للمرة الأولى يتمكن العلماء من اكتشاف تموجات موجودة في نسيج الزمكان (المعروفة بموجات الجاذبية) نتيجة تصادم نجمين فاقدين للحياة يُطلق عليهم نجوم نيوترون.
فهذه هي أول مرة يشهد فيها علماء الفلك اندماج نجمين نيوترون، وقد تساعد هذه الاكتشافات الجديدة في حل اللغز الذي استمر لعقود كثيرة حول كيفية خلق الكثير من عناصر الكون الثقيلة.
وفيما يلي شرح لأهمية هذا الاكتشاف لفهمنا الكون الواسع.
ما هي موجات الجاذبية؟
تنبأ ألبرت أينشتاين بوجود موجات الجاذبية في 1916م. طبقًا لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، تنتج الجاذبية من كيفية تشويه الكتلة في نسيج الزمكان؛ إذًا ستتولد موجات الجاذبية والتي تسافر بسرعة الضوء نتيبجة حركة أي جسم له كتلة، مسببة تمدد وانضغاط في نسيج الزمكان على طول الطريق.
إن موجات الجاذبية ضعيفة بصورة غير عادية، مما يزيد من صعوبة تحديدها، فحتى أينشتاين كان غير متأكد حول حقيقة وجودها. ولكن تمكن الباحثون من تحديد أول دليل صريح على وجود موجات الجاذبية بعد قرن من تنبؤات أينشتاين في 2016م باستخدام الـ(LIGO-Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory). استحق ثلاثة علماء جائزة نوبل في 2017 في الفيزياء بسبب هذا الاكتشاف.
كيف يعمل الـLIGO؟
يستخدم LIGO زوج من أدوات الكشف في الولايات المتحدة الأمريكية (أحدهم في ليفينجستون في لويزيانا والأخر في هانفورد في واشنطن) للشعور بالتشوهات والالتواءات الذي تسببه موجات الجاذبية في نسيج الزمكان حيث أنها تعبر من خلال المادة. تتخذ كل أداة كشف شكل حرف L ضخم، فيبلغ طول الساق حوالي 4 كيلومتر. عادة ما تكون كل ساق من أداة الكشف لها نفس الطول؛ فتأخذ أشعة الليزر نفس الوقت في السفر خلال الساق الواحدة.
لكن إذا عبرت موجات الجاذبية خلال الأرض وتسببت في انقباض وتمدد ساق أداة الكشف بقدر طول واحد من عشرة ألاف من قطر البروتون، تسمح هذه التشوهات في الزمكان لكل ساق من أداة الكشف تحديد الاختلافات في جزء من الثانية في الوقت الذي ستستغرقه أشعة الليزر لتندفع لأسفل ساق أداة الكشف مقابل الساق الأخرى.
بسبب انفصال كواشف LIGO عن بعد بمسافة 3000 كم؛ من الممكن أن يستغرق موجة الجاذبية 10 ميللي ثانية لتصل من أداة كشف لأخرى. يستطيع العلماء استغلال الفرق في توقيت الوصول لقياس من أين تأتي موجات الجاذبية.
وكلما ظهر على الساحة كاشفون عن موجات الجاذبية (مثل مؤسسة Virgo في إيطاليا) كلما استطاع الباحثون القيام بالمهمة أفضل وتحديد بدقة مصادر موجات الجاذبية.
إن أسهل موجات تم تحديدها بواسطة الـLIGO كانت أكثرها قوة، والتي صدرت عند اصطدام جسمين ضخمين بصورة غير عادية. فكل الموجات التي تم تحديدها من قبل كانت بسبب اصطدام الثقوب السوداء. ولكن لأول مرة يحدد العلماء موجات جاذبية بسبب اصطدام نجوم نيوترون باستخدام تعاون LIGO وVirgo.
ما هي نجوم نيوترون؟
النجوم النيوترون هي مثل الثقوب السوداء فهي بقايا نجوم هلكت في انفجارات عملاقة تُعرف بالسوبرنوفا-supernova عندما يدخل النجم في انفجار مثل السوبرنوفا تنهار مادته لتُشكل نواة كثيفة. إذا كانت هذه النواة كبيرة كفاية من الممكن أن تشكل ثقب أسود، والتي لها قوة سحب جاذبة حتى الضوء لا يستطيع الإفلات منها.
أما النواة الأصغر ستشكل نجم نيوترون وسميت بهذا الاسم بسبب جاذبية سحبها والتي هي قوية كفاية لتحطيم البروتونات مع الالكترونات لتشكيل النيوترونات.
إن نجوم النيوترون كثيفة للغاية حتى أن كثافتها قد تبلغ كثافة الشمس بالرغم من صغر حجمهم حيث أن قطرها يبلغ فقط 19 كم تقريبًا. تزن ملعقة من مادة نجم نيوترون حوالي مليار طن؛ مما يجعل نجوم النيوترون من الأجسام الأكثر كثافة في الكون بجانب الثقوب السوداء.
اكتشاف موجات الجاذبية من نجوم نيوترون
في 17 أغسطس حددت النسخة الحالية المطورة من LIGO وVirgo إشارة موجة جاذبية تمتلك كمية مهولة من الطاقة تعادل مليار مرة الطاقة الناتجة عن إضاءة مجرة درب التبانة كما تقول منسي كاسليوال الباحثة الرئيسية في GROWTH (منظمة تعاونية عالمية تركز على الأحداث الكونية العابرة كاصطدام نجوم نيوترون).
فهي تقول أن طاقتها كانت كافية لتفوق إضاءة الـ100 مليار نجم في مجرتنا بمليار ضعف في الثواني المعدودة التي حدث فيها الاصطدام.
هذا الحدث هو أول مرة يشهد فيه العلماء اصطدام نجمين نيوترون. أحد الأدلة الرئيسية على قدوم الإشارة من هذا الاصطدام كانت مدته، حيث أنها كانت أطول إشارة لموجة جاذبية تم تحديدها كما قالت كاسليوال وهي أحد العلماء الذين شاركوا في هذا الاكتشاف.
إن الثقوب السوداء أكثر كثافة من نجوم نيوترون لذا الإشارة من اصطداماتهم عادة ما تكون مختصرة. فيقول كالسيوال لموقع Space.com:
“ربما استمر اصطدام الثقوب السوداء الذي تم تحديده من قبل لثانية أو ثانيتين، ولكن هذا الحدث استمر لدقيقة كاملة تقريبًا”.
الدليل الرئيسي الأخر على أن الاصطدام كان بسبب نجم نيوتروني هو كتلة الأجسام المولدة لموجات الجاذبية هذه. فتردد موجات الجاذبية يعتمد على كتلة الجسم المولد للموجات حيث أنه كلما زاد التردد قلت الكتلة كما تقول كاسليوال.
كان الجسمان اللذان اصطدما مولدين الإشارة الجديدة يزنان 1.3 أو 1.5 ضعف كتلة الشمس، وهو الوزن الأمثل لتأكيد كونه نجم نيوترون. بالمقارنة مع أول تصادم لثقب أسود تم تحديده بواسطة LIGO كان يتضمن ثقوب سوداء يزن كل منهم حوالي 30 مرة ضعف الشمس.
على قدر قوة هذه الإشارة كانت أقل قوة بكثير من الإشارات التي نتجت عن اصطدام الثقوب السوداء. حول اصطدام هذا النجم النيوتروني حوالي 0.025 من كتلة الشمس إلى طاقة. تقول كاسليوال:”إنها كمية هائلة من الطاقة”. بينما أول اصطدام لثقب أسود تم تحديده من قبل LIGO حول حول ثلاثة أضعاف كتلة الشمس لطاقة والذي فاقت إضائته كل ما كنا نعرفه حينها.
حددت LIGO حتى الاّن أربعة اصطدامات لثقوب سوداء واصطدام لنجم نيوتروني. تنبأ بعض الباحثون أن اصطدام النجم النيوتروني سيكون أكثر انتشارًا عن الثقوب السوداء بينما تنبأ أخرون بالعكس. توضح كاسليوال أنه بالرغم من أن اصطدان النجوم النيوترونية أكثر انتشارًا في أي حجم مُعطى، الثقوب السوداء أكثر نشاطًا؛ لذا فهي لأسهل في تحديدها من أبعد بكثير.
الضوء الناتج من تصادم نجوم نيوترونية
ضيق LIGO وVirgo المطور موقع هذا الحدث الجديد -والذي سمّي GW170817- لـ28 درجة مربعة في عرض السماء. (بالمقارنة، يغطي القمر الكامل عند رؤيته من الأرض 0.2 درجة مربعة من السماء.)
استطاع علماء الفلك بالعمل سريعًا استخدام موجات الجاذبية والموجات المألوفة لمشاهدة نفس الحدث، أول تحديد للضوء من مصدر لموجات الجاذبية أبدًا. فكان من غير المتوقع وجود أي ضوء من تصادم الثقوب السوداء، ما يعني أن التلسكوبات التقليدية لم تكن لتستطيع تحديدهم.
وظف العلماء مجموعة مختلفة من التلسكوبات لتحليل موجات الراديو والأشعة فوق الحمراء وفوق البنفسجية والضوء المرئي وأشعة إكس وأشعة جاما واندفاعهم من اصطدام النجم النيوتروني لأسابيع. حدد بدقة تلسكوب Swope في المرصد الفلكي في تشيل GW170817 لمجرة تُسمى NGC 4993 الواقعة في مجموعة نجوم Hydra –على بعد 130 مليون سنة ضوئية من الأرض-.
يربط العلماء لأول مرة حدث موجات الجاذبية بمجرة معروفة. أطلقوا على مصدر هذا الحدث (Swope Supernova Survey 2017a-SSS17a).
وتقول كاسليوال:
“اكتشفنا باستخدام LIGO وVirgo أن هناك 49 مجرة من المحتمل أن يكون أحدهم هو مصدر هذا الاصطدام، وبترتيب أولويات البحث لهذا الاصطدام بضخامة المجرات، والذي ساعدنا على تخمين عدد النجوم في كل مجرة وهكذا الفرص المحتملة لحدوث اصطدام لنجم نيوتروني، وجدنا أن الاصطدام في المجرة الثالثة على قائمتنا”.
الحطام من التصادم
تلاشت SSS17a وغيرت سريعًا من ضوء أزرق لأحمر علامة على أن الحطام تمدد بسرعة أقرب لسرعة الضوء وهدأ كلما ابتعد. يقول الباحثون أن اصطدام النجوم النيوترونية ولَّد kilonova وهو انفجار أقوى ألف مرة من انفجار النجم العادي.
وتقول كاسليوال:
“نحن نعتقد أن التصادم قذف حوالي 10,000 ضعف كتلة الأرض من مادته”.
استنتج الباحثون أن التصادم ولد نافورة من التي تم قذفها بعيدًا بسرعة أقرب لسرعة الضوء متخذة مسارًا يميل ب30 درجة بعيدًا عن خط النظر من الأرض. جاء كل الضوء الذي تم تحديده من قبل الباحثين من المواد المغطية حول هذه النافورة. فلقد قدروا أن حوالي 30% من التصادمات المستقبلية للنجوم النيوترونية ستولد أشعة جاما ساطعة قابلة لتحديدها بسهولة من الأرض.
كشف طيف الضوء المقذوف من التصادم أن هذه المادة كانت محملة بعناصر مركبة جديدة. أكدت هذه الاكتشافات 70 عامًا من البحث مشيرة أن اصطدام النجوم النيوترونية قوي بما يكفي لتوليف عناصر ثقيلة كالذهب والبلاتنيوم وارصاص.
لقد عرف العلماء أن العناصر الأخف تركب (يأتي معظم الهيدروجين والهليوم من التصادم العظيم-Big Bang، أما العناصر من الحديد حتى باقي الجدول الدوري في الأغلب تصاغ داخل نواة النجوم.)
بالرغم من ذلك، فمصدر نصف العناصر الأثقل من الحديد غير مؤكد. دعمت هذه الاكتشافات أول إثبات مبني على أساس قوي أن هذه الاصطدامات هي مكان ولادة نصف عناصر الكون الأثقل من الحديد كما تقول كاسليوال.
لايزال غير مؤكد ما كان ناتج هذا التصادم. تقول كاسليوال:
“إنه حوالي 2.7 الكتلة الشمسية؛ لذا فهو يقع في كتلة الفراغ بين النجوم النيوترونية والثقوب السوداء. إن أكبر النجوم النيوترونية المكتشفة حتى الاّن حوالي ضعف الكتلة الشمسية، وبالنسبة لأصغر أضخم الثقوب السوداء تصل لخمس أضعاف الكتلة الشمسية”.
لذا فهو إما أكثر النجوم النيوترونية ضخامة أو أصغر الثقوب السوداء التي تم رؤيتها إلى الاّن، أو ربما نجم نيوتروني هائل سينهار ليتحول لثقب أسود، وهذه ستكون منطقة جديدة.
سجل العلماء التفاصيل بدقة عن اكتشافاتهم في مجموعة من المقالات في المجلات العلمية و مجلات الفيزياء الفلكية وغيرهم.
إعداد وترجمة: بيير عماد
مراجعة: محمد المصري
المصدر: