حياة فكرية متقلّبة
كان فولتير قد وصف أوغسطينوس بأنه «أفريقي فاسق وتائب، مانوي ومسيحي. غفور وظالم، أمضى حياته يناقض نفسه».
ولهذا التوصيف ما يبرره، ذلك أنّ أوغسطينوس (٣٥٤-٤٣٠ م)، عاش حياة فكرية صاخبة؛ فقد تقلّب عقليًّا بين تيارات دينية وفلسفية عدة. ويبدو أنّ طبْعه كان أقرب إلى اللهو واللعب والتسلية منه إلى الآداب والفنون التي لم يطرق بابها إلا تلبية لأمنية أبيه في مواصلة الدراسة كما بفضل أحد أصدقاء العائلة الذي أغدق عليه وساعده في دخول عالم الفكر.
والحال أنّ قراءة أوغسطينوس كتاب «هورتنسيوس» لشيشرون هي بوّابة دخوله إلى عالم الفلسفة، ومُذّاك، انفجر داخله الشغف الفكري في البحث عن الحقيقة، فبدأ رحلته مستمعًا إلى النخب المانويية، ثم مقتنعًا بتعاليمها، ثم منظّرًا لها، ثم معلّمًا مانويًا يجمع حوله عددًا من التلامذة.
والحال أنّ اكتشاف أوغسطينوس للرياضيات في وقتٍ لاحق قد كشف له غياب كل صرامة علمية عن المانوية التي لا تقدم أي تفسير عقلاني للعالم، فبردت حماسته لها.
بعد ذلك، ألمّ به مرضٌ خطير كاد يُنهي حياته، وانجذب على إثر ذلك إلى الفلسفات الشكية وتحديدًا إلى شكية أرقاسيلاوس.
بيد أنّ قراءته لرسائل بولس الرسول هي التي ستحدد المسار الفكري الذي سيستقر عليه أوغسطيتوس والمتمثل بالمسيحية، فقد أبدى إعجابه بما قرأ وحلّت به النعمة؛ فتنصّر ليلة ٢٤ نيسان٣٨٧.[1]
هجاء الفلسفة
إنّ العصر الذي عاش فيه أوغسطينوس، بتقديم بضع سنوات وتأخير بضع سنوات، كان في أحد وجوهه عصر تعذيب الفلسفة. فالتناقض الميتافيزيقي ما بين الفلسفة اليونانية القائلة بقدم العالم وما بين المسيحية المتمسّكة بفكرة الخلق من العدم قد تحوّل إلى تناحر أيديولوجي أخذ -على حدّ توصيف طرابيشي- شكل «إبادة حقيقية لجنس الفلسفة» سواء بواسطة العنف اللفظي أو العنف المادي.
وقد كان القديس يوستينوس قد دمغ الفلاسفة بأنهم «أناس جهلة وبرابرة»، ثم تبعه طاسيانس الآشوري الذي سخر من الفلاسفة ووصفهم بالضفادع والمسوخ ناعتًا أرسطو بأنه «ذلك الفتى المجنون المسعور». أما القديس ثيوفيلوس فقد اتّهم بعض الفلاسفة بارتكاب أفعال شنيعة: «أفلاطون مشاع النساء والتهتك الجنسي، أبيقور زنى المحارم، الرواقيين اللواط، زينون وديوجانس أكل لحم البشر».[2]
هذا من جهة المذبحة النظرية، أما من جهة المذبحة العملية فقد أصدر قسطنطين عام ٣٢٣ مرسومًا يقضي بتحريم كتب الفيلسوف فرفوريوس وحرقها، ثم أصدر ابنه قسطنسيوس مرسومًا «بإغلاق المعابد»[3]، وبحظر الدخول إليها تحت طائلة جزّ الرقبة ومصادرة أموال المقتول، وتكررت في الاسكندرية مشاهد ملاحقة أفراد النخبة المثقفة ومطاردتهم والطواف بهم عراة وحتى سحلهم وحرقهم.[4]
الانقلاب الأوغسطيني
إنّ موقف أوغسطينوس من الفلسفة والعقل، بالمقارنة مع الأيديولوجيا المناهضة لحرية التفكير السائدة في عصره، هو أشبه بانقلاب. وبالفعل، ضمن هذا السياق، أي سياق تفضيل حكمة الدين على حكمة الفلسفة ووحي الأنبياء الذين؛ «ما بالبرهان تكلّموا بل فوق كل برهان»، كما يقول القديس يوستينس على برهان الفلاسفة، رأت الأوغسطينية النور.
وبخلاف الفصل الجذري ما بين العقل والإيمان، فإنّ أوغسطينوس يطالب قارئه بأنْ «تعقّلْ لتؤمن، آمن لتتعقل». هكذا ولأول مرة في تاريخ المسيحية يوضع العقل في مستوى الإيمان، وبقدر ما أنّ التعقّل يشترط الإيمان فإنّ الإيمان مشروط دومًا بفعل التعقل. ومثلما أنْ لا عقل بدون إيمان، كذلك لا إيمان بدون عقل.
«فالإيمان المسيحي لا يلغي العقل ولا يستغني عن البحث ولا يقتل التفكير».[5]
وعلى هذا النحو، إنّ جوهر ما أراد أوغسطينوس القيام به هو تحرير الإيمان من كل أشكال اللامعقول ونبذ خرافات المنجمين وأراجيفهم وكفرهم[6]، من أجل إعادة بناء «إيمان عقلي».[7]
والحال أنّ جموح أوغسطينوس نحو العقل والتفكير العقلي هو الذي حدا بالأب بواسون في دراسته المعاصرة عن حياة القديس إلى القول: «القديس أوغسطينوس يتكلّم أحيانًا بطريقة يبدو معها أنه اقتبس كلامه من ديكارت أو أنّ ديكارت اقتبسه منه»[8]. بيد أنّ أوغسطينوس، وبخلاف ديكارت، لم يستمد مشروعيته العقلية من التأمل الخالص فحسب، بل من التجربة أيضًا. يقول أوغسطينوس في موضع أول: «أدركت بالاختبار الشخصي معنى كلام الرسول»، ويقول في موضع ثانٍ: «حين يتساءل عقلي عن قواه الذاتية لا يثق بذاته لأن خفاياه محجوبة عنه حتى يكشف له عنها الاختبار»[9].
الانتفاح على الفلسفة
إنّ الفلسفة في عصر أوغسطينوس كانت كما رأينا مهدَّدة على الدوام بوصفها وثنية وكفرًا. ورغم كل التشدّد الذي طبع موقف الكنيسة الأولى من الفلسفة والفلاسفة، فإنّ أبرز آبائها دلّ على انفتاح نادر على المؤلفات الفلسفية حيث اجتهد في درس الفلسفة وقراءة الكتب الأفلاطونية المنقولة من اليونانية إلى اللاتينية.
وفي سياق هذا الانفتاح الفكري، نحت أوغسطينوس مصطلح «الفلسفة المسيحية» للتأكيد على عدم التعارض ما بين العقل والإيمان وللتنبيه إلى أنّ الكتب الفلسفية لا تُناقض المعتقدات المسيحية بل فيها «ما يشبهها تمامًا»[10]. وهذا الانسجام ما بين القديس والكتب الأفلاطونية قد دفع بأحد أبرز الباحثين إلى وصف أوغسطينوس بأنه «أفلاطون مرتديًا عباءة المسيحية»[11].
ولم يقتصر اهتمام أوغسطينوس الفلسفي على المسألة الدينية بل تأمّل عميقًا في حركة التاريخ، فكتب «مدينة الله» الذي مثّل أول محاولة لوضع خلاصة وافية لفلسفة التاريخ[12].
خاتمة
نقول ونكرر القول إنّ أوغسطينوس كان يغرّد خارج سرب عصره وضد سرب عصره.
ولم يُكتب لمشروعه الانفتاحي الذي نذر نصف عمره له النجاع، إذ بعد قرن من وفاته، وتحديدًا في عام ٥٢٩، أصدر الامبراطور يوستنيايوس قرارًا بإغلاق أكاديمية الفلسفة في أثينا. وقد سجّلت هذه السنة «نهاية العالم القديم، حيث كفّت اللغة اليونانية عن الحياة، وأصبحت الفلسفة نفسها لغة ميتة». وحتى ذلك «اللقاء للفلسفة مع اليهودية تارةً ومع المسيحية تارةً أخرى سيكون بمثابة نهاية للفلسفة»؛ لأنّ التفكير الفلسفي سيكفّ عن أن يكون “تفكيرًا أصيلًا ليغدو تابعًا للمسيحية وإشكالياتها اللاهوتية[13].
وبغض النظر عن هذه اللوحة السوداوية، فإنّ العقل الفلسفي وقد سُحق، كان لا بدّ له من نقطة انطلاق ليُعيد بناء عمارته. والحال أنّ نقطة انطلاقه كانت المصالحة مع المسيحية وإنْ على مضض.
ويبدو أنّ الكنيسة الأولى ما كانت لتطيق توفيقًا كهذا بين العقل والإيمان حتى مع إعطاء الأولوية للإيمان. وليس من قبيل الصدفة أن يتأخر إعلان قداسة أوغسطينوس إلى العام ١٢٩٨. ففي ذلك الوقت كانت التوماوية في أوجهها، ولم يكن قد مرّ على وفاة توما الأكويني سوى ٢٤ عامًا. والحال أنّ مشروع الأكويني يتلخّص في كون «العقل قوي لدرجة أن قواه وحدها قادرة على تفسير الطبيعة فلسفيًا»[14].
وإزاء هذا التصعيد التوماوي الذي أعلن عن اكتفاء العقل بذاته، تبرز الحاجة للعودة إلى أوغسطينوس الذي وإنْ وَفّق بين الفلسفة والدين لم يعلن عن استقلال العقل، بل أكّد على حاجته الدائمة إلى الإيمان الذي بدونه يكفّ العقل عن أن يكون عقلًا.
والحال أنّ الأوغسطينية بدت بالمقارنة مع عصرها أيديولوجيا تَقدُّمية، وبالمقارنة مع عصر توما الأكويني أيديولوجيا تأخُّرية. وهذا ربما ما حَكم عليها ببعض الفشل. وعدم النجاع.
فهل نقول، في ختام مقالتنا، إنّ قديس الفلاسفة وفيلسوف القديسين كان ضحية عصره أم ضحية عقله؟ فأليس هو من يقول عن نفسه: «كان ذكائي الحادّ سببًا لهلاكي»![15]
المصادر والمراجع:
(١) - استقينا المعلومات عن حياة أوغسطينوس من: معجم الفلاسفة، إعداد جورج طرابيشي، دار الطليعة ١٩٨٧، ص ١٠٧، ١٠٨، ١٠٩، ١١٠، ١١١، ١١٢. بالإضافة إلى Dictionnaire des philosophes, Noëlla Baraquin et Jacqueline , Laffitte, Armand colin, p. 26, 27, 28, 29, 30.
(٢)- ج. لوبروتون وجاك زيلر: الكنيسة الأولى، المجلد الأول من تاريخ الكنيسة بإشراف فليش ومارتن، نقلًا عن جورج طرابيشي، العقل المستقيل في الإسلام؟، دار الساقي، ص. ٨٦، ٨٧.
٣)- يبدو أنّ في النص تصحيفًا والمقصود هنا ليس "المعابد" بل المعاهد، أي معاهد تدريس الفلسفة.
(٤)- المصدر السابق ص ٧٨ و٨٨.
(٥)- Édouard Jeaueau, La philosophie médiévale, Presses Universitaires De France, p. 9.
(٦)- القديس أوغسطينوس، الاعترافات، المطبعة الكاثوليكية في بيروت، ص ١٢٧.
(٧)- عبدالرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، مكتبة النهضة المصرية، ص ٢١.
(٨)- Benjamin Boisson, Saint Augustin: le bonheur d'être chrétien.
(٩) - الاعترافات، مصدر آنف الذكر، ص ١٥٣، ٢٢٣، ٢٢٤.
(١٠)- المصدر السابق، ص ١٣٢.
(١١)- Kaufmann N. , revue néo-scolatique, 11 e année, n 42, 1904, p.141.
(١٢)-ج. هرنشو، علم التاريخ، دار الحداثة، ص. ٢٧.
(١٣)- Jean-Paul Dumont, La philosophie antique, Presses Universitaires De France, p. 123, 124.
(١٤)- Pierre Ducassé, Les grandes philosophies, Presses Universitaires De France, p. 49.
(١٥)- الاعترافات، مصدر آنف الذكر، ص. ٧٦.
كتابة وإعداد: مايكل عطاالله
مراجعة علمية: عصام أسامة