الحضارة النوبية القديمة: تاريخ موجز
العديد من الأهرامات تنتشر في طبيعة مروي، التي أصبحت عاصمة النوبة حوالي ثلاثمائة عام قبل الميلاد. (صورة بواسطة مارتشان، شاترستوك)
النوبيون، الشعب الذي حارب الرومان وحكم مصر كفراعنة، وشيد أراضي واسعة من الأهرامات. وحضارته ليست من الحضارات المفقودة، فهو شعب ممتد حتى اليوم مستقر بالسودان وجنوب مصر.
تروي لنا النصوص القديمة أن النساء حكمن النوبة في عصور سابقة، وكان يطلق عليهن اسم “الكنداكات”، وتكشف الصور المحفورة لهن التي وجدها علماء الآثار عن رغبتهنّ -في بعض الأحيان- أن يصوّرن زائدات الوزن.
كذلك عُرف النوبيون القدامى بمهاراتهم في الرماية، فكان المصريون يطلقون على أرض النوبة “تا-سيتي”، التي تعني “أرض الأقواس”، فقد دُفن كثير من حكامها -حتى النساء منهم- مع أدوات الرماية خاصتهم، مثل الحلقات الحجرية التي تسهل إطلاق السهام النارية.
واليوم بإمكاننا العثور على بقايا النوبيين الأثرية الممتدّ تاريخها من عصور ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث في مُختلف أنحاء السودان وجنوب مصر. وتتواصل الاكتشافات الجديدة التي يحققها عدد كبير من المشاريع الأثرية الباحثة في هذه البقايا.
كِرمَا
يُحتمل أن الإنسان الأول واجه الأخطار في المنطقة التي تُعرف الآن بالسودان وجنوب مصر منذ ما يربو على المليون عام. ليتحول قبل سبعة آلاف عام من حياة الصيد البرية إلى أسلوب حياة آخر قائم على تدجين المستأنس من الحيوانات كما ذكر (ديفيد إدواردز) المحاضر بجامعة (ليستر) في كتابه «الماضي النوبي: علم الآثار في السودان» (روتلدج، 2004). في وقت لاحق بدأت الزراعة والمساكن الدائمة بالظهور.
منذ نحو أربعة آلاف وخمسمائة عام، ظهرت شمال الشلال الثالث من شلالات النيل مستوطنة كبيرة تدعي (كِرمَا). -والشلالات هي مناطق ضحلة ذات عقبات طبيعية تُعسّر السفر عبر القوارب-. لم يعرف أهل كِرمَا الكتابة، لكن قدماء المصريين أشاروا إليها باسم مملكة (كوش)، حيث كانوا مسيطرين على هذه البقعة من الأرض.
منذ أكثر من ثلاثين عامًا، كشف فريق سويسري عن آثار كِرمَا نازعًا النقاب عن بقايا معابد ومقابر وسور ذو زوايا محصنة حول المدينة. وترينا مدينتهم المكتشفة أنها كانت مركزًا لتجارة الذهب والعاج والماشية والسلع الأخرى التي تداولها سكان كِرمَا. وليست المساحة الدقيقة لأراضي كِرمَا مؤكدة، لكنها شملت جزءًا من السودان وجنوب مصر.
الاحتلال المصري
قبل حوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، نمت القوة المصرية وطمعت بموارد كِرمَا، فأرسلت سلسةً من الحملات العسكرية دمرت كِرمَا واحتلت النوبة. ثم أرسل ملوك مصر حكامًا ينوبونهم في إدارتها، وتمركزوا في سلسلة من المدن تمكنهم من السيطرة عليها.
واحدة من تلك المدن هي موقع أثري كشف آثاره فريق المتحف البريطاني يُدعى (عمارة غرب). وجد الفريق أن بعض أهل كِرمَا دُفن معهم جعارين تحمل أسماء فراعنة مصر. حيث كُتب على أحدها: «رمسيس، محبوب آمون رع ورع-حورأختي، سليل الآلهة ومؤسس الأرضي».
الاستقلال وحكم مصر
منذ حوالي ثلاثة آلاف عام انهارت الحكومة المركزية المصرية مُسببة بذلك تراجع سلطتها، وقد لعبت عوامل أخرى عديدة دورًا في هذا التراجع، منها الهجمات التي كانت يشنها (شعب البحر) كما يطلق عليهم علماء الآثار.
مع تراجع القوة المصرية، بدأ النوبيون يؤكدون استقلالهم ويرفعون من شأن مملكتهم التي اتخذوا من مدينة (نبتة) قرب الشلال الرابع لنهر النيل عاصمًة لها. وقد توسعت أراضي نبتة لتصل إلى شمال الشلال الأول لنهر النيل مُحتلّة بذلك مصر نفسها، وذلك في عهد الملك (بيا/بعنخي) الذي حكم منذ العام 743 وحتى العام 712 قبل الميلاد.
أُطلق على الملوك النوبيين الذين حكموا مصر مصطلح الفراعنة-يُعرفون في بعض الأحيان باسم الأسرة الخامسة والعشرين-، وليست الألقاب المصرية فقط ما اعتمدوه، وإنما أيضًا طريقة الكتابة وبناء الأهرام المصرية.
أمر فراعنة النوبة بنقش ألقابهم وإنجازاتهم، كما تزايدت في عهدهم أهرام النوبة بشكلِ كبير. فقد وجد علماء الآثار في مقبرةِ مكتشفةِ حديثًا ب(سيدينغا) ما لا يقل عن خمسٍ وثلاثين هرمًا.
تشير مقاطع في الكتاب المقدس اليهودي إلى أن فراعنة النوبة قد اشتبكوا مع قدماء الآشوريين، حيث وقعت معركة هامة غير بعيدة عن القدس في عهد الملك (تاهركا) الذي حكم بين العامين 690 و664 قبل الميلاد. وقد أثبت الآشوريين قوتهم في النهاية بإجبار (تاهركا) على العودة للعاصمة المصرية منف. ليفقد النوبيون آخر أراضيهم المصرية في عهد آخر ملوك الأسرة الخامسة والعشرين (تانوت آمون 664-653 ق.م).
النزوح إلى مِروِي
بعد طرد الآشوريين للنوبيين، حكمت مصر سلسلة من القوى الخارجية منهم الفرس والمقدونيين والرومان، وقصيرةٌ هي الفترات التي أستقلت فيها مصر بشكلٍ تام. فكان على النوبيين صدّ خطر القوى القادمة من الشمال، وذلك بعد أن نُقلت عاصمتهم إلى مدينة (مِروِي) جنوب نبتة.
في عاصمتهم الجديدة، شيد النوبيون عددًا من القصور والمعابد والأهرام. كما عملوا على تطوير نظام كتابة خاص بهم لم تُفكّ شفرته حتى الآن إلا بشكل جزئي ويدعى النظام المروي.
في عام 1910، عُثر في مِروِي على رأس برونزي للإمبراطور الروماني (أوكتافيان)-الذي أُطلق عليه في وقت لاحق أغسطس-. الأمر الذي يبين لنا إلى جانب النصوص القديمة والبقايا الأثرية أن النوبيين قاتلوا الإمبراطورية الرومانية. وعليه يفترض علماء الآثار أن غارة نوبية على مصر الرومانية استولت على هذا الرأس وجلبته إلى مِروِي كنوع من الغنيمة.
تشير السجلات القديمة إلى معاهدة سلام أُبرمت في العام العشرين قبل الميلاد بين روما ومِروِي، ما جعل القرون القليلة اللاحقة فترة يسودها الاستقرار النسبيّ والعلاقات التجارية بين الطرفين.
وقد فقدت مِروِي أهميتها حوالي عام ثلاثمائة ميلادية، ويري العلماء أن عدة أسباب أدت لهذا الانحدار، منها التصحّر وفقدان الطرق التجارية. وفي خلال القرنين الرابع والخامس بدأت المسيحية بالانتشار في النوبة تزامنًا مع تحول مواطني الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية.
بانهيار مِروِي بدأت مجموعة من الممالك المسيحية بالصعود مكانها، مثل مملكة (ماكوريا). وقد شيّدت هذه الممالك الكاتدرائيات والأديرة، كما ازدهرت في عهدها عدد من اللغات الجديدة مثل اللغة القبطية و(اللغة النوبية) القديمة كما يطلق عليها علماء العصر الحديث.
النوبة اليوم
متسوقون يتجولون في السوق المركزي بأسوان جنوب مصر. صورة بواسطة: أولجا فاسليفا/شاترستوك
ليست النوبة بالحضارة المفقودة، فلا يزال النوبيون يسكنون السودان وجنوب مصر رغم عدم معرفتنا لتعدادهم يقينًا.
في الآونة الأخيرة عانى النوبيون من التمييز العنصري وضعف التنمية. كما تعرضوا للتهجير من قراهم نتيجةً لبناء السد العالي (الذي تم عام 1970) والذي أغرق مناطق جنوب مصر التي كانت جزءًا من وطن النوبيين القدامى. ومنذ ذلك الحين يسعى النوبيون للحصول على تعويض لما حدث وعلى حقهم في العودة إلى القرى التي لم تغمرها المياه.
الأمر عينه في السودان التي بُني فيها سد مروي مؤديًا إلى تهجير أكثر من خمسين ألف شخص، كما يجري التخطيط لسلسلة من السدود سيؤدي بنائها إلى إغراق جزءٍ آخر من وطن النوبيين القدامى ونزوح مزيد منهم.