البكتيريا العدو القديم الجديد.. والمضادات الحيوية العميل المزدوج

البكتيريا

على مدار القرون التي سبقت القرن العشرين كان هناك تحدٍ بين الأطباء والعدوى البكتيرية، معظم المواجهات كانت تصب في مصلحة البكتيريا لعدم فعالية الأدوية في القضاء على تلك الكائنات الدقيقة فالواقع حينئذٍ أن الأطباء عالجوا الأعراض أما مسبب المرض فكان بعيد المنال وكان القضاء على مسببات تلك العدوى البكتيرية أحجية لا تُحل.

ما هي البكتيريا

تُعرَّف البكتريا بكونها كائنات مجهرية وحيدة الخلية أوليَّة النواة يُحيط بعُضياتها غشاءٌ خلوي (Cell membrane) وجدار خلوي (Cell wall)، تفتقد لبعض عُضيات الخلايا مثل البلاستيدات الخضراء أو الميتوكوندريا وبذلك يكون غذاؤها من الوسط التي تعيش عليه فهي تعتمد على المكونات الأساسية للخلايا حولها، وتتكاثرُ معظم فصائلها لا جنسيًا بالانشطار الثنائيّوالذي يعني أن تنقسم الخلية البكتيرية إلى نصفين بعد أن تصل إلى حجم معين، بعض الفصائل تتكاثر بشكلٍ أفضل في الوسط المُعرَّض للهواء، والبعض الآخر تكون الأجواء غير الهوائيةالمطموسة أو المغمورة بالماءمفضلةً إليه.[1]

إلى أي مدًى قد تضرُّنا البكتيريا

تختلف البكتيريا في أسلحتها الحيويّة وتختلف في شراستها، البعض منها قد يظل كامنًا وينشط في بعض الأوقات حينما تقل كفاءة أجهزتنا المناعية، أو ثانويًا كعرض لبعض الأمراض الأخرى مثل الفيروسية.

بعض الفصائل تكوِّف غشاءً في الحنجرة يمنع المصاب من التنفس فيما يُعرف بداء الخناق، وبعضها يسبب التهابًا في الشُعب الهوائية وبعضُها يصيب الجهاز الهضمي ويُخلص الجسم من سوائله بالتدريج مثلما عانت مصر من وباء الكوليرا في بدايات القرن الماضي وكما يتذكُّر أبناء جيلنا كيف وصفها عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الأيام.

أمراضٌ كتلك التيذكرتها إضافةً للحمى الروماتيزمية والسيلان على سبيل المثال لا الحصرشكَّلت أرقًا للطاقم الطبي آنذاك حيث لم يكون معلومًا آلية المرض وكيفية القضاء على مسبب المرض عوضًا عن علاج أعراضه. الأمل والصبر وكثيرٌ من التجارب وتخفيف الأعراض. لم يكن هناك أيُّ علاج مُكتشف يقضي على تلك الكائنات المجهرية المتطفلة. [2]

البنسلين وعصر جديد 

ذلك العدو القديم المتمثل في فصائل البكتيريا العديدة وقف عند حده في القرن العشرين والذي شهد طفرةً طبية لم يسبق لها مثيل من قبل. باكتشاف البنسلين على يد الطبيب ألكسندر فلمنج أخصائي دراسة الميكروبات بمستشفى سانت ماري باسكتلندا.

كان فلمنج حينئذٍ يدرس إحدى الفصائل البكتيريّة المسماة المكورات العنقودية (Staphylococcus) التي تسبب احتقان الحلق والدمامل والخراج، وحينما عاد من عطلته الصيفية ألقى نظرة على الأطباق المخصصة كمزارع بكتيرية قبل أن يُعيد ترتيبها، هذا وقد لاحظ شيئًا غريبًا لفت انتباهه وهو أن أحد الأطباق كان مُنقطًا بمستعمرات المكورات العنقودية ونمت عليه بُقعة من العفن، الشيء الغريب الذي لاحظه فلمنج هو أن المساحة حول بُقعة العفن المتكونة كانت خالية من البكتيريا! وكأن العفن أفرز شيئًا ما منع نموها، الذي اتضح فيما بعد أن العفن أفرز البنسلين كأول مضاد حيوي في العالم نكتشفه آنذاك.

وجد فلمنج أن عصارة هذا العفن قادرة على قتل عدة فصائل من البكتيريا مثل المكورات العنقودية والمكورات السحائية (Meningococcus) والبكتريا المسببة للخُناق (ديفتيريا-diphtheria bacillus). [3]

Sir Alexander Fleming in His Laboratory : News Photo

Colonies Of Penicillium Notatus : News Photo

«عندما استيقظت قُبيل فجر الثامن والعشرين من سبتمبر لعام 1928، بالطبع لم أكن أُخطط للقيام بثورة طبية باكتشاف أول مضاد حيوي أو قاتل للبكتيريا في العالم، لكني أعتقد أنَّ هذا بالضبط ما حدث

ما يأتي متأخرًا خيرٌ مما لا يأتي أبدًا

تلك الفترة شهدت الحرب العالمية الثانية في أوجها، وعبر التاريخ كانت الإصابة بأمراض معدية تُعد القاتل الأكبر في الحروب ففي الحرب العالمية الأولى بلغ معدل الوفاة من الالتهاب البكتيري للجهاز التنفسي 18% بينما في الحرب العالمية الثانية قل هذا المعدل إلى أقل من 1%.

استغرقت الأبحاث وقتًا طويلًا حتى يتم استخلاص البنسلين ويتم تداوله كمضاد حيوي دون قلق، حيث إن أول مواطن يتم علاجه بنجاح باستخدام البنسلين كان في مارس عام 1942 أي بعد أربعة عشر عامًا منذ ملاحظة فلمنج لأطباق مزرعة البكتيريا الخاصة به، لذلك ففي الفترة بين يناير ومايو عام 1942، صُنع ما يقارب 400 مليون وحدة من البنسلين وفي نهاية الحرب العالمية الثانية صنَّعت شركات الدواء الأمريكية 650 مليار وحدة شهريًا.

وكُلِّلَت ملاحظات فلمنج ودوره في الطفرة الطبية الأقوى في القرن العشرين بفوزه بجائزة نوبل في الطب لعالم 1945.

تعاقب الأجيال

مع مرور السنوات أخذ العلم يكتشف الجديد من الأعداء البكتيرية لم يسبق لنا رصدها من قبل مثل البكتيريا المقاومة للبنسلين، لكن مع تطور الطب ومع الهدوء النسبي بعد الحروب العالمية، استُثمر أكثر في الأبحاث التي تتابع المضادات الحيوية إلى أن استطعنا تكوين عائلة من المضادات الحيوية، كل صنف منها قائم بدور محدد حسب الحاجة إليه ووفقًا للدراسة المجهرية لتكوين البكتيريا، مواجهين الأعداء الجُدد بسلاح يفتك بهم.

تصنيف المضادات الحيوية

كان حتمًا على علماء الأدوية تقسيم المضادات الحيوية إلى مجموعات، وكانت النتيجة النهائية تقسيم المضادات الحيوية كما يلي: [4]

  1. مجموعة تمنع تكون الجدار الخلوي للبكتيريا تضُّم البنسلين والكيفالوسبورين (Cephalosporin) بأجياله الثلاثة والفانكوميسين (Vancomycin) المستخدم للقضاء على المكورات العنقودية المقاومة للبنسلين.
  2. مجموعة تمنع تصنيع البروتين اللازم لخلايا البكتيريا.

  3. مجموعة تمنع تصنيع المادة الوراثية البكتيرية (Bacterial DNA).

مفاجأة لم تكن في الحسبان

أخذ استخدام المضادات الحيوية في التسارع حتى وصل في بعض الأحيان إلى الاستخدام دون جدوى. في الوقت الذي اعتقدنا كبشر أننا استطعنا تطويق تلك الكائنات البكتيرية والانتصار على أحد أقدم وألد الأعداء، ظهرت لنا فصائل مقاومة للمضادات الحيوية، حيث لوحظَ تطور بعض الفصائل.

سأعطي لك مثالًا، قد يُصاب شخصٌ ما بعدوى بكتيرية ضعيفة بمقدور جهازه المناعي التغلب عليها، لكن عوضًا عن ذلك يأخد المضاد الحيوي المناسب لها أو مضادًا حيويًا أقوى مما ينبغي، النتيجة هي القضاء على مسبب المرض فعلًا لكن إذا نجت مجموعة من البكتيرياقد يكونُ ذلك بعدم استكمال المساق العلاجي إن كان وصف المضاد الحيوي ضروريًافإنها حتمًا ستتحور وتتطور إلى أن تقاوم المضادات الحيوية التي استخدمت، وستكونُ غير فعالة إن نُشطت تلك الفصيلة من البكتيريا ثانيةً.

الوباء المنتظر بعد كوفيد19

لنكن واقعيين، عشنا خلال جائحة وباء كوفيد19 أيامًا ثقالًا، وظروفًا صعبة، لكن كان أملنا أنَّ خلال عام أو اثنين سيظهر اللقاح، وبالفعل قد كان. أما ما نحن بصدده الآن هو أكثر خطورةً، تخيَّل العدو القديم الضعيف أمام البنسلين مقاومًا لكل أنواع المضادات الحيوية، وبالفعل تم رصد حالات ليست بالقليلة مقاومةً كلَّ أصناف المضادات الحيوية فلم يُجدِ نفعًا أيُّ علاج مع هذه الحالات!

الطريق فيما بعد

توصي منظمة الصحة العالمة في تقاريرها بنشر ثقافة عدم استخدام المضادات الحيوية إلا عند الضرورة إضافةً إلى الابتعاد عن الأجواء المسببة لنشر الأمراض عن طريق الاهتمام بالنظافة الشخصية، والمجتمعية، والمعايير الوقائية للحد من الأمراض.[5]

لطالما واجهت الإنسانية تحديات على مدار التاريخ، لكنَّ التحديات الطبية تكثرُ في الآونة الأخيرة، أتمنى أن نعي أهمية الصحة حقًّا جراء ما مررنا به خلال جائحة كوفيد19 وأن نمنع حدوث مقاومة المضادات الحيوية قدر الإمكان.

في النهاية، أعزاؤنا القُراء، أطرح سؤآلًا عليكم، ماذا تعتقدون حدوثَه لو لم يلاحظ ألكسندر فلمنج التغير الحادث في الأطباق التي كان يدرسها عام 1928؟

شارك المقال:

6 Responses

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي