الجنسانيّة كفلسفة: هل تحتاج إلى تجديد؟

الجنسانيّة كفلسفة: هل تحتاج إلى تجديد؟

إنَّ الجُنسانيّة بصفتها مُصطلحٌ يفتقِرُ إلى تعريفٍ دقيقٍ أوسع من المعنى اللغويّ، الذي ظلَّ يشتغلُ في مدوّناتِ اللُّغة والفقة والأخلاق، دون أن يأخذ المعنى الذي يعنيه مفهومُ الجنسانيّة، لذلك، يُمكن اعتباره مصطلحًا جامعًا وواسعًا يشمل الهُويّات، والأفعال الجنسيّة، والمشاعر، والرَّغبات، والتعبيرات، والأداءات الجسديّة. وتُفهم ببساطة على إنها تعبيرٌ فطريٌّ وطبيعيٌّ عن الرَّغبة.

إنَّ لغز الجنسانيّة هو أنَّها تبقى غير قابلة للاختزال في الثالوث الذي يصنعُ الإنسان: (اللُّغة – الآلة – المؤسَّسة)، إنَّها تنتمي إلى وجود ما قبل لسانيّ للإنسان، وهي حتى عندما تكون تعبيريّة، فعباراتها تحت ما هو لسانيّ وخارجه وفوقه. إنّها تحرِّك اللُّغة قطعًا، ولكنّها تخترقها وتهُزُّها وتصعدها وتبلِّدها وتشظِّيها في الهمس والابتهال، وتزيل عنها وساطةَ الاتصال.

(بول ريكور – 1960)

الميتافيزيقا الجنسيّة

لا بُدَّ أن تتأثَّر تقييماتنا الأخلاقيّة للنشاط الجنسيّ بما نعتبره طبيعة الدافع الجنسيّ، أو الرَّغبة الجنسيّة؛ حيث إنَّ هناك فجوةً عميقةً بين هؤلاء الفلاسفة الذين قدْ نسمّيهم المتفائلينَ الجنسيّين الميتافيزيقيّين، وبين نقيضهم.

المتشائمون في فلسفة النَّشاط الجنسيَ، مثل: القدِّيس أغسطينوس (Augustine of Hippo)، وإيمانويل كانط (Immanuel Kant)، -وأحيانًا- أفلاطون، وسيجموند فرويد (Sigmund Freud)، ينظرون إلى الدَّافع الجنسيّ ويتصرَّفون بناءً على كونه شيئًا غير ملائمٍ لكرامة الشّخص الإنسانيّ؛ يرونَ جوهر ونتائج الدَّافع يكون غير متوافقٍ مع الأهداف والتَّطلعات الأكثر أهميّة وساميةً للوجود الإنسانيّ؛ حيث  إنَّهم يخشون من كون قوّة الدّافع الجنسيّ ومطالبه تجعله خطرًا على الحياة المتحضِّرة المُتناغمة، ويجدون في الحياة الجنسيّة تهديدًا خطيرًا ليس فقط لعلاقاتنا المناسبة مع الآخرين، ومعاملتنا الأخلاقيّة، ولكن أيضًا تهديدًا لإنسانيتنا.

على الجانب الآخر من الانقسام، يوجد المتفائلون الجنسيّون الميتافيزيقيون (أفلاطون في بعض أعماله، وأحيانًا سيغموند فرويد، وبرتراند راسل، والعديد من الفلاسفة المعاصرين) الذين لا يرون شيئًا ما لا يطاق في الدَّافع الجنسيّ.

ينظرون إلى الحياة الجنسيّة للإنسان على كونها مجرَّدُ بُعدٍ آخر وغالبًا غير ضارٍ لوجودنا كمخلوقاتٍ مُجسّدة أو شبيهةٍ بالحيوانات، ويحكمون على الحياة الجنسية التي أعطيت لنا إلى حد ما عن طريق التَّطور، لا يمكن إلّا أنْ تفضي إلى رفاهيتنا دونَ الانتقاص من ميولنا الفكريّة، ويمتدحون بدلًا من الخوف، قوة الدّافع الذي يُمكن أنْ يرفعنا إلى أشكال مختلفةٍ من السّعادة.

كانط والتشاؤم الجنسيّ الميتافيزيقيّ

اعتقد إيمانويل كانط (Immanuel Kant) -فيلسوف القرن الثامن عشر- أنّ الجنس مُدانٌ أخلاقيًا بشكلٍ خاصّ، حيث يُجبر الشخصُ على تشييء الإنسان ومعاملته كوسيلةٍ للإمتاع.

يُميّز كانط بين قبولنا للمدفوعات مقابل وظائفنا، أو استئجار أشخاصٍ للعمل، وبين الممارسات الجنسيّة؛ حيث عدَّ في الحالة الثانية بأنّنا لا نُعامل الشّخص على الجانب الآخر من المعاملة كأداةٍ فقط؛ بل مازلنا نُدرك إنسانيّة هذا الشّخص، بعكس الحالة الأول.

كما ذكر في كتابه: (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق) أنّ الشّخص الذي يستسلم للرّغبة الجنسيّة لشخصٍ آخر يصنعُ من ذاته أداةً، حيثُ إنّه يمنحُ المرء نفسه للآخر. في هذا الفعل، يصنعُ الإنسان من نفسه شيئًا يتعارضُ مع حقّ الإنسانيّة في شخصه، وبالتالي يتمُّ تخفيضُ كل شخصٍ إلى مستوى الحَيَوان.

إذا رغب رجلٌ وامرأةٌ في إرضاء رغبتهم، فإنّهم يحفّزون رغبة بعضهم البعض؛ وتلتقي ميولهم، لكن هدفهم ليس هو الطّبيعة البشريّة بل الجنس، وكلّ منهما يخونُ الطّبيعة الإنسانيّة للآخر. إنّهم يجعلون الإنسانيّة أداةً لإرضاء شهواتِهم وميلهم، ويخفونها عن طريق وضعها على مستوًى ذي طبيعةٍ حيوانيّةٍ.

(كانط – محاضرات عن الأخلاق)

واعتبر كانط الحالات التي يُمارس فيها الجنس بلا تشيّء؛ هما العمل بالجنس أو الزَّواج لفترات طويلة، حتى تُصبح ممارسةُ الجنس بلا رغبة، ومع عدم وجود رغبة، لا يوجد أيُّ اعتراض؛ فحسب كانط يعتبر اعتراضه على الرَّغبة الجنسيّة منحصرًا في قدرتها على تخدير العقل للشّخص.

وقد اعتبر كانط أنّه بالتّراضي وحده لا يلغي ولا يُبارك الاستخدام المتبادل في العلاقات الجنسيّة التي يجب أنْ تحدث إذا كان الأشخاص غيرَ المتزوجين -على الرّغم من أنّ بعض المحافِظين يسمحُون- إذا كانت العلاقات الجنسيّة محصورةً في علاقةٍ حقيقيّة ملتزمةٍ حتى لو كانت (غير زوجية).

بالنسبة إلى الكانطيّين اللّيبراليين، فإن الموافقة المتبادلة قويّةٌ بما يكفي في حدّ ذاتها لجعل الأفعال الجنسيّة مسموحًا بها في غياب الزّواج. ويختلفون مع الكانطيّين المحافظين في أنّه كيف يغيّر المكوّن اللإضافيّ (الزّواج أو الالتزام) النَّشاطَ الجنسيَّ من مجرّد استخدامٍ متبادلٍ إلى شيءٍ مسموحٍ به أخلاقيًا؟هم يجادلون بأنّ وجود الموافقة يُلبّي مطلب الصّياغة الثانية للواجب القاطع للاعتراف المتبادل من قِبل كلّ شخصٍ بالاستقلاليّة العقلانيّة (الإنسانيّة) للآخر، بحكم الموافقة يُسمح بالجنس ولا يدينه أخلاقيًا.

هناك ثروةٌ من المواد من اليونان القديمة ذات الصّلة بقضايا الجنسانيّة، تتراوح من حوارات أفلاطون؛ مثل النّدوة، إلى مسرحيات أريستوفانيس، والأعمال الفنيّة والمزهريّات اليونانيّة.

(فوكو-1980)

المثليّة الجنسيّة

ربما كان الافتراض الأكثر شيوعًا حول التوجُّه الجنسيّ، على الأقلّ من قبل المؤلفين اليونانيّين القدماء، هو أنّ الأشخاص يمكن أن يستجيبوا للجمال في أيّ من الجنسين.
الرجال الأحرار فقط في يونان القديمة، كانوا يتمتّعون بالامتيازات، ولكن يتمُّ النظر إلى الأمر كفاعلٍ ومفعول به، لذلك كان الجنس بين الأحرار غير مقبولٍ لأحد الأطراف؛ لأن العبيد والنساء، والذكور الذين لم يصبحوا مواطنين بعد، هم فقط يُعد مقبولًا أن يكونوا الطّرف المفعول به.

عدَّ معظم المتشائمين الجنسيين، مثل: أفلاطون -أحيانًا- وأوغسطين والأكويني؛ أنّ كلّ ما هو غير إنجابيّ يُعتبر انحرافًا، وأنّ الأفعال الجنسيّة التي تؤدي للإنجاب هي أفعال جنسيّة طبيعيّة وما دون ذلك  يُعدُّ انحرافًا، ولذلك، تُعد المثليّة انحرافًا جنسيًّا، والأعمال المنحرفةُ جنسيًّا التي أُجريت عمدًا تُصنّف غير أخلاقيّة.

بينما في الفلسفة الحديثة للجنسانيّة، تمّ رفضُ الحُكم على المثليّة لكونها انحرافًا غير أخلاقيّ لمجرّد أنّه انحرافٌ عن السّائد، وتوصّلوا إلى معيارِ تقييمٍ آخر وهو: (الصّحة الجسديّة والنفسيّة)، فإذا كانت المثليّة تؤثّر على الصّحة سلبًا، تُصنّفها حينها على كونها عملًا غير أخلاقيّ.

لكن في عام 1973م، أزالت جمعيّة علم النّفس الأمريكيّة المثليّة الجنسيّة من قائمة الاضطرابات النفسيّة، مما ساعد على الدّخول في فلسفة «ما بعد الحداثة» للجنس، والتي بموجبها لا تعتبر السّلوكيات الجنسيّة غير الضّارة انحرافاتٍ خاطئةً أو مريضة، بل خياراتٍ جنسيّة بديلة.

المواد الجنسيّة الترفيهيّة والجنس  بصفته عملًا

يناقش الفلاسفة والمنظِّرون القانونيُّون إذا كانت الموافقةُ موجودةً في حالة معيّنة من الجنس التجاريّ -والتي يمكن تعريفها على كونها تبادل نشاطٍ جنسيّ مقابلَ تعويض- إذا لم يكن الطّرف المقدّم للخدمات الجنسيّة خاضعًا للإكراه أو الخداع، أو إذا تمّ التّعاقد معه لأداءِ أعمال جنسيّة أمام الكاميرا (نوع من الجنس التجاريّ) بكامل حرّيته مع العلم مُسبقًا بالمعلومات كاملةً بدون أيّ شكلٍ من أشكال الخِداع، فهل تكون الموافقة كافيةً لإزالة المُشكلة؟

المستشار والاقتصاديّ اللّيبرالي ميلتون فريدمان (Milton Friedman) مؤلّف كتاب (الرَّأسماليّة والحُريّة) عام 1962، يُشير إلى أنّه:

إذا كانت الموافقة كافيةً لأنواعٍ أخرى من العمل المأجور، مثل: جمع القمامة أو التّطوُّع للقتال في الجيش، فلا يُمكن أن يكون هناك اعتراض على انخراطِ الشّخص في العمل بالجنس، أو -على الأقل- لا شيء يفرّق بين الخدمات الجنسيّة وأداء مهامٍ أخرى يجدها بعضُ النّاس بغيضةً أو محفوفةً بالمخاطر حتى بمقابل تعويضٍ ماليّ كبير.

 

الجنسانية
ميلتون فريدمان

على الجانب الآخر (بعض اللّاهوتيّين المحافظين، والماركسيّين، والنسويّات) يُصرُّون على أنّ الجنس «مختلف» وأنّه يتضمّن، -أو يجب أن يتضمَّن- نوعيةً من الألفة والحميميّة، وأنَّ الجنس هو جانب مهم للغاية من الناحية الميتافيزيقيّة أو الأنثروبولوجيّة من شخصيّة الإنسان، أو الهويّة البشرية بحيث لا يمكن تحويله إلى سلعة.

كما ينظرون نظرة شكٍّ في موافقةِ النّساء اللّاتي يصنعنَ المواد الجنسيّة الترفيهيّة أو يبعنَ الخدمات الجنسيّة في الحقيقة؛ ففي كلتا الحالتين يكنَّ عرضةً بشكلٍ استثنائيٍّ للخداع والتلاعب بهنّ.

شارك المقال:

2 Responses

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي