شكل عام 2000م علامة فارقة في التاريخ الصحي للبشرية، ليس لكونه مطلع القرن الحادي والعشرين، بل لكونه العام الذي تجاوز فيه عدد البالغين ذوي الوزن الزائد لأول مرة منذ فجر الوجود الإنساني على الأرض عدد من يعانون من نقص الوزن[1]، لما يعنيه ذلك من انتصار الإنسان في معركته ضد نُدرة الغذاء والمرض والعوامل الطبيعية العدائية والمُتقلبة. هذه المعركة التي بدأت مُنذ وطئت قدم الإنسان الأرض واستمرت مع استمرار وجوده، المعركة التي كانت نقطة التحول الحقيقية فيها لصالح الإنسان بداية الثورة الصناعية، يوم بدأ إحكام سيطرته على مُعظم ما حوله وتسخير عناصر الطبيعة لخدمته. ولكن قبل أن يُعلن انتصار الإنسان في هذه المعركة كانت قد بدأت معركة جديدة على جبهة جديدة مع عدو جديد، كانت مُنظمة الصحة العالمية قد وجهت الأنظار إليها بإعلانها في عام 1997م لأول مرة تحول السِمنة والبدانة والوزن المُفرط إلى وباء عالمي يجب التصدي له ومُكافحته[2]. لذلك نناقش في هذا المقال الأسباب الاقتصادية لتفشي وباء السِمنة بين البشر، وكيفية تأثير هذا الوباء على الاقتصاد العالمي.
العدو الجديد والاقتصاد من خلفه
استمرت المعركة طوال العقدين السابقين بين البشر والسمنة، لكن ما لبثت السمنة مدفوعة بأسباب اقتصادية بحتة أن كلفت البشر ملايين الضحايا بين موتى ومُصابين بأمراض السكر وضغط الدم والفشل الكلوي، وبحلول عام 2016م أصدرت منظمة الصحة العالمية بيانًا جديدًا حول ضحايا الحرب الشرسة في المعركة مع السِمنة موضحة فيه الوضع الكارثي الذي وصلت إليه البشرية جاء فيه: أن أكثر من 1.9 مليار أي ما نسبته 39% من البالغين في العالم فوق سن 18 عامًا يُعانون من الوزن الزائد بينهم 650 مليون أي ما نسبته 13% بالغين يعانون من السِمنة المُفرطة، هذا بالإضافة إلى أكثر من 340 مليون طفل ومراهق تتراوح أعمارهم بين 5 و19 عامًا، كما تضاعف انتشار السمنة في العالم ثلاث مرات تقريباً في الفترة ما بين 1975م – 2016م. ليس هذا فحسب بل فتحت السمنة جبهات جديدة للمواجهة فبعد أن كانت الحرب في الماضي تقتصر على الدول ذات الدخل المُرتفع نقلتها السمنة إلى الدول النامية وذات الدخل المُنخفض ايضًا، ففي إفريقيا ارتفع عدد الأطفال الذين يعانون من زيادة الوزن تحت سن الخامسة بنسبة تقترب من 50% منذ عام 2000م. أما أسيا فيعيش فيها ما يقرب من نصف الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من زيادة الوزن أو السمنة[3].
يُرجع العديد من الاقتصاديين هذا التفوق الكاسح للسِمنة في المعركة ضد البشر إلى أسباب اقتصادية بحتة، إذ جعلت القوى الاقتصادية من الأسهل والأرخص استهلاك الأطعمة عالية الطاقة، وبأسعار معقولة، وسمحت للبشر باستقرار مُتزايد في العمل وفي المنزل. وعلاوة على ذلك، فإن التقدم الطبي قلل من التكاليف الصحية والمالية التي تنتج عن الوزن الزائد، وكذلك قلل من الحافز على النظام الغذائي وممارسة الرياضة. وفيما يلي بعضًا من أهم تلك الأسباب بالتفصيل.
انخفاض أسعار الغذاء
تُعتبر العلاقة العكسية بين العرض والثمن من أهم القواعد التي يقوم عليها علم الاقتصاد، إذ كُلما ارتفعت الكمية المعروضة انخفض ثمنها وبالتالي زاد استهلاكها (فى ظل ثبات العوامل المؤثرة فى كل من العرض والطلب) ، تُلخص هذه القاعدة وضع الغذاء في العالم اليوم، إذ ارتفعت الكمية المُنتجة من الغذاء باضطراد خلال القرنين الماضيين فزاد المعروض منها مما أدي إلى انخفاض أثمانها مما دفع الناس إلى استهلاك مزيدًا منها، وعلى سبيل المثال فإن أسعار الغذاء انخفضت في الولايات المُتحدة الأمريكية عام 2005م بأكثر من 38% عما كانت عليه في عام 1978م[4]، لكن ما زاد الوضع سوءً هو انخفاض أسعار الغذاء مُرتفع السُعرات الحرارية عن نظيره الصحي في هذه البُلدان، إذ تُظهر البيانات الأمريكية أنه منذ عام 1983م ارتفع سعر الفواكه والخضروات الطازجة بنسبة 190 ٪، وجميع الفواكه والخضروات بنسبة 144 ٪، والأسماك بنسبة 100 ٪، ومنتجات الألبان بنسبة 82 ٪، في حين أن سعر الدهون والزيوت والسكريات والحلويات، والمشروبات الغازية، ارتفعت بمعدلات 70 ٪، 66 ٪، و 32 ٪ فقط على التوالي[5].
ارتفاع تكلفة التخلص من السعرات الزائدة
على الرغم من أن تكلفة استهلاك السعرات الحرارية قد انخفضت، فإن تكلفة التخلص منها قد زادت بشكل كبير نتيجة للتطورات في تكنولوجيا سواء في أماكن العمل أو حتى في مجال الترفيه، إذ أصبحت بيئة العمل في الأساس تعتمد على التكنولوجيا فتحولت مُعظم الأعمال البدنية والفنية إلى أعمال إدارية ومكتبية، ورغم أن هذه التكنولوجيا سمحت للموظفين بأن يكونوا منتجين بشكل متزايد وأن يحصلوا على أجور أعلى نتيجة لذلك، فقد جاءت هذه الزيادات جزئياً على حساب وزنهم. إذ تشير إحدى الدراسات إلى أنه بعد 18 عامًا، سوف يزيد وزن العامل العادي 11.3 كيلو جرام إذا كان يعمل في الوظائف الأقل طلبًا على اللياقة البدنية مما لو كان قد عمل في أعلى الوظائف التي تتطلب لياقة بدنية[6]. بالإضافة إلى أن الوظائف التي تتطلب حرق كمية أكبر من السعرات الحرارية وهي الوظائف الفنية أصبح من الصعب الحصول عليها بسبب وجود الآلات، بالإضافة إلى إنها وظائف منخفضة الأجر، وهو ما جعل قلة من الناس مستعدين لتحمل تخفيض جوهري في الأجور مقابل بضعة كيلوغرامات من فقدان الوزن.
كذلك فإن زيادة النشاط البدني في أوقات الفراغ بممارسة الرياضة من بين البدائل التي يُمكنها تعويض الزيادة في السعرات الحرارية المستهلكة وانخفاض السعرات الحرارية في العمل. إلا أن ذلك يتطلب تكاليف كبيرة سواء لشراء المُعدات الرياضية أو نفقات ممارسة الرياضة ذاتها، بالإضافة إلى تكلفة الفرصة البديلة للوقت المُستخدم في ممارسة الرياضة، إذ أنه على مدى العقود القليلة الماضية، ظهرت أجهزة الكمبيوتر والإنترنت وألعاب الفيديو والتلفزيون الكبلي وغيرها والتي تتنافس مع الرياضة على أوقات فراغنا.
انخفاض المخاطر الصحية الناتجة عن السِمنة
نتيجة للتطورات الهائلة التي وصلت إليها التكنولوجيا الطبية، فقد انخفضت المخاطر الصحية للسمنة. حيث ظهرت في العقود القليلة الماضية العديد من العلاجات الطبية والصيدلانية والجراحية لعوامل الخطر والأمراض التي تُسببها السمنة، مما أدى إلى انخفاض كبير في التكاليف الصحية للسمنة، فعلى سبيل المثال أدخلت العديد من الأدوية والإجراءات الجراحية خلال ال 40 سنة الماضية التي تعالج الكولسترول وضغط الدم والمخاطر الأخرى التي ترفعها السمنة. ما أسفر في النهاية نتيجة لهذه التقنيات الجديدة عن تحسن ملحوظ في ضغط دم أفضل وتركيزات للكوليسترول لدى البالغين البُدناء مقارنة بالأشخاص الطبيعيين قبل بضعة عقود[7]. أدت هذه التطورات الطبية وغيرها في النهاية، إلى جعل البشر أقل قلقا بشأن وزنهم وغضهم البصر عن العدو اللدود الذي يتربص بهم، وبالتالي قلت احتمالات بذل الجهد والمال لمكافحته والحد من انتشاره.
التكلفة الاقتصادية للحرب ضد السِمنة
تفرض السِمنة عبئًا اقتصاديًا كبيرًا على الفرد والعائلات والدولة بشكلٍ عام، ففي عام 2014م قُدرت الآثار الاقتصادية العالمية للسِمنة بأنها 2 تريليون دولار أمريكي أو 2.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي[8]. وبالإضافة إلى الإنفاق الزائد على الرعاية الصحية، تفرض السمنة أيضاً تكاليف في شكل خسارة في الإنتاجية وانخفاض للنمو الاقتصادي نتيجة فُقدان أيام العمل وتردي في انتاجية العامل والوفاة والعجز الدائم. وقد انتهت العديد من الدراسات إلي وجود علاقة طردية بين زيادة مؤشر كتلة الجسم وتكاليف الرعاية الصحية، ويقيس نوع من الدراسات الاقتصادية المُتخصصة تُسمى الآثار الاقتصادية للمرض (Cost of illness studies) فتقُسمها إلى تكلفة العلاج وتكلفة المرض على المُجتمع.
التكلفة المُباشرة للعلاج
أُجريت العديد من الدراسات لقياس التكلفة الاقتصادية المُباشرة وغير المُباشرة لعلاج السمنة في العديد من الدول، فمثلًا في المكسيك[9] والبرازيل[10] أظهرت الدراسات نتائج مؤداها أنه من المُتوقع أن ترتفع تكاليف العلاج المُباشر في المكسيك من 806 مليون دولار أمريكي التي انفقت 2010م على علاج السِمنة إلى 1.7 مليار دولار أمريكي في عام 2050. وبالنسبة للبرازيل توقع أن ترتفع التكاليف من 5.8 مليار دولار أمريكي انفقت في2010م إلى 10.1 مليار دولار 2050م. أما في ألمانيا فقد بلغ إجمالي التكاليف المُباشرة حوالي 29.39 مليار يورو[11]، وفي تايلند بلغت التكلفة 170 مليون دولار أمريكي[12]، أما في كوريا الجنوبية فقد وصلت التكلفة إلى 1.08 مليار دولار[13]، وجميعها مبالغ مُرتفعة للغاية وتشكل نسب كبيرة من الانفاق الصحي في تلك البُلدان، هذا بالإضافة إلى التكلفة التي يتحملها الفرد نفسه، كما كلفت السِمنة وزيادة الوزن الولايات المُتحدة الأمريكية 1.3 مليار يوم عناية في المُستشفيات و68 مليار دولار عام 2012م وحده[14].
التكلفة المُجتمعية
بالإضافة إلى التكلفة المُباشرة للعلاج، فإن التكلفة الاقتصادية للسِمنة والأمراض المُترتبة عليها ايضًا تُعد باهظة ففي ألمانيا حصلت النساء ذوات الوزن المُرتفع على 3.64 يوم إجازة، والنساء البدينات على 5.19، والرجال البدينون 3.48 يوم إجازة مرضية زائدة عن أقرانهم ذوي الوزن الطبيعي في عام 2009م[15]، أما في الولايات المتحدة الأمريكية حصل العُمال البدناء على حوالي 1-3 أيام من الغياب لكل فرد في السنة مقارنةً بنظرائهم من الوزن الطبيعي، أما في أوروبا بشكلٍ عام فقد بلغت عدد أيام الغياب أكثر من 10 مُقارنة بالشخص ذا الوزن الطبيعي[16].
كذلك فإن ما تسببه السِمنة من إعاقة العامل عن عمله ترصده الدراسات الاقتصادية فتشير هذه الدراسات إلى أن الإعاقة هي غياب قصير الأجل وطويل الأجل من سوق العمل بسبب العجز الجسدي أو العقلي لتلبية المُتطلبات الوظيفية. إذ تُظهر تكاليف العجز أن الأفراد الذين يعانون من زيادة الوزن والسمنة لديهم مخاطر متزايدة للإعاقة قصيرة وطويلة الأجل ، ومن المرجح أن يتلقوا مدفوعات/معاشات العجز قبل نظرائهم الأصحاء[17].
يُضاف إلى التكاليف الاقتصادية الوفاة المُبكرة التي تنجم عن السِمنة والأمراض المُترتبة عليها فقد أظهرت الدراسات التي أجريت على عدد كبير من السكان في الولايات المُتحدة مع فترات متابعة طويلة أن معدل الوفيات يزداد تدريجيا مع ارتفاع مؤشر كتلة الجسم، وأن الوقت الذي يعيشه الإنسان مع السمنة يرتبط ارتباطًا مباشرًا بخطر الوفاة. كما أظهرت الدراسات أن التكاليف غير المباشرة الناجمة عن الوفاة المبكرة التي تعزى إلى السمنة في الولايات المتحدة قُدرت بـ 625 دولارًا أمريكيًا للشخص السمين، أو 30.15 مليار دولار أمريكي على المستوى الوطني المستوى في عام 2007م[18].
اتضح من العرض السابق كيف ساهمت التطورات الاقتصادية في انتشار السِمنة في المُجتمعات سواء المُتقدمة أو النامية، بالإضافة إلى النتائج الاقتصادية الكارثية الناتجة عن هذا الانتشار; فهل حان الوقت للتخلص من هذا الوباء اللعين؟
إعداد: محمد شادي
مراجعة: عبدالله أمين
المصادر
[1] Gardner G, Halweil B. , Underfed and overfed: the global epidemic of malnutrition , 2000Washington, DCWorldwatch Institute (Worldwatch paper no. 150.
[2] World Health OrganizationObesity: preventing and managing the global epidemic, Report of a WHO Consultation , 2000Geneva, SwitzerlandWorld Health Organization (WHO technical report series 894).
[3] Obesity and overweight [Internet]. World Health Organization. [cited 2018 Aug 25]. Available from: http://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/obesity-and-overweight
[4] Council of Economic Advisers (US). Economic report of the president. Diane Publishing Company; 2005.
[5]Bureau of labor statistics- One-Screen Data Search [Internet]. [cited 2018 Aug 25]. Available from: https://data.bls.gov/PDQWeb/cu
[6] Lakdawalla D, Philipson T. Labor supply and weight. Journal of Human Resources. 2007 Jan 1;42(1):85-116.
[7] Gregg EW, Cheng YJ, Cadwell BL, Imperatore G, Williams DE, Flegal KM, Narayan KV, Williamson DF. Secular trends in cardiovascular disease risk factors according to body mass index in US adults. Jama. 2005 Apr 20;293(15):1868-74.
[8] Dobbs R, Sawers C, Thompson F, Manyika J, Woetzel JR, Child P, McKenna S, Spatharou A. Overcoming obesity: an initial economic analysis. McKinsey global institute; 2014.
[9] Rtveladze K, Marsh T, Barquera S, Romero LM, Levy D, Melendez G, Webber L, Kilpi F, McPherson K, Brown M. Obesity prevalence in Mexico: impact on health and economic burden. Public health nutrition. 2014 Jan;17(1):233-9.
[10] Rtveladze K, Marsh T, Webber L, Kilpi F, Levy D, Conde W, McPherson K, Brown M. Health and economic burden of obesity in Brazil. PloS one. 2013 Jul 11;8(7):e68785.
[11] Effertz T, Engel S, Verheyen F, Linder R. The costs and consequences of obesity in Germany: a new approach from a prevalence and life-cycle perspective. The European Journal of Health Economics. 2016 Dec 1;17(9):1141-58.
[12] Pitayatienanan P, Butchon R, Yothasamut J, Aekplakorn W, Teerawattananon Y, Suksomboon N, Thavorncharoensap M. Economic costs of obesity in Thailand: a retrospective cost-of-illness study. BMC health services research. 2014 Dec;14(1):146.
[13] Kang JH, Jeong BG, Cho YG, Song HR, Kim KA. Socioeconomic costs of overweight and obesity in Korean adults. Journal of Korean medical science. 2011 Dec 1;26(12):1533-40.
[14] Yang Z, Zhang N. The burden of overweight and obesity on long-term care and Medicaid financing. Medical care. 2014 Jul 1;52(7):658-63.
[15] Lehnert T, Stuhldreher N, Streltchenia P, Riedel-Heller SG, König HH. Sick leave days and costs associated with overweight and obesity in Germany. Journal of occupational and environmental medicine. 2014 Jan 1;56(1):20-7.
[16] Neovius K, Johansson K, Kark M, Neovius M. Obesity status and sick leave: a systematic review. Obesity reviews. 2009 Jan;10(1):17-27.
[17] Lehnert T, Sonntag D, Konnopka A, Riedel-Heller S, König HH. Economic costs of overweight and obesity. Best practice & research Clinical endocrinology & metabolism. 2013 Apr 1;27(2):105-15.
[18] Trogdon JG, Finkelstein EA, Hylands T, Dellea PS, Kamal‐Bahl SJ. Indirect costs of obesity: a review of the current literature. Obesity Reviews. 2008 Sep;9(5):489-500.