الألعاب اللغوية وأنماط الحياة عند فتجنشتاين من وجهة نظر البنائية الاجتماعية

img1544983035610

|

سنناقش في هذه الورقة المفاهيم الرئيسة في فلسفة فتجنشتاين في الرياضيات بالإضافة إلى ألعاب اللغة وأشكال الحياة من وجهة نظر بنائية اجتماعية في محاولة لإظهار أن فلسفة فتجنشتاين لا تزال ذات أهمية كبيرة في الطريق التي يتم ممارسة وتدريس الرياضيات فيها اليوم. بدأنا هذه الورقة بنقاش قصير حول البنيوية الراديكالية وتبعناها بتحليل بسيط للمبادئ الأساسية للبنية الاجتماعية. وجهت هذه المفاهيم ضربة ضد الحكم المطلق، وضربة للمعالجة والتعاطي التقليدي للرياضيات بكونها حقائق منفصلة عنّا. نلاحظ أن نظرية المعرفة البنائية الاجتماعية للرياضيات تُلحقها بمجموعة أخرى من المعارف فتصير “فرع من المعرفة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعارف الأخرى، عبر شبكة من اللغة” (ارنست،1999)، وتصوُر المعرفة الرياضية كعملية ينبغي النظر فيها بالتزامن مع أصولها التاريخية وضمن السياق الاجتماعي. وبالتالي، مثل أي نمط آخر من أنماط المعرفة، تكون الرياضيات قابلة لفقدان حقيقتها أو ضرورتها. في القسم الثالث نناقش المسائل الرئيسة التي طرحت في كتاب التراكتوس وكتاب تحقيقات فلسفية، بالإضافة إلى كتب المرحلة الانتقالية في فكر فتجنشتاين والمتمثلة بأعمال مثل: الملاحظات على أسس الرياضيات، وملاحظات فلسفية. ثم سنقدم باختصار المفهومين الرئيسين في فلسفة فتجنشتاين التي سنستعين بهما في هذه الورقة: أشكال الحياة والألعاب اللغوية. في القسم الخامس والأخير سنؤكد على الروابط بين البنيوية الاجتماعية وفلسفة فتجنشتاين في الرياضيات. في الواقع، نحن ندّعي أن اليقين الواضح والموضوعية المعرفية للرياضيات تعتمد على اللغة الطبيعية وفق أرنست، بالإضافة إلى أن قواعد المنطق التي تنتج عن استخدام اللغة الطبيعية توفر الأساس الذي ترتكز عليه موضوعية الرياضيات. تنشأ الرياضيات من الحقائق التعريفية للغة الطبيعية، ويتم الحصول عليها عن طريق الممارسة الاجتماعية. يعتمد الصدق الرياضي  على القواعد المتفق عليها اجتماعيًا ضمن أشكال حياتنا، وهو مفهوم قدمه فتجنشتاين، حيث أن الصدق الرياضي يستند إلى قواعد لغوية وأشكال حياة.

1.مقدمة

ترتبط حركة البنيوية بفلاسفة مثل كانط وجون ديوي وجان بياجيه، وهو منظور معرفي يؤكد أن مفاهيم العلم هي عبارة عن بُنى عقلية ناتجة عن ما نخبره ونحسّه. وتتكون النظرية البنائية للمعرفة من مجموعة من المبادئ الأساسية:

1.المعرفة هي بناء أكثر من كونها مجموعة من المعلومات التجريبية.

2.لا توجد منهجية واحدة صالحة في العلوم، وإنما هي مجموعة متنوعة من الأساليب الفعالة التي نوظفها حسب الحاجة.

3.لا يستطيع الشخص التركيز على واقع وجودي، بل على واقع مبني، فالبحث عن واقع وجودي هو غير منطقي.

4.المعرفة والواقع هما نتاج لسياقهما الثقافي، أي أن كل ثقافتين مستقلتين لهما أنساق مختلفة.

اُستخدم مصطلح البنائية المعرفية لأول مرة من قبل جان بياجيه في مقالته الشهيرة عام 1967  (Logique et Connaissance Scientifique). يمكننا أن نتتبع الأفكار البنائية في وقت مبكر عند الفلاسفة اليونانيين، فالإنسان عند بروتوغوراس هو معيار كل شيء، والقاعدة السقراطية المعروفة “كل ما أعرفه هو إني لا أعرف شيئًا”. كما أن هذا المنظور البنائي كان أكثر وضوحًا عند أعمال البيرونية الشكّاكين، الذين رفضوا احتمال الوصول إلى الحقيقة إن كان بالوسائل الحسيّة أو العقلية وأنّه لا يمكن معرفة أي شيء بشكل دوغمائي.

تمّت إعادة إحياء النظرية البنائية من قبل الفيلسوف الإيطالي والمؤرخ جيامباتيستا فيكو(1668–1744) الذي اشتهر بكتابه( La scienza nuova)، والذي اعتبره الكثيرون أنّه من أعماله الرائعة، وكان هذا العمل ضد كل أنواع الاختزالية. في مقالته عام 1710 (On the Ancient Wisdom of Italians)، قام بالكتابة عن أن الحقيقة تصنع نفسها بنفسها، أي أن الحقيقة يتم اثباتها من خلال الفعل الواقعي والممارسة وليس كما يروج لذلك الديكارتيين. يمكن اعتبار مقالته اقتراح نموذج مبكّر لنظرية المعرفة.

وسار على نفس المنوال الفيلسوف المثالي البريطاني جورج باركلي الذي تحدّى الميتافيزيقا باعتباره أن الحقيقة لا بدّ أن تكون متحققة واقعيًا. وقام الفيلسوف الألماني إرنست فون جلاسرسفيلد بتقديم فكرته عن البنائية الراديكالية القائمة على نقطتين:

1.لا يتم تلقي المعرفة بشكل سلبي ولكن يتم بناؤها بشكل فعّال.

2.وظيفة الإدراك هي تكيفية وتخدم تنظيم العالم التجريبي، وليس اكتشاف الواقع الوجودي.

ويتم استخدام مصطلح الراديكالية للتأكيد على نقطة أن المعرفة يجب أن تكون بنائية جذرية.

2.البنائية الراديكالية في فلسفة الرياضيات: البنائية الاجتماعية

واحدة من أكثر القضايا جدلية وأكثرها إثارة للقلق في الفلسفة الحديثة للرياضيات هي المطلق مقابل التغير المفاهيمي أو نسبية المفاهيم. تؤكد الفلسفات المطلقة التي تعود إلى أفلاطون أن الرياضيات هي عبارة عن تجميع للمعرفة المطلقة والمحددة، في حين أن المنظور المعارض لمفهوم المطلق يؤكد أن الرياضيات هي منتج اجتماعي.

المطلق يفترض اثنين من الافتراضات الأساسية. أولاً، يفترض أن المعرفة الرياضية يمكن فصلها عن الأنشطة البشرية الأخرى، فهي تعيش في عالم أفلاطوني من الأفكار وتلقي ظلالاً على الجدران في أثناء انتظار اكتشافها. الافتراض الثاني هو أن الحقائق الرياضية التي يتم الحصول عليها صحيحة تمامًا ومعصومة.

وترى وجهات نظر علمية معاصرة من قبل فلاسفة مثل توماس كون وكارل بوبر وإمري لاكاتوس وبول فييرابند، أنَّ الرياضيات المطلقة قد اندثرت وانقرضت عبر التاريخ مثل الخيمياء والتنجيم. ورغم كل هذا، لا تزال الآراء المطلقة موجودة بين فلاسفة الرياضيات. فالرياضيات هي خلاصة اليقين، والحقائق الرياضية عالمية، وخالية من الثقافة والقيمة، ويتم اكتشاف مفاهيمها وليس اختراعها.

هناك اعتراضان رئيسان على الرياضيات المطلقة. أولاً، إن المنطق الاستنباطي كونه وسيلة للإثبات لا يمكن أن يؤسس لليقين الرياضي، لأنه سيؤدي إلى انحدار لا نهائي، ولا يمكن التملص من مجموعة الافتراضات الدُنيا التي تتطلبها الأنظمة الرياضية. ثانيًا، لا يمكن اعتبار النظريات الرياضية يقينية حتى ضمن النظام البديهي، لأن نظرية عدم الاكتمال الثانية لجودل تقول أن الاتّساق يتطلب مجموعة أكبر من الافتراضات الواردة في أي نظام رياضي. كما سنعرض في المحطات القادمة، فإنه يمكن التغلب على كل هذه المآزق من خلال تنفيذ النهج البنائي الاجتماعي.

إنَّ وجهة النظر البنيوية الاجتماعية في الرياضيات التي طورها بول إرنست متجذرة في البنيوية الراديكالية لإرنست فون جارسرسفيلد. وجهة النظر هذه تقدم الرياضيات بوصفها منتج ثقافي واجتماعي، مرن، وقابل للتغير والإصلاح. هذه الموقف من الرياضيات يتطلب فهم نقطتين:

1.أصول الرياضيات اجتماعية أو ثقافية.

2.يعتمد تبرير المعرفة الرياضية على أساس شبه تجريبي.

يجادل البنيويون الاجتماعيون بأن الفلسفة المطلقة للرياضيات يجب استبدالها بفلسفة مرنة للرياضيات مبنية على المبادئ البنائية الراديكالية، والتي لا تنكر وجود العوالم المادية والاجتماعية، وهذا يتطلب افتراضين:

1.افتراض الواقع المادي: هناك عالم مادي دائم، كما يخبرنا شعورنا العام.

2.افتراض الواقع الاجتماعي: أي نقاش وجود الإنسان واللغة.

مع هذه الافتراضات الإضافية يمكن الآن توسيع مبادئ البنيوية الراديكالية لتشكيل الأسس المعرفية للبنيوية الاجتماعية في الرياضيات:

1.يجب أن تتوافق النظريات الشخصية الناتجة عن الممارسة التجريبية مع القيود التي يفرضها الواقع المادي والاجتماعي.

2.يتم تحقيق ذلك عبر دورة تتمثل بفرض النظرية ثم اختبارها، وإذا فشلت علينا أن نتصالح مع ذلك ونبدأ من جديد.

3.هذا ينتج نظريات متفق عليها اجتماعيًا للأنماط الاجتماعية وقواعد استخدام اللغة.

4.الرياضيات هي نظرية البنية والنسق الذي يتشكل داخل اللغة.

إن نظرية المعرفة البنائية الاجتماعية يمكنها المراوغة والتحايل على انتقادات النزعة الذاتانيّة، لأن “مبادئ البنائية الراديكالية تتسق وتتناسب بشكل متغير مع الواقع المادي والاجتماعي”(إرنست-1999).

3.مراحل فتجنشتاين الثلاث

لودفيغ جوزيف يوهان فتجنشتاين(1889-1951)، فيلسوف نمساوي – بريطاني، يعتبره برتراند رسل أفضل مثال للعبقرية المتحمسة والعميقة والصارمة والمسيطرة. كان مزيجًا من الأمور والصفات، فتجنشتاين الفيلسوف والمترهبن والمتصوف والمهندس. كان خصية غامضة لا يمكنك سبر غورها بسهولة، شخصية متأملة، مشاكسة ومتناقضة. ولد في أحد أغنى العائلات في أوروبا، تخلّى عن كل ميراثه. ثلاث أخوة لديه قد انتحروا، وكان الانتحار لا يفارق تفكير فتجنشتاين. إنه يهودي، يعبر غالبًا عن مشاعر معادية للسامية. أستاذ للفلسفة في كامبريدج، غادر الجامعة في مناسبات عدة، للانعزال أو السفر أو تعليم الأطفال، وفي الحرب العالمية الثانية تركها ليكون سائق لسيارة إسعاف. يصف فتجنشتاين الفلسفة بأنها “العمل الوحيد الذي يشعرني بالرضا”(مالكوم،1958-84). نشر في حياته كتابًا واحدًا للفلسفة وهو التراكتوس والذي كان يتكون من 75 صفحة، عمل كتبه فتجنشتاين في الخنادق خلال الحرب العالمية الأولى. لم تكن تحقيقاته الفلسفية جاهزة للنشر عندما توفي في عام، ونُشر الكتاب بعد وفاته في عام 1953، ويعد من أهم كتب في فلسفة القرن العشرين. ويشكل كتاب التراكتوس مرحلة فتجنشتاين الفكرية الأولى وكتاب التحقيقات مرحلة تفكيرة الثانية.

على الرغم من أن فتجنشتاين عمل في المقام الأول في المنطق وفلسفة اللغة، إلّا أن مساهماته في فلسفة الرياضيات كانت واضحة، يقول راي مونك:”كانت المساهمة الرئيسة في فلسفة الرياضيات”. ومن المهم التمييز بين ثلاث فترات في فلسفة فتجنشتاين في الرياضيات: الفترة المبكرة التي تجسدت بكتاب التراكتوس، والفترة المتوسطة التي تجسدت في أعمال مثل القواعد الفلسفية وكتاب ملاحظات على أسس الرياضيات، والفترة المتأخرة والتي جسدها كتاب تحقيقات فلسفية.

كان الهدف من تراكتوس كما قال فتجنشتاين في القضية رقم 4.113 هو الكشف عن العلاقة بين اللغة والعالم، أي تعريف للعلاقة بين اللغة والخارج ووضع حدود للعلم.

كان كتاب تراكتوس يناقش نفس القضايا التي ناقشها برتراند رس، حيث أن فتجنشتاين ورسل يعتقدان أن اللغة التي نستخدمها بسوء فهم تحجب الهيكل المنطقي الأساسي للغة. يؤمن بأن اللغة لها بنية منطقية أساسية ومحددة، وهي بنية تحدد ما يمكن قوله وما يمكن التفكير فيه. فكتاب تراكتوس وضع حدًا للتفكير أو حدًا للتعبير عن الأفكار. ويعتقد فتجنشتاين أن مشاكل الفلسفة ناجمة عن قول ما لا يمكن التفكير فيه، فكل شيء واضح لا بد أن يقال بوضوح، ولا يمكن التفكير فيما هو أبعد من ذلك من أمور الدين والأخلاق والجماليات، فتلك مسائل تظهر نفسها بنفسها ولا تُقال.

كان التراكتوس كتاب يشرح ما يمكن أن نقوله ويكون له معنى، ويتألف التراكتوس من قضايا مرقمة من واحد إلى سبعة، مع تفرعات لكل قضية لشرحها على سبيل المثال: 1 ،1.1، 1.11

وكانت القضايا السبعة الرئيسة في التراكتوس:

  1. العالم هو جميع ما هنالك
  2. إن ما هنالك، أي الواقعة، هو وجود الوقائع الذرية.
  3. الصورة المنطقية للوقائع هي الفكر.
  4. الفكر هو القضية ذات المعنى.
  5. القضايا عبارة عن دالات صدق للقضايا الأولية.
  6. إن الصورة العامة لدالة الصدق هي [p¯,ξ¯,N(ξ¯)]
    هذه هي الصورة العامة للقضية.
  7. إن مالا يستطيع المرء أن يتحدث عنه، ينبغي أن يصمت عنه.

أعلن فتجنشتاين أن القضايا الصحيحة هي فقط القضايا التي تصوّر الواقع، أي القضايا الأمبريقية. ستكون هذه القضايا صحيحة لو تطابقت مع الواقع والعكس صحيح، وبالتالي كانت القيمة الحقيقية للقضية التجريبية عاكسة ودالة لصورة العالم.

ووفقًا لهذا، لا تكون قضايا الرياضيات قضايا حقيقية، فهي ذات بنية ليست طبيعية، وليست قضايا يمكن أن نصفها بالصدق أو الكذب، بالإضافة إلى أنّ قضايا الرياضيات هي قضايا تحصيل حاصل ولا تقول شيئًا عن العالم. الرياضيات هي مجرد رموز وأدوات حتّى نفهم.

تتميز الفترة الوسطى في فلسفة فتجنشتاين في الرياضيات بكتاب ملاحظات فلسفية وكتاب القواعد الفلسفية وكتاب ملاحظات حول أسس الرياضيات. تتميز هذه الفترة بمبدأ أن الرياضيات هي اختراع بشري. لا توجد الرياضيات بشكل مستقل، ولكن الرياضيات هي نتاج النشاط البشري. ويختلف فتجنشتاين المتأخر عن فتجنشتاين الأول، ففي التحقيقات لم تعد اللغة رسمًا، بل أصبحت أكثر مرونة وحركية، ولا يمكن للغة أن تكون تمثيلاً للأشياء، بل يجب علينا التحقق من كيفية استخدامها، فالمعنى في الاستخدام. وكانت تراكتوس محاولة لوضع لغة مثالية منطقية، وفي التحقيقات أكّد فتجنشتاين حقيقة أنّ اللغة البشرية أكثر تعقيدًا من التمثيلات الساذجة التي تحاول تفسيرها عن طريق نظام رسمي. من الخطأ رؤية اللغة على أنها تشبه بأي حال من الأحوال المنطق الرسمي.

كانت التحقيقات الفلسفية فريدة من نوعها في أسلوبها، حيث أنها تعامل الفلسفة كنشاط، ومثال ذلك ما أورده في التحقيقات حيث يقول:

فكر في الاستخدام التالي لغة: أرسلت شخصًا للتسوق. وأعطيته سلة ليحضر لي خمس تفاحات حمراء. أخذ السلة لصاحب المتجر، الذي يفتح الدرج الذي يحمل علامة تفاح، ثم يبحث عن كلمة أحمر في جدول ويجد لونًا مثله، ثم يقول سلسلة من الأرقام -أفترض أنه يعرفها عن ظهر قلب- حتى كلمة خمسة، ولكل رقم يأخذ تفاحة من نفس لون العينة خارج الدرج. هو في هذا يتعامل مع اللغة بطريقة اعتيادية، ولكن كيف يعرف أين التفاح؟ وكيف يعرف معنى كلمة أحمر؟ وما معنى كلمة خمسة؟. أنا افترضت هذا المثال كما قلت. لكن ما معنى كلمة خمسة؟ لا يوجد مثل هذا السؤال، وإنّما كيف يتم استخدام كلمة خمسة.

وقد قال فتجنشتاين في التحقيقات أن اللغة ليست تحت تصرف الأشياء في العالم. البشر هم سادة اللغة وليس العالم. نحن من اخترنا القواعد وحددنا ماذا تعني هذه القواعد لنتبّعها.

هناك جدل حول ما إذا كان فتجنشتاين المتأخر يتبع في آراءه فتجنشتاين في مرحلته الوسطى أم أن المرحلتين مختلفات عن بعض فيما يتعلق بفلسفته عن الرياضيات. وهنا نقول أن هناك أطروحة واحدة في الفترتين وبالأحرى في الثلاث مراحل في هذا الشأن، وهي أطروحة أن الرياضيات هي اختراع بشري، فنحن نخترع عالم الرياضيات ولا نكتشفه.

4.الألعاب اللغوية وأشكال الحياة

تضمنت التحقيقات على مفاهيم مثل اتباع القواعد، وألعاب اللغة، والتشابه الأسري، واللغة الخاصة، والقواعد، وأشكال الحياة. من بين تلك المفاهيم سنناقش ولو بشكل مقتضب التشابه الأسري والألعاب اللغوية وأشكال الحياة.

التشابه الأسريّ وألعاب اللغة

دعونا نبدأ من خلال توضيح ما يعنيه فتجنشتاين بالتشابه الأسري. بعض الكلمات التي تؤدي وظائف مماثلة تعتمد فعليًا على مجموعة من القواعد. إذا درسنا كيفية استخدام اللغة فعليًا، فسوف نلاحظ أن معظم المصطلحات ليس لها استخدا واحد فقط بل مجموعة من الاستخدامات، ويستخدم فتجنشتاين مصطلح “اللعبة”، حيث من الممكن أن تشير هذه الكلمو إلى رياضة أو لعب أطفال أو لعبة تنافسية أو لعبة فردية أو تعاونية ونحو ذلك، ولا يوجد شيء يوحّد جميع الألعاب. لا يوجد “جوهر” للعبة. فالألعاب اللغوية مثل الأسرة بعض أفرادها قد يكون لديهم الصلع والبعض الآخر لون عيون مميز ولكن ليس هناك خاصية واحدة جوهرية يملكها الجميع. قدم فتجنشتاين مصطلح الألعاب اللغوية لبيان أن للغة أشكال بسيطة تستخدم في الحياة العادية ولم يقدم مفهوم جوهري للغة. حيث تتكون هذه الألعاب من مجموعة الاجراءات  والأفعال التي تتم وتُنسج من خلال اللغة، لتتصل فيما بعد هذه الألعاب من خلال التشابه الأسريّ.

المثال الكلاسيكي للعبة استخدام اللعبة اللغوية الخاصة بالبَنَّائين والتي يستعمل فيها البَنَّاء ومساعده أربعة مصطلحات بالضبط (قالب، عامود، بلاطة، عارضة)، فبمجرد أن يقول البانيّ لمساعده “بلاطة!” يستجيب له المساعد ويحضر الأداة، وهذا حسب اتفاقات وتفاهمات معينة بينهم. لغة البناء هي نشاط، إنها لغة ولكن بشكل أبسط. كما يعطي فتجنشتاين مثال “الماء!” والتي يمكن استخدامها كعلامة تعجب أو طلب أو كإجابة على سؤال. يعتمد معنى الكلمة على اللعبة اللغوية المستخدمة فيها، فكلمة “الماء” لا معنى لها خارج السياق وخارج استخدامها في لعبتها اللغوية. طبّق فتجنشتاين كذلك مفهومه عن الألعاب اللغوية في الجمل أيضًا. فالاستخدام المستقل للجملة خارج السياق لا يدل على أي شيء، فلا بد من وجود سياق معين. على سبيل المثال استخدم فتجنشتاين عبارة ” موسى لم يكن موجود” والتي يمكن استخدامها لتقول أن لا شخص يشبه في صفاته الشخص المنسوب إلى اسم موسى، ويمكن أن تُفّهم أن النبي موسى لم يكن يُسمى موسى، أو أن لم يكن هناك شخصية تاريخية اسمها موسى. لا يمكن فهم الجمل من غير وضعها في سياق واستخدام.

على المرء أن يستوعب قواعد معينة في المجتمع للمشاركة في لعبة اللغة، وعليه أن يفهم الدلالات والسياقات ليشارك في الخطاب الاجتماعي. قد تتغير الألعاب وفقًا لتغير القواعد، وهذه الألعاب يتم تعلمها من خلال الممارسة.

أشكال الحياة

استخدم فتجشتاين هذا المصطلح للإشارة إلى المكونات الاجتماعية والتاريخية والثقافية والنفسية التي تشكّل البيئة ونمط معين من الحياة، ويقول فتجنشتاين:”أن الحديث عن اللغة هو جزء من نشاط، أو شكل من أشكال الحياة”، ويقول:”عند استخدام لغة، يلزم وجود اتفاقية، ليس فقط في التعاريف ولكن أيضًا في الأحكام”. بما أنّ اللغة محكومة بالقواعد، فهي أساس المجتمع. هو جزء لا يتجزأ من ممارستنا في أشكال حياتنا. القواعد لا بد أن يتم تفسيرها وشرحها، لا بد أن تكون وضاحة، من خلال التوافق في الآراء حول ما هو مفهوم وما هو غير ذلك. وبالتالي فإنَّ فكرة اللغة الخاصة غير صحيحة فهي لغة في رأس صاحبها لا يفهمها إلا هو، والمعنى يكون في السياق والاستخدام.

يمهد هذا المفهوم الطريق إلى تبنّي أسلوب آخر للبناء من قبل فتجنشتاين. من أجل أن يكون للديكارتية معنى، لا بد أن يكون هناك قبول مسبق لما يجب اعتباره تفكيرًا. لا يمكن للكوجيتو أن تكون نقطة بداية لما يمكننا معرفته. قام فتجنشتاين بهدم مئات السنين من الفلسفة من خلال القضاء على عبء البحث السيزيفي عن اليقين الأساسي.

5.البنائية الاجتماعية وفتجنشتاين

إن الأطروحة البنائية الاجتماعية حسب إرنست تقول أن الرياضيات هي بناء اجتماعي ومنتج ثقافي مثل أي فرع آخر من المعرفة، وأن تبرير المعرفة الرياضية يعتمد على أساس شبه تجريبي. وعند فتجنشتاين تعتمد البنائية الاجتماعية على أساس القواعد اللغوية للاستخدام وأشكال الحياة، وكذلك المعرفو الرياضية عنده جزء من أشكال الحياة.

بالنسبة إلى فتجنشتاين، الرياضيات هي نوع من أنواع الألعاب اللغوية، لأن تكوين المعرفة الرياضية يعتمد بشكل عميق على الحوار الذي يعكس المنطق الجدلي للخطاب الأكاديمي. ما يعطي هذا الاهتمام بالرياضيات كونها نمط معرفي ولعبة مثل الأنماط الأخرى هو اهتمام فتجنشتاين باستخدام اللغات الطبيعية في أشكال متنوعة من الحياة. وهذا ما يجعله يقول أن الرياضيات تلعب أدوارًا تطبيقيّة متنوعة في أشكال النشاط البشري والحياة العادية للناس.

وكون الرياضيات لعبة لغوية، فإنّ ذلك يحتّم عليها أن تمتلك سمات معينة، وهي القواعد والأنماط السلوكية والاستخدام اللغوي الذي يجب الالتزام به. كما هو الحال في أي لغة، تقوم القواعد النحوية حاسمة للحفاظ على التواصل بين الناس.

يتطور هيكل وشكل هذه القواعد النحويّة وطرق تلقيها وقبولها ضمن الممارسات اللغوية والاجتماعية. وهذا يؤدي إلى توافق في الآراء ينتج قبول البراهين الرياضية وبالتالي إنشاء النظريات التي تُنسج من خيوط اللغة المشتركة ومجموعة من المبادئ القائمة التي تعتمد على الظروف الاجتماعية. مثال ممتاز لهذا هو نظرية الألوان الأربعة. كما يساعد تفسير الرياضيات على أنها لعبة لغوية في تحديد الطبيعة الاجتماعية للرياضيات. اللغة أمر أساسي وحيوي للبناء الاجتماعي، حيث تنمو المعرفة من خلال اللغة. ويقول إرنست أن المؤسسة الاجتماعية للغة تقبل وتبرر المؤسسة الفلسفية في مرحلة ما أو أخرى. المعرفة الرياضية هي اتفاقات اجتماعة، وظاهرة اجتماعية تشمل اللغة والتفاوض والقبول من المجموعة. ونتيجة لذلك، فإنّ المعرفة الرياضية هي التي يتم قبولها وتأكيدها من قبل مجتمع الرياضيات.

يتم تقديم دليل على مجموعة من علماء الرياضيات. فيتم تحليل الدليل بعد ذلك يتم رفضه أو قبوله اعتمادًا على صحته. إذا تم رفضه، نعيد المحاولة من جديد حتى يكون هناك اتّفاق. المعرفة الرياضية مؤقتة، وتتغير باستمرار لأنها تتكئ على مجموعة من الاتفاقات البشرية. هذه النظرية الاجتماعية البنائية للرياضيات تتغلب على مشكلتين أشرنا لهما سابقًا: الانحدار والاتّساق اللانهائي. بما أنّ مفاهيم الرياضيات مشتقة من التجربة المباشرة للعالم المادي من خلال اتفاقات معينة داخل المجتمع الرياضي، فإنّ الرياضيات تتقارب من العلوم الأخرى من خلال اللغة. المعرفة الرياضية يتم بناؤها في أذهان الرياضيين وبعبارة أخرى يقول إرنست:”يتم بناء الرياضيات من قبل عالم الرياضيات، ولا يتم اكتشافها”. يعتمد الصدق المعرفي والموضوعي للرياضيات على حقيقة أن الرمزية الرياضية هي امتداد متطور للغة المكتوبة. كما لاحظ فتجنشتاين، فإنَّ الحقائق الرياضية تنشأ من حقائق اللغة الطبيعية، من خلال التفاعل الاجتماعي.

يتم تعريف حقائق الرياضيات من خلال الاتفاق الاجتماعي الضمني -أنماط السلوك المشتركة- على ما يشكّل مفاهيم رياضية مقبولة، والعلاقات بينها، وطرق استنباط حقائق جديدة من القديم. يعتمد اليقين الرياضي على قواعد الخطاب المقبولة اجتماعيًا المتضمنة في أشكال حياتنا(فتجنشتاين، 1956).

 

ترجمة: مروان محمود

تدقيق: مايكل ماهر

مصدرالترجمة والمراجع

 

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي