مما اعتادته التفسيرات الشائعة حول طبيعة الأفعال غير الأخلاقية، ونزوع الإنسان إلى ارتكاب سلوك عدواني، في أن تصب نحو طبيعة سمات الشخصية المَرضية على حساب تهميش العوامل الخارجية عن الذات، وهذا ما يُشهد له الترجيح بالفعل، في نماذج تتسم بطبائع عصبية ونفسية مثل أفعال التسلط والسادية مع الآخرين، فهي لمِن المُسببات القصديّة وراء الفعل العدائي، لكن عندما تَصدر أفعال مماثلة ومجردة من القيم الأخلاقية، لكنها من قِبل أُناس على درجة عالية من الصحة والاتزان النفسي، وعلى قدر كافي من الاستقامة الخُلقية مجتمعيًا، والالتزام المنضبط قانونيًا، تكون طرق الفهم ههنا غير مكتفية بالبحث في العوامل النفسية للفاعلين بل بالنظر في السياق الاجتماعي والسياسي كعوامل خارجية عن الذات، ومحاولة لفهم الجوانب المشكلة لإتيقا الذات[1]. بيد أن فهم الطبيعة البشرية بشكل كامل هو موضع غموض، على الرغم من كل ما أحدثته الثورات المعرفية والعلمية في طبيعة الفهم البشري، فما زالت النفس البشرية كسطح قمة جبل الثلج -حيث ما يظهر منها ما هو إلا جزء ضئيل من حجمها بينما الجزء الأكبر والقاعدي قابع أسفل المياه بشكل غير مرئي في العمق- أو بالمقاربة مع مفهوم شوبنهاور أن العالم تمثّلًا فهو متبدي لنا واضح ومعلوم لكنه محكوم بعالم الإرادة الذي هو عالم خفي لا واعي وهكذا هي النفس البشرية، لذا ما نحاول أن نسلكه يكون حول التساؤل: كيف لأناس عاديون أن يشاركوا في أفظع الجرائم؟ ولأن نسعى لفهم العوامل الغامضة والمخفية وراء إرادة أفعال الشر من أفراد أخْيار ونتبين طبيعة أفعالنا الغائية غير الواعية.
تجارب الطاعة (الانصياع للسلطة)
«إنه يجب الآن الحذر ممن يحترمون القانون أكثر ممن ينتهكونه». [2]
تجربة ميلغرام
أجرى ستانلي ميلغرام عالم النفس الاجتماعي الأمريكي، تجارب الطاعة العمياء في جامعة ييل في عام 1963م، تقوم التجربة باحتماليات السلوك البشري التي تعتمد على استثارة الانفعال؛ وأجريت التجربة على أفراد بين سن العشرين والخمسين، وكان المشاركون يعملون بمهن مختلفة، ومن مستويات تعليم متفاوتة، وبمقابل نقدي، وقيل لهم أنهم سيشاركون في دراسة وأبحاث علمية عن التذكر والتعلم بجامعة ييل، وأن الهدف من التجربة هو معرفة تأثير العقاب في التعليم، وذلك على اعتبار أن وسيلة العقاب هي إحداث صدمات كهربائية متصاعدة بالمتعلم كلما أخطأ الإجابة، وبذلك أوهم ميلغرام المشاركين بأنهم يقومون بدور المعلم وأن المتعلم يقع عليه العقاب، وتعددت التجارب حول درجات التواصل بين المعلم والمتعلم والمشرف على التجربة.
وقد أحدثت نتائج أبحاث ميلغرام صدمة في المجتمع الأكاديمي والرأي العام، حيث وصلت النسبة إلى 65% من المشاركين الذين استمروا في العقاب حتى الصعقة القصوى (450 فولت)، وإذا بتجارب الطاعة تثير؛ ضجة عارمة عندما أثبتت أن الوحشية لا يقوم بها أشخاص متوحشون، بل رجال ونساء مثلنا يحاولون أن يعفو أنفسهم من الواجب الأخلاقي. ويقول ستانلي ميغلرام: «فالسلوك الذي لا يرضاه الشخص الذي يتصرف بمحض إرادته من الممكن أن ينفذه بلا تردد من خلال الأوامر».[3] لذا تبعد نتائج ميلغرام المنظور القديم الذي يختصر فهم الظاهرة في المسببات المرضية، بل ترمي النتائج إلى أهمية الإطار المنظم الذي نخضع له، وهي العلاقة بين السلطة والمرؤوسية.
تجربة سجن ستانفورد
قام فريق من الباحثين تحت إشراف فيليب زيمباردو من جامعة ستانفورد، بمحاكاة لبنية السجن؛ حيث طلب عدد من المتطوعين لأداء التجربة؛ فئة حراس وفئة سجناء، واختير عدد من المتقدمين كانوا الأكثر مناسبة لشروط الصحة البدنية والنفسية وهم جميعًا طلاب جامعيين، وأُعطي كل فريق ملابس رمزية، ولم يسمح لأي من الطرفين أن ينادي الآخر باسمه، وكانت هناك قائمة طويلة من القواعد التي تعتبر مهينة للسجناء.
وجاءت النتائج المدهشة، حيث أن المكانة الصورية للحراس والتي عززها خنوع السجناء إلى درجة جعلت الحراس يتمادوا في إظهار سلطتهم، وقد تصرفوا بشكل مريع في الإذلال للسجناء وابتكار أساليب قاسية، وكأن سمة عنف كامن داخل الطبيعة البشرية، وقد سك جون شتينر مصطلح «الإنسان النائم» ليشير إلى القدرة الساكنة بطبيعتها على التصرف بقسوة ووحشية والتي تنشط في بعض الأحيان. وكل الناس إلى حد ما نائمون طالما أن لديهم استعداد كامن للعنف يمكن استثارته تحت ظروف معينة.[4]
سلطة البيروقراطية
بالرغم من التباين في شكل السلطة في التجربتين السابق ذكرهم، حيث أن المسؤولية عند ميلغرام تقع على عاتق السلطة العلمية نيابة عن المشاركين، بينما المسؤولية في تجربة ستانفورد تكون أكثر على عاتق المشاركين أنفسهم، فلا توجد سلطة تتحمل المسؤولية. ولكن ما يقف عليه ميلغرام و زيمباردو متصل بشكل وثيق في الكشف عن دور التنظيم الاجتماعي في التأثير الجذري «جينالوجيًا» في طبيعة السلوك البشري، وتوغل نمطية النظم البيروقراطية الحديثة في سلوكنا، فهذه النظم تقام عليها إدارة الدول الحديثة، فمن حيث المنظوري الڤيبري (نسبة إلى ماكس ڤايبر عالم الاجتماع الألماني): أنها نشاط مؤسسي يقوم على التراتبية الهرمية وتقوم على أساس من علاقات السلطة المحددة، فهي تبنى على الكفاءة والانضباطية والعقلانية والتخصص في العمل، فالموظف يتدرج في الترقى على مبدأ الاستحقاق والولاء للبنية البيروقراطية ومبادئها لا إلى المبادئ الشخصية والوجدانية، فإذ به يقول: «شرف الموظف في قدرته علي تنفيذ أوامر السلطات العليا بكل إخلاص، كما لو كانت الأوامر تتوافق وقناعته العقلية ولا يختلف الأمر إذا وجد الأوامر غير سليمة وذلك أعلى درجات الانضباط الاخلاقي وإنكار الذات»[5]. فإذ بالمنظومة البيروقراطية تعمل على توفير المناخ المنظِّم لتوظيف أعضائها وتحديد أهدافها من خلال عملية التنظيم العقلاني والضبط الفيزولوجي والاقتصادي ونمطية الروتين، وتكون من تبعيات تلك الآلية ومنظومة الأوامر التراتبية التي هي جزء من الوعي القبلي للإنسان، أن يتم تحويل الفاعلين إلى أدوات اضطهاد والضحايا إلى مجرد مواد ومواضيع مستهدفة، ويكون إلحاق الأذى والعنف منفصل عن الشعور الشخصي.
لكن، كيف يفقد الإنسان الخيّر مبادئه وقواعد سلوكه التي أنشئ عليها، لمجرد البدء في وظيفة ما، أو استلام موضع من أدوار التقسيمات الادارية للسلطة البيروقراطية؟
أخلاق الواجب البيروقراطي
لا بد أن يتطلب الانصياع للسلطة على وجود راسخ لقيم محفزة لشعور الواجب في الدور الوظيفي المحدد، فإذ يقف من وراءه قيم أخلاقية عليا وكلّية، فالجندي يقوم بحفظ أمن أبناء شعبه وسلامة أرض وطنه، والمعلم يقود واجب المعرفة والعلم لارتقاء بالنشأ تربويًا وعمليًا والذي يمثل قوام عملية التقدم.
بيد أن وجود قيم أخلاق بديلة لمن العوامل الجوهرية والهامة حتى يتسنى للدورة البيروقراطية بإتمام الأداء الوظيفي المطلوب، حيث أنها تستطيع تحييد كل قلق ضميري لدى العضو في البنية الاجتماعية، بذلك تكون سلطة الأخلاق في يد الجهة العليا للسلطة، والتي يجد المرء نفسه عضو محييد أخلاقيًا في دور مفاهيم الواجب والولاء والانضباط. وتعمل تلك النظم على إعادة توظيف للقيم الأخلاقية –كضمير بديل- لصالح ما يخدم أهداف السلطة، وهنا يقول ميلغرام: «يتوقف شعور المرؤوس بالخزي أو الفخر على مدى الدقة التي أدى بها الفعل الذي طلبته منه السلطة.. ويتحول اهتمام الأنا العليا من تقييم صلاح الفعل أو فساده إلى تقييم كفاءة الأداء أو ضعفه داخل نظام السلطة»[6]. وهنا إذا حاولنا النظر لوضع المرؤوسين في ظل البنية، يمكننا القول أن المرء يشعر بأنه محل مسؤولية في تسلسل وتراتب هرمي، ويتفاوت الاحساس بدرجة المسؤولية تبعًا للموضع من الهرمية، ولكن بالرغم من ذلك فإن المسؤولية العامة تقع على الجهة الأعلى في التراتبية الهرمية.
لذا تصبح واقع المسؤولية في أعين المرؤوسين عائمة وغير محددة؛ فيتولد الشعور بالحياد اتجاه المسؤولية النهائية، وعن النتائج الإجمالية للدواوينية، فالنتائج ليست على عاتق ضمائرهم، فهم ليسوا سوى منفذين للتخصص المطلوب، ففي تجربة ميلغرام نجد أن المشاركين يشعرون أنهم يؤدون عمل يساعد في الأبحاث العلمية في ظل سلطة علمية أكاديمية، تتحمل كامل مسؤولية النتائج ولكنها تلزمهم بإستكمال التجربة وتتباين معدلات ردود الفعل بناء على طبيعة علاقة المشارك بما حوله، ففي اختبار ميلغرام للطاعة:
-علاقة المشارك بالسلطة بشكل مباشر: وجود مشرف مراقب يُلح على المشارك للاستمرار في أداء التجربة حين يبدوا عليه القلق أو التذمر، مما يسببه من ألمّ على المتعلم.
-علاقة المشارك بالبيئة الخارجية لواقع التجربة: حيث تعمل دور سلطة الاكاديمية لجامعة ييل تأثير فاعل في ارتفاع نسبة الطاعة وذلك ما أظهرته قلة نسبة الاستجابة للتجربة عن ذي قبل.
-علاقة المشارك بالضحية: حيث اختلفت النسبة بشكل عكسي كلما اقترب المشارك من الضحية، عندما طلب إليهم أن يمسكوا بأيدي الضحايا ويضعوها بشكل قسري على الصاعق الكهربائي، استجاب نحو 30% فقط، لكن عند استخدام لوحة التحكم ارتفعت النسبة إلى 40% وعند عزل الضحايا في غرفة اخرى بحيث لا يسمع سوى صرخاتهم ارتفعت النسبة إلى 62.5%، وعند كتم الأصوات وصلت إلى 65%، لذا فإن الآلية البيروقراطية تعزل المرء على المشاعر الإنسانية المشتركة.
وتتأثر كوامن النفس البشرية بالانصياع للسلطة مع سطوة أثر الأغلبية «سلوك القطيع»، كما أن المرء كلما استمر في الروتين والنمط المتوالي، فإنه يرفض التوقف حتى لا يدين أفعاله السابقة. وكل هذه العوامل النفسية والاجتماعية تسير على خطى أخلاق البيروقراط، وإذا بالعضو الفاعل يقبل بحق الخضوع لتراتبية الأوامر والانضباط الوظيفي، فهذا يعني أنه عضوًا داخل البناء الاجتماعي، لذا يكون قبول المرء هو الاستجابة للسلطة لا للأوامر الخاصة؛ «فما يفعله الأفراد ليس هو المحك، بل لمن يفعلونه»[7]. وهذا ما يجلعنا نلقى نظرة أخرى على طبيعة مفهوم السلطة وتجلياتها على الحياة وفاعلية النمط البيروقراطي.
مفهوم السلطة وتفاهة الشر
إذ كانت السلطة تُمثل نشأة التاريخ عند هوبز، والتي تعمل على كبح النوازع العدوانية والأنانية للبشر؛ عما كانت عليه في حالة ما قبل الإجتماع، وتعمل على حفظ صيرورة التهذيب الحضاري. وعند جون لوك تكون ضرورية لحماية الحقوق والحريات بين الأفراد والملكية الخاصة. وعند كارل ماركس هي أداة قمع وسيطرة من الطبقة المهيمنة، وتكون وسيلة لتحقيق الاستقرار والتوازن الاجتماعي كما في منظور دوركايم «الضبط الاجتماعي». وحيث هي ظاهرة اجتماعية تعمل على فرض سُبل الطاعة بشكل إلزامي وضروري طبقًا لرؤية ماكس ڤايبر والذي يُحبذ أن يكون الإرغام بالسلطة البيروقراطية التي تعمل وفقًا لمبادئ العقلانية والكفاءة كما وسبق أن أشرنا. ولكي نسهب بشكل أكثر ايضاحًا حول طبيعة مفهوم السلطة وممارستها التي تتوغل في حياتنا الاخلاقية، سوف نعرض أبرز اتجاهين حاولا فهم عملية السلطة:
الأجهزة الأيديولوجية
استعمل لويس ألتوسير مفهوم «المجتمع المدني» الخاص بـأنطونيو غرامشي في فهم ممارسة السلطة والتي لا تتمثل فقط من خلال أجهزة الدولة القمعية؛ الشرطة والجيش والمحاكم والسجون، لكن أيضًا عن طريق الأيديولوجيا «جهاز الدولة الأيديولوجي» مثل: المدارس والنقابات والكنيسة والآداب والفنون ووسائل الإعلام إلى العائلة، وقد أعطى ألتوسير لدور الأيديولوجيا محورًا فاعلًا في ممارسة السلطة على خلاف دور التابع للعوامل الاقتصادية عند المنظور الماركسي عن البنية الفوقية والتحتية، هكذا يكون هناك استقلال نسبي للأيديولوجيا عن البنية التحتية بل وحركة عكسية من القمة إلى القاعدة، وبرغم ذلك لم يخرج ألتوسير عن اطار التحليل الطبقي الماركسي، بل أنه يوضح دور إسهام الأيديولوجيا في ممارسة السلطة وفي «إعادة إنتاج نمط الإنتاج»، وحيث أن كل جهاز قمعي يمكنه الاعتماد على خطاب أيديولوجي، وكل جهاز أيديولوجي يمكنه استعمال أدوات قمعية وكلاهما يعتمدا على بعضهما البعض بشكل متفاوت نسبيًا تبعًا للوضع الاجتماعي. فإن من خلال مفهوم الأجهزة الأيديولوجية يكون المسار مرسوم للمواطنين في البناء الاجتماعي والتقسيم الهرمي للأدوار، ويكون لهم حرية الاختيار داخل تلك البنية وهم تحت هيمنة الأيديولوجية السائدة.
فعبر الأيديولوجية يتم تعلم قواعد السلوك المناسب واحترام تقسيم العمل الوظيفي، وكل ذلك يعمل من خلال قواعد أخلاقية للوعي الوظيفي والمهني. فإذا كانت ذواتنا تُحدد بناءً على الأيديولوجية كما قال ألتوسير: «نمط الذات هو نفس النمط الذي تتسم به الأيديولوجيا أيًّا كان تعريفها»، فيمكننا أن نرى تشكل البُعد الإتيقي الذي يتوافق تبعًا للبناء الاجتماعي ككل، فكل الأجهزة الأيديولوجية بداية من الأسرة إلى مؤسسة التعليم، تُعد المرء لأن يكون عضوًا في الجهاز البيروقراطي، «ليس فقط إعادة إنتاج كفاءتها بل أيضًا اعادة إنتاج اخضاعها للأيديولوجية السائدة»[8]. والتي تجعل الممارسة الأخلاقية طبقًا لتعاليم السلطة وأجهزتها المهيمنة. فتكون ذواتنا الأخلاقية الفاعلة هي ذات تمارس ما ينبغي عليها والمحدد لها من الذات العليا، التي تفرض ممارسات طقسية كالمفهوم البسكالي؛ «اسجد، حَرِّك شفتيك بالصلاة، وستؤمن». إذا تلك التقنيات مع حس الواجب الأخلاقي يوضحان ملامح الطاعة، فنجد أن؛ معظم الذوات «الطيبة» تتحرك جيدًا من تلقاء نفسها، أي على حسب الأيديولوجيا، ويندمجون في الممارسات التي تحكمها طقوس الأجهزة الأيديولوجية، ويعترفون بوضع الاشياء القائم، أنه بالفعل هو هكذا وليس شيئًا آخر[9].
الانضباط الذاتي
يعمد ميشيل فوكو في مفهومه عن السلطة إلى تجاوز حصر السلطة في أجهزة الدولة، بل أنه يحررها في طابع حيوي وحركي داخل أجزاء البناء الاجتماعي ومفارقًا للتحليل الطبقي، فهي ليست معادلة للدولة، فالسلطة بلا مركز، فهي؛ حاضرة في كل مكان: ليس لأنها تمتاز بتجميع كل شيء في وحدتها التي لا تُقهر، بل لأنها تنتج ذاتها في كل لحظة، في كل نقطة.[10] كما أن السلطة عند فوكو، تقوم على علاقات القوى-تأثرُا بالمفهوم النيتشوي- والسلطة ليست مقابل للعنف كأساس وحيد فإنها تنتج الواقع الحقيقي أيضًا؛ إنها تنتج مجالات من الموضوعات والأشياء من طقوس الحقيقة. فالفرد والمعرفة التي يمكن أن نكونها عنه هما من فعل هذا الإنتاج.[11] ويركز فوكو في عمل السلطة على تقنيات تطويع الجسد «فن التحكم بالجسد»، والتي تعمل على تنمية الطواعية بين عناصر النظام، فهي بذلك تشكل مفردات الجسد الاجتماعي وتبلور السلطة الانضباطية، التي تجعل الفرد خاضع لنمط «انضباط ذاتي»، ويستوحي فوكو نموذج سجن بنتام (بانوبتيكون-panoptique) ليشير إلى أن السلطة دائما ما تكون منظورة وغير ملموسة، وأن المرء يشعر بالمراقبة في كل وقت، هذه السلطة الحيوية التي تجعل من المجتمع انضباطيًا تشكله عبر أشكال تقنيتها المختلفة، فهي توظفه وتطبعه وتقومه وتعذبه وتجبره على أعمال وتضطره إلى احتفالات وتطالبه بدلالات.[12]
وبالرغم من أن فوكو، جعل مفهوم السلطة يطفو على أبعاد ميتافيزيقية، ويجعل السلطة من أجل السلطة، تنتج نفسها في كل أجساد البناء الاجتماعي على أساس علاقات القوى:
«يجب اعتبار السلطة بمثابة شبكة منتجة تمر عبر الجسم الاجتماعي كله أكثر مما هي هيئة سلبية وظيفتها هي ممارسة القمع».[13]
إلا أن أهمية تحليله يكمن من حيث الجوانب التي أثارها حول تقنيات الجسد وحالة الانضباطية الفردية والمجتمعية، والتي تسهم في مزيد من فهم، ممارسة كل منّا شكل من السلطة والخضوع. ومع ما نجده من مآلات فلسفة فوكو التي نسفت موقع الذات من الإرادة، وأعلنت «موت الإنسان»، لكن فوكو سار في مرحلته الفكرية الأخيرة إلى شق الضوء إلى منفذ يستطيع به المرء أن يقاوم السلطة، إذ يمفصل أبحاثه في الحفر (الأركيولوجي) لتشكل الذات في التاريخ و التفكيك (الجينالوجي) لعلاقة الذات مع المعرفة والسلطة، لكي يشكل اتجاه إتيقي للذات؛ وهو العناية بالذات؛ أي فن الوجود، فبعد ما تعّي الذات موقعها وتشكلها، تجد السبيل حتى تقاوم عملية الإخضاع والتذييت، فتكون ممارسة الذات لنفسها بشكل إرادي لكي تعمل على تحسين الذات، وذلك يعد منطلقًا لتشكيلها الإتيقي. هذا التوجه الأخير لفوكو هو «عودة إنقاذية للذات» على حد وصف فريديريك غرو.
يمكننا القول أن إتيقا السلطة تنقسم بما يلائم النسق التي تعمل من خلاله، فأخلاقيات الواجب البيروقراطي للدولة تتغذى على الخطاب الأيديولجي الذي يعيد توجيه قواعد الأخلاق بما يناسب ممارسات السلطة، وتقنيات الروتين والانضباط ومنهجية العقاب تعمل على تأطير العضو داخل اطار التخصص الوظيفي، فيشعر بالبعد عن العلاقة السببية مع النتائج، وتُعزل الماهية الإنسانية عن اعتبارات العلاقات المؤسسية، هي علاقات تقنية وأداتية، وينعكس هذا الوضع خارج اطار أجهزة الادارة البيروقراطية في الحياة المجتمعية، حيث يجد الأفراد أنفسهم خانعين لحالة الطاعة، وتوغل الشعور بتواجد السلطة –مفهوم فوكو- مما يجعلهم في وضع انتاج للسلطة بشكل لا واعي، وحتى مع وجود حالات من عدم الرضى عن ممارسات السلطة من جوانب أخلاقية، سيكون محصلة الشعور هو عدم الجدوى، فالمسؤولية ليست واقعة عليه. ومثال هذا الإنسان النموذجي مع متطلبات الدولة الحديثة، هو الذي يمكنه أن يعيش مع أسرته وأصدقاءه ومحيطه الاجتماعي من خلال قواعد أخلاقية تقوم على مشاعر إنسانية، بينما عندما يؤدي وظيفته، فإنه مع ارتدائه ملابس العمل تكون أخلاق البيروقراطية حاضرة، ولا يشعر المرء بحدة التناقض الأخلاقي إلا مع انقلاب وضع السلطة وأيديولوجيتها، كما يحدث في الواقع العالمي من محاكمات جرائم الحرب وعمليات الإبادة وإدانة قمع الاستبداد.
يجد الفرد المثالي والانضباطي نفسه في موقع اتهام أخلاقي اجتماعيًا وجنائي قانونيًا، لأنه نفذ الأوامر التي أوكلت له، وأدى دوره الوظيفي (مثل ما حدث بعد فترة سقوط النازية)، في رواية القارئ (The Reader): إذ إن هانا شميتز وهي امرأة في منتصف الثلاثينات، أُمية التعليم، مما جعلها تعمل في وظائف لا تضعها في موضع خجل من كونها لا تستطيع القراءة، وعملت كحارسة في معتقل أوشفيتز أثناء حكم النازية، وبعد سقوط النازية، وملاحقة كل المشتركين في جهاز الدولة مما لهم علاقة بجرائم ارتكبت، مما يتسبب بأن تقاد «هنا» إلى المحاكمة من أجل تعرض ثلاثمائة امرأة يهودية تحت حراستها، يموتون في حريق، وتم الحكم عليها بالمؤبد. والإشكال هنا، في تحول ظواهر الإبادة والحروب إلى جرائم جنائية ارتكتبها ذواتِِ مرضية مجرمة! وإهمال أخذ النسق الزمني والوضع العام الذي يؤثر في تشكيل الذوات، فكونها تنفذ الدور المشرعن حينها من قِبل أجهزة الدولة وأيديولوجية السلطة النازية، التي تأدية على قناعات الواجب الوظيفي، لا يجعل من هؤلاء الأفراد السبب المباشر لفعل الشر، وتلك هي المعضلة التي أثارتها المفكرة السياسية حنة آرندت في كتاب «أيخمان في القدس: تفاهة الشر»، حين وصفت مشهد محاكمة أيخمان بالاستعراضية، فبالتأكيد ليس هناك تبرئة أو نفي لوقائع الإبادة والمسؤولية، لكن تحميل فعل الشرور لطبيعة الشر في الأفراد، لا تسهم في فهم سير الظواهر، فتقول آرندت عن أيخمان: «كان دوما مواطنًا محترمًا للقانون، إذ من الأكيد أن أوامر هتلر، التي نفذها بكل ما لديه من جهد، كانت بمثابة سلطة القانون»[14]، ويتحدث أيخمان وهو يشعر بأن ما فعله هو مجرد تنفيذ المهمة التي كلف بها؛ «الحل النهائي لمسألة اليهود» فهو يتعامل كتقني يحاول إيجاد حل لمشكلة، فهو لم ينكر أو يتملص من ما شارك فيه؛ فمن خلال العقل الأداتي الذي يفصل القيمة عن الحقيقة، كان أيخمان نموذجًا للموظف المثالي، فقد صرح عند استنطاقه من طرف الشرطة، أنه قد يرسل والده إلى الموت لو تلقى الأمر في ذلك، لقد كان يوحي بذلك أنه يعتبر نفسه منفذًا للأوامر، يريد أن يبين أنه كان دوما مثاليا. [15]
حقًا لمن المفزع أن يكتشف المرء، يومًا ما أنه كان مشارك في وظيفة أو عمل لهما صلة بالهيكل الذي يعمل على استجابة أوامر السلطة، هكذا تكون محنة إتيقا الذات المسلوبة، والخاضعة لفرض تشكلها من خلال أنماط السلطة، هذا المأزق يحيل العديد من التسأولات المهمة حول طبيعة الحرية والأخلاق والقانون.
إعداد: عصام أسامة
مراجعة: مايكل ماهر
مصادر وهوامش:
[1]الإتيق: لا يقتصر استخدام كلمة إتيقا كمرادف دلاليًا لكلمة الأخلاق في السياق المجتمعي والتاريخي، كما تدل المقاربة بينهما في المعتاد للتبسيط، بل هي تعني محاولة التفكير بشكل نقدي حول القيم الأخلاقية المؤسسة-أي المبادئ المعيارية والفلسفة الأخلاقية- للسلوك الإنساني؛ أي بشكل مبسط، الإتيقا نظرية والأخلاق عملية. ويكون المقصد الايتيقي بناءًا على تعريف بول ريكور: «أنه مقصد الحياة الخيرة مع الغير ومن أجله في مؤسسات عادلة» (اتيقا الموت والسعادة، عبد العزيز العيادي، ص36)، فالهدف من المنظور الاتيقي هو تقيم الوضع الفردي والجمعي، فالاتيقا وفقًا لتعريف ميشيل فوكو: «فن الوجود؛ ممارسات متبصرة وإرادية لا يحدد الناس بها قواعد سلوكية وحسب وإنما يبحثون من خلالها على تغيير ذواتهم وعلى تعديل كيانهم المفرد وعلى جعل حياتهم أثرًا يحمل بعض القيم الجمالية ويستجيب لبعض معايير الاسلوب» (اتيقا الموت والسعادة، عبد العزيز العيادي، ص41). [2]قالها دوايت ماكدونالد عام 1945 بعد اكتشاف أحداث الهولوكوست: الحداثة والهولوكوست، زيجمونت باومان ص245 [3] الحداثة والهولوكوست، زيجمونت باومان ص248 [4]المصدر السابق، ص263 [5] المصدر السابق [Milgram, Obedience to Authority, p142,146[6] (نقلا عن المصدر السابق، 255) [Milgram, Obedience to Authority, p104[7] (نقلا عن المصدر السابق، ص257) [8]الأيديولوجية: والأجهزة الأيديولوجية للدولة، لويس ألتوسير، دار المنظومة [9]المصدر السابق [10]إرادة المعرفة، ميشيل فوكو، ص102 (نقلا عن: مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، د. الزواوي بغورة،ص 238) [11]المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو، ص204 (نقلا عن: مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، د. الزواوي بغورة،ص 238) [12]المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو، ص64 (نقلا عن: مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، د. الزواوي بغورة،ص231) [13]نظام الخطاب، ميشيل فوكو، ص84 [14] أيخمان في القدس: تفاهة الشر، حنه آرندت، ص57 [15]المصدر السابق،ص78
حقوق صورة المقال: Bwader Basheer