غالى ديكارت في تقدير إمكانات أغلب قُرّائه المؤيدين له؛ فقد توقع منهم أن يستطيعوا تتبُّع أسلوبِه العجيب في كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى»، ولكنهم أساءوا تفسير الفرضيات الأساسية الواردة في الكتاب. غير أن مناوئيه والمعُادين لأفكاره قد انقضّوا بالفعل على ما ورد في «التأملات» من أفكار مطروحة لأجل تفنيدها، فأُصيب ديكارت بخيبة أملٍ بسبب طبيعة هذه الاعتراضات، وأحيانا ما كان يرد عليها بنفاد صبرٍ وكثيرا ما كان يشكوا من أنه أُسيء فهمُه، فقد بلغ عددُها سبعَ اعتراضات (ذُكِرت هذه الاعتراضات السبعة بإسهاب في مقالة «ديكارت سيرة ومسيرة» المُدرجة في المَصادر المذكورة بالأسفل). والآن، لنُلقِ نظرةً على الخطوات التي سلكها ديكارت في تأملاته.
بعد أن قام ديكارت بصياغة المنهج في خطوة أولى وأساسية، آلى على نفسه أن يَطلب اليقين الذي لا مراء فيه ولا نزاع، وليكون هذا اليقين قاعدةً راسخة يستطيع أن يُقيم عليها بناء العلم. فكان تأملُه الأول من كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» نظرةً ميتافيزيقية قوامها البحث في الضرورة العقلية التي تقتضي سلوك كل طرائق الشك وسبُلِه، وذلك باعتباره تمهيدٍ للفلسفة. فرفض جميع المذاهب القائمة، وتجاهل الماضي، وتشكك في كل ما تعلمه من قبل. بل تمادى في شَكِّهِ إلى أبعد من ذلك؛ فتشكك في وجود العالم الخارجي وفي حقيقة الأشياء المحيطة به، وذلك كله – كما قلنا من قبل – من أجل أن يكون لفلسفته يقينُ العلم الرياضي. فاستبعد ديكارت شهادة الحواس: لأنها تخدعنا أحيانا، ومن الفطنة ألا نأمن أمنًا تامًا لما خدعنا مرةً. ولقد لاحظ أن مريض «اليرقان» تخدعه عيناه دائما؛ فهو يرى كلَّ شيء أصفر اللون. ثم أقرّ ديكارت بأننا نعتقد في النوم أمورًا ونتخيل أحوالا ونحسب لها ثباتا أو يقينا، ثم نستيقظ فنعلم أن ما رأيناه لا يتعدّى كونه حلما؛ فليس ثمة ما يفرق بين المنضدة الواقعية التي أكتب عليها، والمنضدة المتوهَّمة التي أراها وأنا نائم. وفي هذا يقول ديكارت في «التأمل الأول»: «ولكن إذا فكرت أني إنسان، وأن من عادتي أن أنام، وأني أتمثل في الحلم نفسَ الأشياء التي أراها في اليقظة، وأنه لا توجد قرائن يقينية لتمييز اليقظة من النوم، فلا سبيل لي إلا أن أنظر بعين الشك إلى جميع ما تلقيته عن طريق الحواس».
ثم شَكّ ديكارت في شهادة العقل نفسِه؛ ولذلك استبعد تلك الشهادة أيضا، فقد لاحظ أن استدلالات العقل قد تختلف من شخص إلى آخر، حتى فيما يتعلق بالاستدلالات الرياضية (لأن بعض الناس قد يخطئون في الاستدلال ولو في أبسط قضايا الهندسة). بل وزاد على ما تقدم، فافترض افتراضا بأنه ربما هناك شيطان ماكر مخادع يعبث بعقلي، فيريني الباطلَ حقًّا والحقَّ باطلًا، ويجعلني أخطئ على الرغم مما قد يكون لدي من يقين نفسي. ولم يقف شك ديكارت عند هذا الحد، بل تعداه ووصل الأمر إلى الشك في وجودِه هو ككائن حي، فضلا عن الشك في وجود العالم الخارجي أو الحسي؛ من أرضٍ وسماء وشجر وكائنات عاقلة وغير عاقلة وما إلى ذلك. ولا ريب في ذلك، فإذا ما دب الشك في صدق وسيلةِ أو آلة الإدراك، مثل الإدراك الحسي، فحينئذ يصل الشك إلى الوجود الحسي نفسِه، وبهذا أصبح الوجود، كل وجود – ماديا كان أو غير ذلك، مثل وجود «الله» -، عبارة عن وهمٍ لا محالة (سأفترض شيطانا سيئا كثيرٌ خبثُه ومكرُه وبأسُه، وقد استعمل كل ما أوتيَ من حنكة لتضليلي. وسأفترض أن السماء والهواء والأرض والألوان والأشكال والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية التي نراها، ليست إلا أوهاما وخيالات يلجأ إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض أني خالٍ من العينين واليدين واللحم والدم والحواس، والتي أتوهم خطأً أني أملكها جميعا. وسأتشبث بهذه الافتراضات التي إن لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة؛ فستدفعني على الأقل إلى التوقف عن الحكم). لكن عند وصول ديكارت إلى هذا الحد من الشك بدأ يستعيد رحلةَ العودة إلى الوجود، ولا سيما وجوده هو أولا.
لكن ماذا لديه من ضمان؟
إن شيئا واحدا ما يزال قائما وفيه منجاة من الشك؛ ألا وهو : «الفكر». أنا أفكر، وأنا واثق أنني أفكر؛ وحتى لو شككت في أنني أفكر فمثل هذا الشك يقتضي أنني أفكر أيضا (ربما هذا يذكرنا بما قاله أرسطو في الميتافيزيقا عن: ضرورة التفلسف. فإذا لزم التفلسف فلنتفلسف، وإذا لم يلزم التفلسف فلنتفلسف أيضا لنثبت عدم لزوم التفلسف). وبعبارة أخرى: إذا صمّمتُ على أن أشك في كل شيء، فأخليتُ ذهني من كل معتقَدٍ وتوقفتُ عن كل حكم، بقي أمامي أمر مؤكد؛ وهو أنني مهما أشك ومهما أفكر فليس بمستطاعي إنكار أنني أفكر حين أشك، وأنني في لحظة تفكيري، بل في لحظة خطئي في تفكيري، لابد وأن أكون موجودا، فـ«أنا أفكر، إذن أنا موجود»، أو بعبارته اللاتينية (Cogito ergo sum).
من هنا وصل ديكارت إلى حقيقة أولية، مفادها أنه لا مجال للشك إطلاقا في حقيقة وجوده، بصفته إنسان يشك ويفكر. فهو يقول: «كلما شككت ازددت تفكيرا، فازددت يقينا بوجودي». غير أنه بمقولته الأخيرة هذه يعارض مقولة سانشيز Sanchez الذي يقول الضد من ذلك تماما: «كلما فكرت ازددت شكا». بهذا المبدأ يكون ديكارت قد وضع نهايةً حاسمة للفلسفة القديمة حيال فكرة الوجود، ولا سيما أرسطو. وآية ذلك؛ أنه قبْل ديكارت كان للوجود المادي أسبقيةٌ أو صدارة على الوجود الفكري الذهني. فديكارت لا يَعتبر الوجودَ المادي أول ما يخطر في الذهن، وإنما يرى أن كل ما ليس له وجودٌ ذهنيٌ لا وجود له حقيقةً.
كان المبدأ الديكارتي، أو «الكوجيتو – أنا أفكر، إذن فأنا موجود»، هو القضية اليقينية الأولى في نظر ديكارت، لأنها قضية بديهية صادقة صِدقًا مطلقًا حيث تتصف بالوضوح والتميُّز. وكل ما له خصائص «الكوجيتو»: الوضوح والتميز؛ فهو صادق صدقا مطلقا، ولذا يُعتبر «الكوجيتو» الديكارتي هو المبدأ الأول الذي تقوم عليه فلسفته كلها. «ولما انتهيتُ إلى هذه الحقيقة – أنا أفكر، إذن فأنا موجود -، كانت من الثبات واليقين بحيث لا يستطيع اللاأدريون زعزعتها بكل ما في فروضهم من شطط بالغ، حكمتُ أني أستطيع مطمئنًا أن آخذها مبدأً أول للفلسفة التي أتحراها». وإذا ما تساءلنا عن ماهيّة التفكير عند ديكارت، فإنه يجيب بأن التفكير هنا ليس معناه الاستدلال من شيء معلوم إلى شيء مجهول، وإنما معناه كلُّ العلميات العقلية التي تعرِض للإنسان. فأنا أفكر تعني: أنا أحس وأتصور وأدرك وأنكر، وأتذكر وأنسى، وأرغب ولا أرغب، وما إلى ذلك. ويلاحَظ أن «الشك» عن ديكارت فعلٌ من أفعال الإرادة؛ فهو ينصب على «الأحكام» لا على «التصورات» و«الأفكار». فالتصورات في ذاتها من غير حكم لا تُسمى صادقة أو كاذبة، بل الصادق والكاذب هي الأحكام التي نطلقها على الأفكار. ويتضمن الكوجيتو أيضا الاعتقاد بأن الإنسان في جوهره كنايةٌ عن نفس أو عقل مفكر، وأن الجسد من الناحية المنطقية ليس شيئا جوهريا في الإنسان. وهذا يعني أنّ ديكارت من القائلين بالثنائية Dualism: «العقل» و«المادة»؛ أو القائلين بأن الإنسان مركبٌ من جوهريْن منفصليْن ومتمايزيْن: الجسم من ناحية، والعقل من ناحية أخرى. والجسم جوهر ماهيته: امتداد، والعقل جوهر ماهيته: فكر.
• ملاحظات على الكوجيتو الديكارتي ونقد له:
يُعترض على ديكارت بأنه قد بالغ في تقرير دواعي الشك. فإذا كانت الحواس تخدعنا أحيانا، فما من سبيل لأن نعرف في أي حالة من الحالات تخدعنا! وإذا كان النوم والأحلام يخدعاننا، فإنه من الميسور تمييز حال اليقظة من حال النوم، وذلك بملاحظة: منطق التصورات واتساق التفكير، واتفاق المعاني مع الذكريات المحفوظة، واتفاق كل ذلك مع الأحكام العامة ومع قوانين العقل. وأما افتراض شيطانٍ ماكرٍ أو إلهٍ خداعٍ؛ فهو افتراض لا يمكن الوقوف عنده بتاتا: لأنه لو صح ذلك لما أمكن إزالته إطلاقا، وإذا كان يتناول جميع تفكيرنا لبطلت الاستدلالات التي يراد بها إثبات إله صادق أو عدم الشيطان الماكر. وإذا كان ديكارت قد تشكك في كل شيء حتى في وجوده هو، فضلا عن العالم الخارجي، فكيف أمكنه تتصور وجود شيطان ماكر يعمل على تضليله؟ أليس ذلك يعني – باعتراف ديكارت – نوعا من الوجود، مهما تكن طبيعة هذا الوجود، وهو الذي شك أصلا في كل أنواع الوجود؟ ثم أليس افتراض وجود هذا الشيطان الماكر معناه الشك في وجود الله؟ ولقد قيل بأن هذا الافتراض يقضي على الفيلسوف ولا يخرجه بتاتا من حظيرة الشك التى يريد أن يقوضها ويقضي عليها.
لقد سُئل ديكارت هذا السؤال بالفعل من أحد اللاهوتيين، ويُدعى (بويتندجك)، وكان سؤالُه على النحو التالي: «هل الشك في وجود الله مباح؟»
أجاب ديكارت بوجوب التمييز بين نوعين من الشك: شك يتعلق بالعقل، وآخر يتعلق بالإرادة. وهما نوعان متاميزان؛ فيكون من الناس من يشكُّون في وجود الله شكًّا عقليًّا ما دامت عقولُهم عاجزةً عن أن تقيم لهم الدليلَ على وجوده؛ ولا مانع في الوقت نفسِه من أن يكونوا مؤمنين بوجود الله إيمانا راسخا، حيث أن الاعتقاد شأنٌ من شؤون الإرادة لا يناله الشك العقلي. فأنا إذا كنتُ مؤمنا بالله، فعلى الرغم من قوة إيماني أستطيع بالعقل الذي وهبني اللهُ أن أثير مسألة وجوده، كما أستطيع أن أشك فيها دون أن أشُك في عقيدتي.
كان بعض الفلاسفة، مثل أرنولد وغاسندي، يرون أن الكوجيتو ما هو إلا كناية عن استدلالٍ قياسي نُسج على منوال القياس الأرسطي، والذي زعم ديكارت ثورته عليه وهاجمه بشدة. فقد أُضمرت مقدمته الكبرى هكذا: كل مفكر موجود. ويمكن صياغته على النحو التالي:
كلُّ مفكرٍ موجودٌ. (مقدمة كبرى)
أنا، ديكارت، أفكر. (مقدمة صغرى)
إذن فأنا، ديكارت، موجود. (نتيجة)
ومن النقد المُوجه أيضا إلى ديكارت هو فصلُه الحاسم وتميِيزُه بين «الفكر» و«المادة»، فقد أوقعتْه محاولةُ تبيان الصلة القائمة بين الروح والجسد وكيفية اتصالهما، أو بالأحرى اتحادِهما في الجوهر الفرد، في اضطرابٍ كبير. ولقد ترك هذه المشكلة دون حل، إلى أن حاول بعض تلامذته، مثل مالبرانش وجولينكس ومرسن، حلَّ هذه الشكلة. فلقد أكد ديكارت على أن العقل والمادة من طبيعة مختلفة ولا يمكنهما أن يتصلا، ولهما وظيفتان مختلفتان؛ فعلى العقل أن يفكر وعلى المادة أن تملأ الفراغ، والاثنان منفصلان تماما بحيث لا يؤثر أحدُهما في الآخر ولو بدرجة ضئيلة. لكن إذا كانت إرادتي مثلا ليس لها صلة من أي نوع بمادة جسمي، فكيف يمكنها مثلا أن تُرغِم جسمي على الاستدارة يمينا ويسارا كيفما شاءت؟
إذا كان الفكر سابقا للوجود المادي عند ديكارت، وإذا كان الفكر فقط هو الذي يكون ماهية الإنسان وحقيقة وجوده، فما حكم المجنون والطفل الرضيع الذي يتصرف دون غاية ودون وعي في نظر ديكارت؟
غير أن الأهمَّ في نقد الكوجيتو الديكارتي قضيةٌ من نوع آخر غير هذا النقد، إنها مسألةٌ هامة، مسألةٌ تاريخية، وهي أصالةُ ديكارت في هذا المبدأ. فلقد استخدم القِدّيس (أوغسطين) هذا المبدأَ من قبل؛ ألا وهو الشعور بالفكر شاهدًا من شواهد اليقين. فيوجد بالفعل شبهٌ كبيرٌ بين الألفاظ التى استخدمها كلٌّ من ديكارت وأوغسطين، مما حدا ببعض المُطّلعين على لفت النظر إلى هذا الأمر والتنبيه به، فنَفَى ديكارت عن نفسه شبهة الأخذ عن أوغسطين. ولقد أيد (بليز بسكال) دعوى ديكارت هذه حين قال بأن «أنا أفكر» شيءٌ مختلفٌ تمام الاختلاف بين ديكارت، الذي يؤسس عليه مذهبَه، وما عند القديس أوغسطين. وأيد دعوى بليز بسكال هذه (جان فال)، مؤلف كتاب «الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر». بَيْد أن (برتراند راسل) قد رأى العكس؛ فقال في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» – الكتاب الثاني الخاص بالفسلسفة الكاثوليكية – أن النزعة الذاتية عند أوغسطين أدت إلى سبقِهِ ديكارت في «الكوجيتو»؛ وقال في الجزء الثالث من الكتاب نفسِه وهو يعرض لفلسفة ديكارت أن القديس أوغسطين ساق حُجةً تشبه الكوجيتو الديكارتي شبهًا وثيقًا. والشيء نفسُه قالَهُ (يوسف كرم) في كتابِه «تاريخ الفلسفة الحديثة»، إذ قال أنه: «يصعب علينا تصديقُ دعوى ديكارت بأنه لم يكن يعرف نصوص أوغسطين، ولعله أراد أنه لم يقرأها في كتبه، ولكنه عرفها بالوساطة ولا ريب؛ فإنها مشهورةٌ وكانت كتب أوغطسين متداولةً وكان مذهبُه شائعا. وأول عرض قام به ديكارت لمذهبه كان في حضرة الكاردينال (دي بيريل) الأوغسطيني». ورفض كذلك يوسف كرم ما قاله (بليز بسكال) من أن الغرض يختلف بينهما أو أنه – بسكال – قد كتب تلك الكلمة عفوا دون أن يطيل التفكير فيها ودون أن يتوسع فيها، فكيف يكون أوغسطين قد كتبها عفوا واتفاقا وهو يذكرها ست مرات؟ ويتساءل يوسف أيضا كيف يقال أنه لم يطل التفكير ولم يتوسع فيها، وقصد بها إلى إدحاض الشك والتدليل على وجود النفس وروحانيتها وعلى وجود الله؟
إلا أنه يبقى أن وجود الفكر عند ديكارت حالةٌ فذة يتجلى فيه اليقين ومبدأٌ للفلسفة سيخرج منه كل يقين، وأنه عند أوغسطين حالةٌ جزئية من حالات اليقين.
ولعلك أصبحت في حيرة من أمرك أيها القاريء العزيز لما قد عُرض لك عن تاريخ الفكرة أو المبدأ. وإذا ما سألت عن رأيي، قلتُ لك الأفضل أن أعرض لك كلام القديس أوغسطين بنصه، وكوِّن لك رأيا خاصا بك ودعك من رأي بسكال ورأي راسل وغيرهما. فعقلُك لا يقل عن عقولهما أصالةً، إن اجتهدت وثابرت، وحسبك مقولة ديكارت «أن العقل السليم هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس». وإليك عزيزي القاريء كلام القديس أوغسطين؛ فيقول في موضعٍ أنّ ثمة حقيقة يعرضها على الشكاك ليشعرهم بيقين لا سبيل للارتياب إليه، فتلك هي حقيقة وجودنا وفكرنا، فيقول:
– أنت يا من تريد العلم، هل تعرف أنك موجود؟
– أعرف ذلك.
– من أين تعرف ذلك؟
– لا أدري.
– هل تُحِس نفسَك بسيطا أم مركّبا؟
– لا أدري.
– هل تعلم أنك تتحرك؟
– لا أعلم.
– هل تعلم أنك تفكر؟
– أعلم.
ويقول أوغسطين في موضوع آخر: «حين تؤكد وجودَك فلا يمكن أن تخشى الخطأ، إذ إنك إذا كنت تخطئ فأنت موجود». ويقول المعنى نفسَه أيضا: «لست أخشى الأكاديميين إذ يقولون لي: وإذا كنتَ مخطئا؟ فإذا كنتُ مخطئا فأنا موجود، ومن لم يكن موجودا فلا يمكن أن يخطئ». وله أيضا: «إذا كان يشك فهو يحيا، وهو يذكر موضوع شكه، وهو يعلم أنه يشك، وهو يطلب اليقين، وهو يفكر، وهو يعلم أنه لا يعلم …» إلى آخر الكلمات. لك الحكم عزيزي القارئ في تلك النقطة الجوهرية.
كلمة أخيرة في حق الشك الديكارتي؛ فعلى الرغم مما يمكن أن يوجَّه إليه من مآخذ، فهو شك نافع. إنه شك يُستخدَم وسيلةً للوصول إلى اليقين، وإذا استُخدِم بحيطةٍ وتبصّرٍ كان منهجا مشروعا لا غبار عليه. بل الأوْلى أن يُقال أنه منهجٌ مفروضٌ على كل فكرٍ جاد؛ لأنه إذا وجب ألّا نقبل إلا ما تبيّنتْ صحتُه بالبداهة، فقد اتضح أن أول واجبات الفيلسوف أو الباحث هو الشروع في امتحان أفكاره وآرائه ووسائله في المعرفة، لكي يتسنى له تقييمها وإساغتها.