب المعاناة، فقد ظهرا خلال فترة حكم المماليك لمصر التابعة للدولة العثمانية اسميًا، حيث كانوا هم الحكام الحقيقيون للبلاد، ليتجسَّد شكلٌ جديدٌ من أشكال المسرح.
اتسم حكم المماليك بالقسوة، والظلم، وفرض الضرائب الباهظة التي تُشبع حاجات المماليك ورغباتهم. عَكَس الفنان الشعبي صورةَ هذا المجتمع في فنه، وجسدها في بعض أعماله(4).
انتشر في هذه الفترة مسرح القرية، حيث تفترش تلك الفرق الساحة الشعبية التي توجد في كل قرية وتضع بها أدواتها الغنائية والتشخيصية. وكانت الموضوعات التي تُقدم أغلبها موضوعات اجتماعية ناقدة، تسخر بروح مصرية من الأوضاع السياسية والاجتماعية، وبعقلية الجندي التركي، وبلؤم الخواجة الأجنبي واحتياله لابتزاز الأموال، وكلها موضوعات كانت موجودة في خيال الظل(5).
وكانت معظم هذه المسرحيات تعتمد على الارتجال ومسايرة الحال. ولم تكن هناك نصوصٌ مكتوبة مدونة ثابتة، وكان تناقل النصوص يعتمد على التلقين والذاكرة التي تسمح بالإضافة والحذف، وبالتالي الارتجال. وكانت تؤدَّى غالبًا باللغة العامية(6).
الحملة الفرنسية على مصر.. نقطة الانطلاق
عرف العالم العربي المسرح الحديث عن طريق القطر المصري في عهد «نابليون بونابرت»، عندما احتل مصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر(7)، حيث كان للحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1800) دورٌ مهمٌ في تعريف الشعب المصري ليس بأبعاد الظاهرة المسرحية وحدها، بل بالكثير من الإنجازات العلمية والحضارية التي توصَّل إليها العقلُ الأوروبي(8).
وسُمي المرسح الأول في مصر «مرسح الجمهورية والفنون»، ويحفظ لنا التريخ اسم مسرحيتين تم تمثيلهما به، وهما: رواية «الطحَّانين» ورواية «زايس وفلكور» أو «بونابرت في القاهرة»، وقد اشترك في تشخيص المسرحية الثانية أغلبُ علماء فرنسا بمصر. وغادر نابليون مصر ولحق به بقية رجاله، بعد أن وضعوا اللبنة الأولى للمسرح الحديث في مصر، وفي العالم العربي(9).
وكانت جريدة (كورييه دوليجيبت – COURIER DE L’EGYPTE) أول جريدة حاولت الترفيه عن جنود الحملة الفرنسية في مصر؛ وذلك بنشرها إعلانات عن نوادٍ وملاهٍ اجتماعية، كي ترغّبهم في الاشتراك فيها من أجل التسلية(10). وقد وثّقت الأوراق التاريخية أقدم إشارة عربية عن مسرح الحملة الفرنسية على يد «الجبرتي» من خلال كتابته عرض تحليلي للمسرحيات التي قُدمت على خشبته، كما وثقت للإشارة العربية الثانية المسرح الفرنسي ولكن في قلب فرنسا من خلال «رفاعة الطَهْطَاوي» في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، حيث تحدث عن شكل المسارح هناك بما تتضمّنه من الإضاءة، والديكور، وخشبة المسرح، وأنواع التمثيل.
وبعد هذه الفترة التاريخية بسنوات، قام عددٌ من الرحَّالة بتتبُّع تاريخ بدايات المسرح في العالم العربي، ليرصد لنا الرحالة «إدوارد وليم لين» أول مسرحية بمصر لفرقة «المحبظاتية»، وأهمية هذه الإشارة ترجع إلى أنها أول نص لمضمون مسرحية منشور. وقد سجَّل ذك في كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» فيما بين عامي (1835–1838)(11). كما أوضحت وثائق أن عهد سعيد باشا شهد بداياتٍ لفن المسرح العربي من خلال الحفلات والولائم التي كانت تُقام في القلعة والقصور الخديوية.
مارون النقَّاش والبدايات الحقيقية
كان مَارون النقَّاش، أول من خطر له إدخال فن التمثيل المسرحي في العالم العربي، وقد وُلد مارون في مدينة «صيدا» بلبنان عام 1817م. وفي الثامنة عشر من سنيّ حياته كان ينظم الشعر البعيد عن التعقيد والركاكة. وأتقن علم الأرقام ومسْك الدفاتر والقوانين التجارية. وأتقن اللغات التركية، والإيطالية، والفرنسية. وعُين رئيسًا للكتاب في جمرك بيروت وعضوًا في مجلس التجارة. ثم اشتغل بالتجارة وطاف مدن الشام، وحضر إلى الإسكندرية في سنة 1846م وزار القاهرة، ثم سافر إلى إيطاليا فأدهشه مسارحها وما يُمثل فيها من الروايات(12).
فلما عاد النقاش إلى بيروت، ألَّف فرقة مسرحية من أصدقائه، ودرَّبهم على تمثيل رواية «البخيل». فلمَّا أتقنوها دعا إلى حضورها القناصل والأعيان في منزله بالشارع المعروف باسمه في حي الجميزة ببيروت سنة 1848م. وفي سنة 1850م، مثل رواية «هارون الرشيد» المعروفة باسم «أبي الحسن المغفل». وكان حاضِروها نخبةٌ من الوجهاء وأهل الفضل من الوطنيين والأجانب. وقد شجّعه الجميع وأثنوا على همته، فرأى أن يُنشئ مسرحًا خاصًّا إلى جانب بيته. فتم له ذلك بفرمان سلطاني. وممن عاونوه في التمثيل «بشارة مرزا»، و«خضرا اللبناني»، و«حبيب مسك»، و«عبد الله كميد»، و«نقولا نقاش»، و«سعد الله البستاني»(13).
ويُنسب للنقاش أنه صاحب أول خطبة في الوطن العربي عن فن التمثيل. وإذا تطرّقنا إلى نشاط مارون النقاش المسرحي، نجد أنه قدّم في بيته مسرحية «البخيل»عام 1848م، وكذلك مسرحيته الثانية «أبوالحسن المغفل» أو «هارون الرشيد» من جمع كبير من أفراد عائلته عام 1850م. وكانت المسرحية الثالثة والأخيرة، التي كتبها النقاش، عبارة عن معالجة جديدة «ترتوف» ل «موليير»، وقدمها بعنوان «السليط الحسود» (14).
ومات مارون النقاش عام 1855م، وهو أول المُقتبسين من المسرحيات الفرنسية، وعمره لا يتجاوز ثمانية وثلاثين عامًا. ولقد أثّر موت النقاش في تطور المسرح العربي، وكان فضل النقاش بكل المقاييس عظيمًا؛ لأن عرضه ظل لسنوات كثيرة معيارًا فريدًا للمسرح العربي، سواء في النص الدرامي، أو في مبادئ الإخراج، وأصبح التوجُه نحو الأدب المسرحي والمصادر الأدبية للبلاد الأخرى أمرًا معتادًا بالنسبة لأغلب الأشخاص الذين جاؤوا بعده. وإذا كان القطر اللبناني شهد ميلاد الفن المسرحي في العالم العربي، فإن القطر المصري كان الأسرة والبيت الذي ربَّى ورعى هذا الطفل(15).
ريادة مسرحية مجهولة لمحمد عثمان جلال
في أحايين كثيرة، عندما تمر الحياة يلهو الناس وينسون روَّادًا أثّروا في جميع مناحيها، لكن أصحاب المجهود الحقيقي والغاية السامية لا بد أن يُعاد التذكير بهم مرة أخرى، ومن هؤلاء، شخص أثر بشكل جَلي في تطور الفن المسرحي وهو «محمد عثمان جلال»، حيث صادف حظه أن جميع آثاره المسرحية كانت في نفس فترة ظهور شخصية «يعقوب صنُّوع»، تلك الشخصية المحيرة التي أخذت وما زالت من الباحثين أوقات طويلة في الكشف عن مدى صدق دوره في الفن المسرحي المصري.
وُلد محمد عثمان بك جلال في قرية «وناء» ببني سويف عام 1828م، وتعلّم في مدرسة الألسن، وعُين عضوًا بقلم الترجمة العلمية ثم في الديوان العالي، وأخذ يتدرج في مراتب الحكومة إلى أن كان آخر عهده قاضيًا بالمحكمة المختلطة. وكانت وفاته في عام 1898م وله من العمر اثنان وسبعون سنة. وهو في سن الشباب، بدا عليه الميل إلى الشعر والأدب والتعريب. وكان ميّالًا إلى الفن الروائي، يجيد التعريب فيه مع تمصير ما يعربه أحيانًا، وله كتاب «العيون اليواقظ» وهو تعريب شعري لروايات «لافونتين» ومواعظه، ويعد هذا الكتاب أعظم آثاره الأدبية وأشهرها، وعرَّب رواية «بول وفرجيني» عن الفرنسية، ووضع كتاب «التحف السنية في لغتي العرب والفرنسوية»، وعرَّب بعض الروايات التمثيلية، منها ترتوف لموليير، عرَّبها بتصريف وأسماها «الشيخ متلوف» بعد أن أسبغ عليها مسحة مصرية، وقد مُثلت هذه الرواية على المسارح في مصر(16).
أجمع معظم النقاد والكتاب ممن كتبوا عن محمد عثمان جلال، بأن آثاره المسرحية تمثّلت في خمسة كتب مطبوعة؛ أولها: مسرحية «الشيخ متلوف» المنشورة في عام 1873م، ثانيها: كتاب «الأربع روايات من نخب التياترات» وطُبع في عام 1890م، وهو يجمع أربع مسرحيات هي: الشيخ متلوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء. والكتاب الثالث «الروايات المفيدة في عالم التراجيدة» وطبع عام 1893م وهو يجمع ثلاث مسرحيات هي: أستير، وأفيجينيا، والإسكندر الأكبر، والكتاب الرابع به مسرحية «الثقلاء» وطبع عام 1896م. والخامس والأخير به مسرحية «المخدمين» وطبع بعد وفاته عام 1904م(17). وقد كشف البحث عن مسرحيات أخرى مجهولة له قد نشر بعضها تعود إلى عامي 1870م و1871م.
الفرق المسرحية العربية
بعد التجربة الرائدة التي قدمه مارون النقاش، تحمّس العديد ممن يؤمنون بهذا اللون الفني الجديد إلى إضفاء صبغتهم وبصمتهم عليه، وكان ذلك من خلال تكوين فرق مسرحية كان لها أثرها في ذاكرة التاريخ المسرحي، نذكر منهم الآتي:
فرقة سليم النقَّاش
لم يدخل «سليم خليل النقَّاش» بفرقته باب الشهرة لكونه منتسبًا إلى اسم النقاش، حيث كان ابن شقيق مارون النقاش، بل كانت كلمة السر «أوبرا عايدة»، تلك الأوبرا التي كان خديوي مصر آنذاك، إسماعيل باشا، مُغرمًا بها، حيث كانت تُعرض على مسرح دار الأوبرا الخديوية باللغة الإيطالية. ليقرر سليم النقاش إدخال هذا الفن إلى مصر باللغة العربية، فيتجه من القاهرة عائدًا إلى بيروت ليعرب عايدة ويطبعها في عام 1875م، ويكتب إهدائها إلى الخديوي إسماعيل.
تعد فرقة سليم النقاش أول فرقة مسرحية عربية تحضر إلى مصر لتقدِّم أعمالها في عام 1876م، بمصاحبة «يوسف الخيّاط»، إلى جانب «أديب إسحاق» الذي رغب سليم النقاش بشده لضمه إلى فرقته لما له من خبرةٍ كبيرةٍ في فن المسرح ورواياته. نشاط سليم النقاش المسرحي لم يستمر سوى ثلاثة أشهر فقط، لنجد الأخبار عنه تتحول من النشاط المسرحي إلى النشاط الصحفي ليصدر عدة صحف منها جريدتي «العصر الجديد» و«المحروسة»، إلى جانب جريدتي «التجارة» و«مصر» مع رفيقة أديب إسحاق الذي انتقل معه إلى العمل الصحفي(18).
يستكمل يوسف الخياط المشوارَ بعدهما ويؤلف فرقة جديدة على أنقاض الفرقة القديمة، ويكونها من مجموعة من المصريين والشوام الموهوبين، ويجوب بها أقاليم مصر المختلفة، وتستمر هذه الحال إلى وفاة الخياط عام 1900م، ليسدل الستار على أول فرقة مسرحية عربية تزور مصر، على اعتبار أن فرقة الخياط كانت من نتاج فرقة سليم النقاش.
فرقة سُلَيْمان القرداحي
كان «سليمان القرداحي» من أكثر الأشخاص الذين عملوا في فن التمثيل المسرحي إيمانًا، فقد أفنى عمره في سبيل رفعةِ شأن هذا الفن من خلال ما قدّمه من أعمال على مدار سنين طوال منذ أن قدم إلى الإسكنرية وكون فرقته بها عام 1882م. ثم اتجه بعدها إلى القاهرة لتقديم عروض فرقته ب «دار الأوبرا الخديوية»، ليصيب النجاح الفرقة بشكلٍ كبيرٍ، ثم يترصد لها الفشل وراء الأبواب وتعاني الفرقة من ضوائق مالية، لكنها تستمر، وتساعده الحكومة ببناء مسرح خاص لفرقته يحمل اسمه.
وفي نوفمبر 1899م، تحقَّق المشروع القديم بين القرداحي و«سليمان الحدَّاد» في تكوين فرقةٍ مشتركةٍ بينهما بالإضافة إلى المُمثلين: «إسكندر صقيلي»، و«سليم عطا الله»، و«أمين بهجت»، و«أحمد عبد الفتاح»، و«الشيخ علي إسماعيل»، و«رحمين بيبس». وأطلقوا على هذه الفرقة «الجوق المُنتخب». ومثّلت الفرقة بتكوينها الجديد عروضَها المُتنوعة حتى انفصال الحداد عن القرداحي، الذي عاد يدير فرقته بنفسه دون مساعدة من أحدٍ(19). واستمر القرداحي كدأبه نشيطًا في عمله، متحمسًا تجاه فنه، حتى وفاته عام 1909م.
فِرقتا القبَّاني، وإسكندر فرح
سعى «خليل القبّاني» إلى نشر فن المسرح في بلاد الشام، وبالفعل تعاطف معه الكثيرون ممن تعلّقوا بهذا الفن، لكن لم يكن طريق القباني مفروشًا بالورود، فقد لجأ بعضٌ إلى منعه من التمثيل وشكايته إلى رأس السلطة العثمانية الذي قضى على أحلامه بالفعل بمنعه من أداء ما يحب، ليجد القباني أن ليس لديه مفرٌ من الترحال إلى مصرَ وعرض أعمال فرقته المسرحية هناك عام 1884م، ليُنعَم عليه بالثناء على أعماله.
وكعادة الفرق المسرحية، تنقل القباني بين المسارح يعرض أعماله إلى أن تم بناء مسرحِه الخاص له بالعتبة، ليكون مركزَ فرقته وأنشطتها إلى جانب المسارح الأخرى التي أخذ يجوبها داخل القاهرة وخارجها، حتى ضعفت حالته المادية ومات فقيرًا يبكيه الأدب والموسيقى والتمثيل عام 1902م.
«إسكندر فرح»، وصل إلى ما وصل إليه بفضل كَدِّه واجتهاده ومثابرته، صعد سُلَّم النجاح درجةً درجةً، كان يقوم بالأداءِ والتمثيلِ في معظم الفرق المسرحية آنذاك حتى أصبح مديرًا لأكبر الفرق المسرحية التي عرفتها مصر والعالم العربي كله، وحققت الفرقة الكثير من النجاح الذي ميّزها عن باقي الفرق.
بلغ نجاح هذه الفرقة درجةَ أنه في بداية عام 1893م مدَح «عبد الله النديم» فرقة إسكندر فرح مدحًا كبيرًا في مجلة «الأستاذ»، تحت عنوان «فريق التمثيل العربي»، ولفت نظر وزارة الأشغال و«علي مُبارك» باشا إلى قيمة هذه الفرقة؛ مما يجعلها جديرةً بالتمثيل في الأوبرا الخديوية. كما مدح أعضاء الفرقة، ومنهم: «سلامة حجازي»، و«أحمد أبو العدل»، و«حسين الإنبابي». وفي أول إبريل من عام 1893م حدث أمر مهم في تاريخ المسرح المصري على الإطلاق، فقد ألف المحامي «إسماعيل عاصم» أول مسرحية مصرية باللغة الفصحى شعرًا ونثرًا، وهي «هناء المحبين»، وخصّ بها فرقة إسكندر فرح دون باقي الفرق، بل وتوصّل بما له من نفوذ إلى أن الفرقة تمثلها بالأوبرا الخديوية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تمثل فيها الفرقة في الأوبرا(20).
ومع بدايات القرن العشرين، بدأت النهاية لفرقة إسكندر فرح، عندما استقل بطل فرقته الشيخ سلامة حجازي عنه وكوَّن فرقةً لنفسه، لم تستطع فرقة فرح الصمود أمامها، ورغم ما فعله إسكندر فرح لإعادة النجاح إلى فرقته، إلا أنها ظلت في تراجع مستمر حتى وفاته عام 1916م.
لم تكن تلك الفرق هي الوحيدة التي ساهمت في بناء الفكر المسرحي الجديد والعمل على نهضته في بلاد العرب، إذ كانت هناك فرقٌ صغيرةٌ لها مساهمات قوية، مثل فرق: «سليمان الحداد»، و«الكمال»، و«فارس صادق»، و«إبراهيم حجازي»، و«بولس قرداحي»، هذا إلى جانب الفرق الأجنبية التي وفدت لتُحدِث فرقًا وتجد لها جمهورًا، مثل فرق: «كوكلن»، و«الجوق التركي»، و«الجوق الإيطالي». الأمر الذي أحدث بشكلٍ واضحٍ حراكًا مسرحيًا في هذه البقعة من العالم.
فضلًا عن ذلك، ضم تاريخُ المسرح أسماءً لم تمتلك موهبة التمثيل؛ لكنهم امتلكوا الشغفَ الحقيقي تجاه هذا الفن، والرغبة الجادة في تطويره، والإشارة إلى كل ما هو جيد في هذه الصناعة، سواء كان ذلك شخوصًا، أو نصوصًا، أو أماكن، ومن هؤلاء: عبد الله النديم الذي كتب مقالات عن فن المسرح وشجّع الفرق المجتهدة، و«عبد الرازق عنايت» الذي قدَّم المساعدة المادية والمعنوية للكثير من الفرق المسرحية (القباني – القرداحي – سلامة حجازي – جورج أبيض – عبد الله عكاشة وإخوته).
منارات الفنِ المسرحيّ
في بدايات ظهور المسرح في مصر والعالم العربي، كان كل شيء جديدًا وبدائيًّا أيضًا، ولم يظهر المسرح بشكله النهائي الذي نعرفه الآن، بل كان الأمر في البداية تصميم بسيط في أماكن معروفة يرتادها الناس للتعرف إلى ألوان الفنون، واستمرت الحال فترة طويلة حتى أصبح الشكل النهائي هو المُسيطر، وهذا ما سنتعرف إليه في خلال السطور القادمة.
عرفت مصر شوارع بعينها كانت منارةً للفنون، وملجأً لكل من يبحث عن وسيلة لنشر إبداعه، حتى الجاليات الأجنبية الوافدة والمُقيمة على أرضِها، سعت سعيًا حثيثًا حتى يكون لها بصمة في هذه الأماكن، ومن أشهرها:
شارعُ عِمادِ الدين
عرّف المؤرخون هذا الشارع، بالشارع الثقافي المسرحي الموسيقي، لفترة تعد من أغنى الفترات فنًا. شاهَد هذا الشارع أروع الأوقات التاريخية. ففي بداية القرن العشرين، امتلأ بدور المسرح، وكان كل منها يُمثل منارة، تمثل مدرسة من مدارس الفن الموسيقي. قدم لنا هذه الشارع فرق: «رمسيس»، «نجيب الريحاني»، «سيد درويش»، «علي الكسار»، «منيرة المهدية». واحتضن الأوبريت، كما أوجد الشارعُ الركائزَ التي أمكن التشييد على قواعدها. رشَّح هذا الشارع نفسه ليكون بدوره أهم مواقع اللقاءات الفنية الموسيقية، والأدبية، والمسرحية. بل أنه وبعد زمن قصير، أصبح جديرًا بأهميته الحضارية والثقافية وإشعاعاته في الوطن العربي كله(21).
لقد عرفت مسارح هذا الشارع تجارب فنية كثيرة. ولعلّنا نذكر أوبريتات سيد درويش التي عاشت في أعقاب ثورة 1919م، وما أحدثه مسرح التورية السياسي، والفُكاهي أحيانًا، في نشأة الوطنية في ثورة الشعب عمالًا وطلابًا. وكان شارع عماد الدين يقدم على مسارحه عروضًا لم تكن دار الأوبرا لتقدمها، لاتصافها بالشعبية، وبدأت معاناة الشارع تظهر بظهور فن السينما(22)، لتنقضي حكاية هذا الشارع.
الأزبكية ودار الأوبرا الخديوية
يعتبر «المعز الأتابكي أزبك بن الظاهري»، هو منشئ الأزبكية في عام 880هـ(23)، وتعد تلك المنطقة منارة من منارات الفن في مصر، فقد طوّرها «الخديوي إسماعيل» ليجعلها قطعةً من فرنسا بعد أن طالتها يد الإهمال لسنوات، حيث أقام في طرفها الجنوبي مسرحَيْن فخمين، وهما «مسرح الكوميدي الفرنسي» و«دار الأوبرا الخديوية» ووضع أمامها تمثالًا من البرونز لأبيه «إبراهيم باشا». هذا إلى جانب «مسرح حديقة الأزبكية» الذي توصّل الباحثون أنه أقيم مكان مسرح الجمهورية والفنون الذي أسَّسته الحملة الفرنسية.
كما عُدت دار الأوبرا الخديوية من أعظم ما بُني من مسارح، فلم تتعدَّ مدة بنائها ستة أشهر وذلك تزامنًا مع احتفالات قناة السويس، وإن كانت حظت بالاهتمام بعد ذلك لاستكمال ما نقصها خلال الاحتفالات، وشهدت الأوبرا العديد من عروض الأوبرات العالمية مثل «ريجوليتو»، و«عايدة»، و«سميراميس»، إلى جانب عدد من العروض العربية الهامة.
نقاطٌ مضيئةٌ في النشاط المسرحيّ العربيّ
لم يقتصر النشاط المسرحيّ في الوطن العربي على عرض الفرق المسرحية للروايات سواء المُؤلفة أو المُترجمة، بل لأن هذا الفن قد وجد له صدًى جيدًا في أوساط المجتمع، فسرعان ما تغلغل، فالتمثيلُ المسرحي لم يكن يتم من جانب تلك الفرق فحسب، بل امتد هذا النشاط إلى المدارس، لمَّا وجدوا له من نفع أخلاقي واجتماعي، ليكون لدى المدارس باع طويل في هذا الشأن تعود آثاره إلى عام 1870م، وتتاح لها كل الإمكانات حتى يتم تقديم عروضها على مسرح دار الأوبرا الخديوية بذاتها الجلية، ويكون عبد الله النديم علامة من علامات المسرح المدرسي في مصر، يشجع الطلاب ويشاركهم في التمثيل أيضًا.
لم يتوقف التطور عند هذ الحد، بل نجد أن كثرةَ العروض المسرحية ولّدت نوعًا من الوعي والفهم بأبعاد تلك الظاهرة، لينشأ بعدها فن النقد المسرحي، الذي سعى فيه صحفيون إلى تفنيد وشرح عروض الأوبرا العالمية، والفرق المسرحية، وتنتشر على إثر ذلك مجلات متخصصة في هذا الشأن فقط، أو مجلات تفرد لهذا المجال صفحات مثل: «وادي النيل»، و«الراوي»، و«المقطم»، و«السرور»، و«البصير»، وتلمع أسماءٌ في هذا المجال من أمثال الصحفي والناقد «محمد أنسي».
المسرح في العالم العربيّ
كانت لبنان هي صاحبة ضربة البداية في تاريخ الفن المسرحي على يد مارون النقاش، ليبدأ بعدها تسطير هذا التاريخ على الأرض المصرية من خلال مبدعين عرب ومصريين. ولكن لم يتوقف القطار هنا، فوصول المسرح إلى بلادنا العربية بدأ تباعًا؛ فكان في الجزائر فرقةٌ مسرحيةٌ رائعةٌ تحت قيادة سليمان وفرقة عبد القادر الجزائري، وفي تونس؛ تأخّر المسرح إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتأثر بالمسرح السوري والمصري، وهذا شيء طبيعي لأنها كانت مُستعمرَة من قبيل الفرنسيين، وفي أواخر عام 1908م، حل بتونس الممثل الشيخ سليمان القرداحي مع فرقته، ففرح التونسيون فرحًا شديدًا، وقدم بعض مسرحياته فيها، ثم جاءت فرقة سلامة حجازي وقدمت مسرحياتٍ عديدةً، بعد ذلك كُوّنت فرق متعددة، وصارت من فنونهم الأدبية(24).
من المؤكد أن أدباءَ العربِ من المهاجر الأمريكية كانوا من أول العاملين على انطلاق الفكر العربي الحديث من مكامن الجمود، والأقلام العربية من قيود التقليد، فبرز فيهم غير قليل من الأدباء الذين عنوا بالمسرحية عنايةً شديدةً، سواء كان في الجنوبي أم الشمالي. فيأتي في مقدمتهم «ميخائيل نعيمة»، و«جبران»، و«فارس الريحاني»، كذلك كان لهم اهتمام بالغ في فن القصة والروايات المتنوعة(25).
كثير هو كلامنا عن المسرح العربي مهما طالت الكلمات، فهو ملحمةٌ من اجتهادات روّاد، وقرائح مبدعين، وأبنية شهدت على عظمة ما قُدِم فيها، لنستخلص في نهاية الأمر فنًا مسرحيًا نابعًا من مناحي مجتمعاتنا الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وليس تقليدًا أو نسخة زائفة من فن نبتت زروعه في أراضٍ أخرى.
إعداد: هدير جابر
المصادر:
1- إدوار الخرَّاط. (2003). فجر المسرح: دراسات في نشأة المسرح. القاهرة: دار البستاني للنشر والتوزيع.
2- نفس المرجع السابق، ص85.
3- نفس المرجع السابق، ص86.
4- رتيبة الحفني. (2001). السلطانة منيرة المهدية والغناء في مصر قبلها وفي زمانها. القاهرة: دار الشروق.
5- نفس المرجع السباق، ص22.
6- نفس المرجع السابق، ص22.
7- سيد علي إسماعيل. (2016). تاريخ المسرح في العالم العربي: القرن التاسع عشر. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
8- رتيبة الحفني، مرجع سابق، ص22.
9- سيد علي إسماعيل، مرجع سابق، ص14.
10- نفس المرجع السابق، ص16.
11- نفس المرجع السابق، ص18.
12- نفس المرجع السابق، ص21.
13- نفس المرجع السابق، ص21.
14- نفس المرجع السابق، ص33.
15- نفس المرجع السابق، ص ص 33-34.
16- نفس المرجع السابق، ص ص 166-167.
17- نفس المرجع السابق، ص165.
18- نفس المرجع السابق، ص200.
19- نفس المرجع السابق، ص221.
20- نفس المرجع السابق، ص ص 251-252.
21- رتيبة الحفني، مرجع سابق، ص ص 11-12.
22- نفس المرجع السابق، ص ص 14-16.
23- سيد علي إسماعيل، مرجع سابق، ص36.
24- محمد سراج الدين(2006)، “فن المسرحية وسعته في الأدب العربي”، الجامعة الإسلامية العالمية شيتاجونج، المجلد الثالث، ص ص 23-34.
25- نفس المرجع السابق، ص28.