لمحة سريعة عن الصين
في عام 2010 نشر الباحث الصينيّ تشانغ وي وي الباحث والأستاذ بجامعة فودان بشنغهاي كتابًا بعنوان «الزلزال الصيني نهضة دولة متحضرة»، يستعرض فيه أهم الإنجازات الاقتصاديّة والسياسيّة التي حققتها الصين على مدى الأربعين سنة الماضية، لتصل إلى ما وصلت إليه من إنجازات مذهلة غيّرت مصير البشريّة، بما تقدمه من سلع وخدمات استفاد منها غالبية دول العالم، لتحتل المركز الأول عالميًا على مستوى الصادرات الدوليّة، وتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، متخطيةً بذلك اقتصادات دول قوية كألمانيا واليابان وغيرهم من الدول في فترة قياسية، بتنفيذ خطط وبرامج تنمويّة أثبتت نجاحها وفعّاليتها بطريقة غير مسبوقة.(1)
مقومات الاقتصاد الصيني
يعتبر اقتصاد الصين اقتصادًا زراعيًا بالدرجةِ الأولى، إذ تمتلك ثروات طبيعية متنوعة من مناجم حديد ومعادن وغاز طبيعيّ، كما أن لديها إمكانيات زراعية كبيرة، إذ تحتل في المنتجات الزراعية كالقمح والأرز والقطن والذرة المركز الأول عالميًا، بالإضافة إلى الشاي وقصب السكر اللذان تحتل فيهما المركز الثاني عالميًا. وتحتل الصين أيضًا المركز الأول عالميًا في تربية الماشية كالأغنام، كما تحتل المركز الثالث في تربية الأبقار، ولديها قطاعات صناعية قوية، إذ أنها تحتل المركز الأول عالميًا في صناعة الصُلْب والفولاذ وصناعة الكهرباء والصناعة الكيمائية، وتحتل المرتبة الثانية في صناعة النسيج والمرتبة الثالثة في الصناعات الميكانيكية والصناعات الإلكترونية.
ساعد كِبر حجم عمالة الصين المحلية وانخفاض معدلات الأجور في الحصول على وفورات اقتصادية مكّنتها من توفير سلع متنوعة ذات جودة وأسعار مُنافسة عالميًا. وتقوم الصين بتسويق منتجاتها في السوق الصينيّ المحلي، بالإضافة إلى استحواذها على تجارة خارجية قويّة مع جميع دول العالم.
هذه المقوّمات الاقتصادية ساعدت الصين على النهوض باقتصادها، من خلال تنفيذ مجموعة من الخُطَط والبرامج التنموية، حققت للصين العديد من النتائج الاقتصادية الإيجابية، والتي انعكست أيضًا على بقية دول العالم بتوفير سلعة متنوعة وبأسعار مناسبة، غيّرت خلال ثلاثين عامًا من هيكل التجارة الدوليّة.(2)
وقفات على الخطط الاقتصادية التنموية الصينيّة
بعد انتهاء الحرب الأهلية التي امتدت من 1927 حتى 1949 (والتي انتهت بفوز الحزب الشيوعي الصينيّ وإعلان جمهورية الصين الشعبية)، اتخذت الصين العديد من الخطط الاقتصاديّة التنمويّة للنهوض باقتصاد الصين، كان أولها الهيمنة على ملكية الأراضي لتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعيّة واتخاذ إجراءات استصلاح للاقتصاد المتضرر من الحرب.
كما شهدت فترة عهد الرئيس الصيني ماو (Mao) إطلاقًا غير مسبوق لبرامج اقتصادية، منها ما كُتب له النجاح ومنها ما فشل، ولكن الإرادة الصينيّة لم تتوقف أمام فشل بعض البرامج وإنما أعادت تقييمها وعدلتها لتحوّل فشلها لنجاحٍ جديد ساهم في نهضة الصين الحديثة.
كان للخطة الخمسية الأولى التي نُفذت في الفترة من 1953 حتى 1958 تأثير قوي على الصناعة، إذ كان تركيزها على التصنيع، وساهمت في رفع حجم الإنتاج الزراعيّ وزيادة إنتاج الحديد. أما الخطة الخمسية الثانية التي نُفّذت في الفترة من 1958 حتى 1962 -والتي عُرفت باسم «دفعة قويّة إلى الأمام»- لم يقدّر لها النجاح، إذ فشل نظام المزارع الاشتراكية في دعم الصناعة، وفشلت الخطة فشلًا ذريعًا تسبب في انهيار اقتصاديّ حدث على إثره أسوأ مجاعة في الصين، تسببت في وفاة الملايين.
بعد هذا الفشل عُقِد مؤتمر لوشان (Lushan)، وضم المؤتمر جميع أعضاء الحزب الشيوعيّ في الصين، وتم فيه وضع خطة لسياسة الصين الاقتصادية المستقبلية، هدفت إلى تصويب أخطاء الخطة السابقة.
بعد انضمام الصين للأمم المتحدة عام 1971، وانتهاء العزلة الدولية التي عانت منها الصين فترة طويلة، قامت الصين بوضع خطط تنموية جديدة ركّزت على الإصلاح الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وذلك من خلال تأسيس مناطق اقتصادية متخصصة في ثمانينيات القرن الماضي، هدفها إنتاج سلع قابلة للتصدير. كما أنها عدّلت نظام الإدارة في المزارع الاشتراكية بإعطاء المزارعين صلاحيات ساهمت في تحسين مستويات الإنتاج، وانعكست آثارها على حياة المزارعين.
شهدت فترة التسعينات أيضًا مجموعة من التغيرات الاقتصادية التي أدت إلى النهوض بالاقتصاد، منها افتتاح أسواق مالية في شنغهاي وشِنزهن. تبِعها وضع خطط للقضاء على الفقر، وتلتها خطط أخرى لتخفيض حجم القطاع العام وتوسيع دائرة القطاع الخاص؛ خطط كان لها أثر إيجابي كبير على نهضة الصين الاقتصادية الحديثة.
وبعد دخول الصين منظمة التجارة العالمية وانضمامها لبرنامج مؤسسة الاستثمار الأجنبيّ المؤهل عام 2000، أصبحت الصين مصدر جذب للاستثمار الأجنبي، نتيجة لذلك زادت معدلات نمو التنمية الاقتصادية وأصبحت الصين اقتصادًا عالميًا، وأحدثت تأثيرات عالمية في اقتصادات جميع الدول.(3)
إنجازات الصين الاقتصادية والزلزال الصيني
حققت الصين أسرع تحوّل اقتصادي واجتماعي على مدى ثلاثين عامًا مقارنة ببقية دول العالم، مما ساعدها في تحقيق نهضة اقتصادية غير مسبوقة رفعت من درجة منافستها العالمية وساهمت في تحديد الخطوط العريضة لمستقبل الصين كأحد أبرز معالم الاقتصاد العالميّ في المستقبل، إذ أنها نهضة دولة غير عاديّة، وإنّما نهضة فريدة من نوعها، نهضة دولة متحضرة تمثّل نوعًا جديدًا من التنمية الاقتصاديّة.
منذ العام 1977 زاد حجم الناتج المحليّ الإجماليّ للصين 18 ضعفًا، وأصبح اقتصاد الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم عام 1992، وتجاوزت الصين ألمانيا كأكبر دولة مصدرة في العالم عام 2009، وأصبحت مصدر جذب للاستثمار الأجنبي بإجمالي 800 مليار دولار أمريكي. أصبحت الصين أيضًا دولة محفزة للنمو الاقتصادي على مستوى العالم خلال فترة زمنية قصيرة، حيث ساهمت بحوالي 50% من إجمالي قيمة الاقتصاد العالميّ والنمو التجاريّ. كما استطاعت البنوك الصينيّة التغلب على مديونيتها وتعثرها الذي عانت منع لسنوات طويلة، ليكون هناك ثلاثة بنوك صينيّة بين أكبر خمسة بنوك على مستوى العالم في عام 2000. كما أنها نفذت سياسات للسيطرة على الفساد وحققت نجاحًا كبيرًا مقارنة ببقية الدول النامية ذات الاقتصادات الانتقاليّة. أما أعظم إنجاز للصين كان في العام 2010 عندما تفوّقت على اليابان واحتلت المركز الثاني عالميّا بحجم الناتج المحليّ الإجماليّ، وفرضت على العالم التعامل مع قوة اقتصادية جديدة.
نجحت الصين كذلك في القضاء على الفقر في عام 2019 نتيجة اتباع برامج القضاء على الفقر المدقع بإيجاد وظيفة لكل فرد، وعملت على تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء باستخدام سياسات تحقق من التوزيع العادل للموارد بين السكان. ومع أن الصين لازالت تعتبر دولةً ناميةً باعتبار أن متوسط دخل الفرد لا يتعدى عُشر متوسط دخل الفرد في اليابان، إلا أنها حققت تحسنًا ملموسًا على مستوى حياة أفراد الشعب.
كما أنّها اتخذت قرارات لحماية البيئة الطبيعيّة خلال فترة التحوّل الصناعي، حيث اعتبر برنامج حماية البيئة الصينيّ أكثر كفاءة من برامج العديد من الدول الغربية، ويتضح ذلك عبر تحرك الصين نحو التنمية في الطاقة المتجددة في مجال استخدام طاقة الرياح والطاقة الشمسيّة وصناعة السيارات الكهربائيّة.
بعد أن كان اقتصاد الصين اقتصادًا زراعيًا بحتًا، أصبحت قوة اقتصادية يقوم اقتصادها على التصنيع من جهة، وعلى التكنولوجيا والذكاء الصناعيّ من جهة أخرى.
وعلى الرغم من الصعوبات والتحديّات التي واجهتها الصين كدولة ذات مساحةٍ جغرافيةٍ شاسعةٍ تغطّيها كثافة سكانية ضخمة، إلا أنها استطاعت التغلّب عليها في فترة قصيرة نسبيًا، واستطاعت إحداث ثورة اقتصادية ساهمت في نهضة الصين، وانعكست أصداؤها على نهضة العالم.(4)
خاتمة
النهضة الاقتصاديّة الصينيّة التي حدثت خلال الثلاثين عامًا الماضية كانت بمثابة زلزال، ولكنه لم يكن زِلْزالًا مدمّرًا، بل كان الزلزال الذي غيّر معالم الاقتصاد العالميّ، الزلزال الذي حقق فوائد كبيرة عادت على الصين وعلى كل دولة تأثرت به، وصدَق من قال بأنّنا نعيش الآن في «العصر الصينيّ».(5)