ألكسندر بوب:قبيحٌ على الملأ، جميلٌ على الورق

ألكساندر بوب

نظرت إلى المرآة فلم أتعرف على نفسي، لا لا، دعني أعيد صياغة هذه الجملة: نظرت إلى المرآة فوددت لو لم أتعرف على نفسي.

هل القبح صفة دائمة؟ (هل يستحيل القبح جمالًا؟)

إنه لشيء جميل! أما هذا فهو قبيح!

قبيح.. جميل.. قبيح.. جميل.

كم نتناوب على هاتين الصفتين في كلامنا، في حديثنا عن كل شيء، أو موقف، أو شخص ولكن، هل عندها نكون فعلًا متيقنين من نظرتنا هذه، أهي نظرة قاطعة، أم لعلها قد تتحول من النقيض إلى النقيض؟

ما رأيكم في برج (إيفل- Eiffel) مثلًا، ذلك البرج المعروف القابع في باريس، هل هو جميل، أم لعله قبيح؟

أسمع إجماعًا على جمال هذا المبنى الهندسي، هذا جميل، ولكن ماذا لو أخبرتكم أنه قبل سنتين من إنهائه، اصطف مثقفو ذلك العصر يبعثون بخطاباتهم إلى الصحف، يصفون فيها مدى بشاعة هذا العمود القبيح المنتصب في منتصف المدينة![1][2]

سأعرض لكم مناسبة أخرى قد تحول فيها القبيح جميلًا، أو على الأقل حل محله، ولكن بدايةً، علي أن أسألكم أمرًا ما: هل تخيلت نفسك كعارض أزياء من قبل، ولكن حينما نظرت للمرآة طردت من ذهنك هذا التخيل الذي اعتبرته سخيفًا؟ أعرف أن البعض من الممكن أن يكون قد فعل هذا، خاصة بانتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أضحت ترسم لنا معايير الجمال. ماذا لو تركنا عصر مواقع التواصل الاجتماعي، وعدنا بالزمن إلى سنة (1969)، عندما سئم جماعة كانوا في صناعة الترويج والدعاية، سئموا من تقاليد مهنتهم المتعارفة في إبراز تلك الصورة الكاملة التي تعني بالضرورة الجمال، فأنشئوا ما يعرف بوكالة العارضين القبيحين[3] -Ugly Modeling Agency التي استقطبوا فيها وجوهًا كان يسمونها وجوهًا ذات شخصية، داحضين بذلك أن الكمال، مرادف للجمال.[4]

فهل على الجمال أن يكون بالضرورة جذابًا؟ وهل على القبح أن يكون بالضرورة منفرًا؟ وماذا لو كانت هاتان الصفتان غيرَ قاطعتين من الأساس، فأمواج الذوق، والحاجة للخروج عن المألوف وكسر الأنماط، لا تفتأ تضرب في كل الاتجاهات، فينتج عن ذلك بحرٌ من الصعب أن تتوقع طقسه وحالته. كل هذا لهو كلام محله نقاش عن جمال المظهر، الذي إن اعتقد أحدهم بفقده؛ لكان من شأن ذلك أن ينغِّص عليه حياته، ولكن ماذا لو كان هذا الفقد شيئًا جيدًا؟ ماذا لو تفتّق عن ذلك القبح المزعوم شيء أسمى وأبقى من مجرد الشكل؟ دعنا نسأل هذا السؤال لألكسندر بوب.

 

من هو القبيح الجميل، ألكسندر بوب؟

من هو ألكسندر بوب؟ إنه باختصار ثاني أكثر شاعر يتم اقتباس كلماته في اللغة الإنجليزية بعد شكسبير.[5] ولماذا دعوته بالقبيح الجميل؟ أما القبيح، فليس لأعيبه، ولكن لما عانى منه في حياته من مرض عضال أثر بشكل كبير على هيئته، حيث عانى من السل[6]، نعم السل، ولكن عندما نلفظ هذا الاسم؛ غالبًا ما يتبادر للأذهان ذاك المرض الذي يفتك بالرئتين، فيقيء المرء دمًا، ولكن ما لا يعرفه أغلب الناس، أن هذا المرض قد يصيب أجزاءً أخرى من الجسم ليس فقط الرئة[7]، وفي حالة شاعرنا ألكسندر بوب، فقد أصاب عموده الفقري، مما جعله قميئًا، محدودب الظهر، غريب المظهر، فكان لذلك عظيم الأثر على نظرة الناس له، ونظرته لنفسه. كما انعكس ذلك على تعامله مع من حوله، حيث كان جافي الطبع صعب المراس، يطوي الجوانح على قدر لا يستهان به من المرارة والنقمة[8]. وأما وصفي إياه بالجميل، فلأن قبحه المزعوم ذاك قد انعكس على فنه، حيث جعله إنسانًا ظامئًا إلى الجمال والحس، فاتجه إلى الفن باحثًا عن ضالته الروحية، فوجد في دروب الكلاسيكية الوارفة الظلال ما يصبو إليه، فأنتج من الشعر الجميل، والغزير، فكان ممن تربعوا على عرش الشعر الإنجليزي في القرن الثامن عشر. كم حلق بوب في آفاقٍ لم يسبقه إليها أحدٌ إلا قليلون، ولكن هذا الطائر المحلق، لم يتمكن من المشي بأفضل صورة.

 

من لا يمكنه المشي، ولكنه يتقن الطيران!

«مع القوى العظيمة تأتي مسؤولية عظيمة»، كم ترددت تلك المقولة في أفلام الأبطال الخارقين، ولكن في عالم الشعراء والفنانين، تحورت قليلًا، لتصبح: «مع القدرات الإبداعية العظيمة، تأتي أعباء عظيمة». أو لتصبح الجملة أكثر دقة، فلنقل إن القدرات الإبداعية العظيمة تأتي من الأعباء العظيمة.

منذ عصر الرومانتيكين، وأضحى مكان الشاعر المعتاد ومستقره المألوف، هو خارج المجتمع، ذاك المجتمع النابذ إياه، إلا في مواقف يتخذوه فيها كصوت ناطق معبرًا عما يمور في النفوس، وبعد انقضاء الموقف، يعود كما كان، على الرف. ولك أن تتخيل كم تفاقمت المعاناة في حالة شاعرنا، المختلف قليلًا عن سائر الناس. فكان كطائر القطرس ذو الأجنحة المهيبة، الذي يمكنه التحليق بهما في الأفق الرحيب، ولكن ذات الأجنحة، تعيقه عن المشي العادي[9]، عن التماهي مع نسيج المجتمع، تمنعه من أن ينسجم معه دون أن يشكل وجوده نتوءً، يخل بانسيابية النسيج. والأجنحة الكبيرة لذلك الطائر، أو القدرات العظيمة لهذا الشاعر، كما تمكنه من التحليق فوق الماء، فإنها لثقلها قد تجره أسفلًا، فتودي به إلى الغرق، ولكي يتجنب مثلما مصير، فإنه يفني حياته في مقاومة ثقل، إن انزاح عنه، تاه عن سبيله، وأضحى كغيره من الطيور. وبذكر غيره من الطيور، كيف لطائر مثل هذا أن يتعايش معهم؟ ربما الإجابة تكمن في…

 

مخيلة تعكس الواقع، والنتيجة إبداع على الورق

بعكس ما قد يتبادر إلى أذهان البعض، أن شاعرنا من الممكن أن يكون قد اختار أن يضرب في متاهات المخيلة ابتعادًا عن أراضي الواقع التي لم يلاقي فيها سوى ألوانًا شتى من العذابات، ولكنه، لم يفعل ذلك، بل نظر للواقع بعين الموضوعية، وأراد أن يعكس صدق الواقع في الكلمات التي يسود بها أوراقه، فكان فنه تمثيلًا حيًا لقول الفيلسوف (نيلسون جودمان- Nelson Goodman) بأن النظرية التصويرية للغة، قد استُبدلت بالنظرية اللغوية للصور[11]. فالصور الواقعية في هذا المذهب هي الأصل التي تنبثق منه الكلمات. لم تنهل مخيلته هو وحده من واقعه الأليم، بل استفادت مخيلة غيره منه!

فمن المثير للاهتمام احتمالية أن يكون معاصره وصديقه، قد نهل من تجارب صاحبه قصير القامة، أي شاعرنا ألكسندر بوب، وصبها في قالبه الفني المعروف رحلات جاليفر [12] Gulliver’s Travels فكان بوب هو (الليبوت– Lilliputians)، وأقرانهم هم العمالقة (Brobdingnagian). ولكن لو كان بوب فعلًا يمثل الليليبوت، فإنه لم يكن ضحية بالكامل، بل كان له من الذنب نصيب.

 

كيف لمن يدين تصرفًا قد عكر عليه حياته، أن يأتي بنفس التصرف تجاه الآخرين؟

لقد كان التناقض في فكر بوب وفنه جليًا لدى كثير من النقاد، حيث ذات الشاعر الذي كان يدين مجتمعه لجعلهم المظاهر جل همهم، ومسعاهم الأوحد، فأنكر عليهم ذلك طوال حياته، ذات الشاعر، هو الذي قام برسم المرأة كغرض، وقصر أهميتها وقيمتها، على صورتها ومظهرها الخارجي. وقد تجلى ذلك في قصيدته المعروفة (سلب خصلة شعر- The Rape of the Lock)، حيث كان مآل بطلة القصيد (بليندا- Blenida) إلى أن تستمد قيمتها من صورتها في المرآة، وقدرة هذه الصورة على أن تملك حواسَّ الرجل [13].

لقد كانت حياة ألكساندر بوب حقًا حافلة بالمأساة كما القافية، فكانت مادة خصبة نهلنا منها القليل، فشرّعنا الباب لنقاش، حتى لو لم يكن قد انتهى عن آخره، فلنأمل أننا استطعنا به أن نجد بعض الأجوبة.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي