الصدفة والغباء في تغيير مجري التاريخ.. الجزء الثالث (يوم سقط جدار برلين)

Berlin-Wall-1961-824x549

||||

17 أغسطس / آب 1962

«إنه نهار غائم رغم الصيف في الشطر الشرقي من برلين، وجدار «Die Mauer» -كما أصبحوا يطلقون عليه- يمنع حتى نسمات الهواء من أن تمر بين شَطري المدينة الممزقة، هواء الحرية، هل سيطلقون عليّ النار إذا رأوني؟ لا أنا لست مجرمًا أو جاسوسًا! فليذهب قادة الحزب إلى الجحيم وليأخذوا جدارهم هذا معهم فأنا لم أعد أريد منهم شيئًا، ثم إن هؤلاء الرجال على الجدار ليسوا رُوسًا أو بولنديين أو حتى من درسدن، إنهم مثلي من برلين، بل أنا أعرف الكثير منها شخصيًا، لا لن يطلقوا النار عليَّ أبدًا، لقد اقتربنا الآن، شريط الموت يسمونه، تلك المسافة بين الحاجزين، لكن لا يهم، كل ما عليَّ هو أن أقفز فوق ذلك الحاجز وأركض للناحية الأخري، نحو الحرية».

لن يعرف أحد أبدًا إن كان هذا بالفعل ما دار في ذهن «بيتر فيختر» الشاب ذو الثمانية عشر ربيعًا، وهو يحاول أن يتحين اللحظة المناسبة ليعبر المنطقة الفاصلة بين برلين الشرقية والغربية، لكن الذي نعرفه هو أن أحد الحراس المسلحين لمحه أثناء ركضه من ورشة النجارة المهجورة التي كان يختبئ بها بإتجاه الجدار، وبدون تردد يطلق الحارس عليه النار فورًا، ليُترك الشاب بعدها ينزف حتى الموت على الأسلاك الشائكة لأكثر من ساعة قبل أن يفارق الحياة. مرت بضع ساعات قبل أن يتجرأ أحدهم على حمل جثة الشاب من العراء، سيموت على الأقل 140 شخصًا أثناء محاولتهم عبور الجدار في السنوات الـ 28 التالية.

قبلها بعام (الأحد 13 أغسطس / آب 1961)

استقيظ سكان شارع «Zimmer Straße» ليجدوا عمال شركة إنشاء الجسور في ألمانيا الشرقية منهمكين في وضع الحواجز واللبنات الأولى في البناء، الذي سيصبح جزءًا أساسيًا من وعي كل ألماني بشكل عام، وكل برليني بشكل خاص لما يقرب من النصف قرن «جِدار دي ماور» كانت سلطات ألمانيا الشرقية قد أغلقت الحدود بشكل مفاجئ في منتصف ليلة الـ 12 من أغسطس، وفي الصباح التالي بدأ الجنود في نصب الحواجز والأسلاك الشائكة، سيُعرف هذا اليوم في التاريخ الألماني باسم «أحد السلك الشائك». تلك الحواجز سيتم زيادتها ومدها لتمر عبر الكثير من الشوارع الأخرى في برلين، وسيستيقظ سكان تلك الشوارع على مدار السنوات القادمة ليجدوا المزيد من التحصينات والملاجئ وأبراج المراقبة تتم إضافته بشكل دوري إلى الجدار ليزداد ظله الكئيب قتامة. ذلك الظل الذي سيبلغ امتداده عشية سقوط الجدار إلى (155) كيلومترًا عبر قلب برلين.

 

أحد الجنود من ألمانيا الشرقية يحمل جثة بيتر فيختر بعد مقتله

خلفية تاريخية: لماذا بُني جدار برلين؟   

غدا انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا رسميًا باستسلام -وبالتبعية سقوط- ألمانيا النازية في 7 مايو 1945؛ حيث قُسّمت أراضي ألمانيا بين الحلفاء (الولايات المتحدة الأمريكية – الاتحاد السوفييتي – فرنسا – بريطانيا). وبالرغم من أن العاصمة الألمانية كانت تقع بالكامل ضمن المنطقة الواقعة تحت النفوذ السوفييتي، إلا أنّ الحلفاء اتفقوا على تقسيم المدينة بينهم بشكل مماثل. غير أن نهاية الحرب العالمية الثانية كانت في نفس الوقت إعلان بداية الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي الذي يسيطر عليه الاتحاد السوفييتي. وبالتبعية، أصبحت برلين المحتلة من القوى الأربعة مسرحًا رئيسيًّا للصراع بين الكتلتين.

بين عامي 1946 و1949، بدأ الحلفاء الغربيين في دمج مناطق سيطرتهم في ألمانيا ومن ضمنها برلين، واكتمل ذلك بإعلان تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) في 23 مايو 1949 وعاصمتها مدينة بون. وخوفًا من أن يحاول الحلفاء الغربيون فرض سيطرتهم على باقي ألمانيا؛ سارع الاتحاد السوفييتي بإعلان قيام جمهورية ألمانيا الديموقراطية (ألمانيا الشرقية) في أكتوبر من نفس العام، وأصبح الجزء السوفييتي (سابقًا) من برلين عاصمة لتلك الدولة المستقلة نظريًا، والخاضعة بشكل شبه كلي للسيطرة السوفييتية عمليًا.

مع مرور الوقت بدأت تظهر تناقضات واضحة بين الألمانيتين، وبالتبعية أيضًا بين قسمي برلين، حيث أدت السياسية الستالينية شبه الانتقامية في ألمانيا الشرقية إلى تدهور مستويات المعيشة بشكل ملحوظ عن نظيرتها الغربية. وعلى الصعيد السياسي، تمت إعادة هيكلة النظام السياسي لتصبح على النمط الشمولي المتبع في الاتحاد السوفيتي، أي بوجود حزب واحد ذي أيديولوجية اشتراكية (حزب الوحدة الاشتراكية الألمانية – SED)، يسيطر بشكل كامل على السياسة والمجتمع، ويتلقى أوامره من موسكو، يدعمها جهازٌ أمني قمعي (وزارة أمن الدولة – Stasi) مهمته الأساسية هى التجسس على المواطنين ومنع أي نوع من أنواع الثورة على الحزب. وفي المقابل تحظى ألمانيا الشرقية بالحماية العسكرية -الإجبارية- والدعم الاقتصادي من الاتحاد السوفييتي. على النقيض من ذلك، أدركت الولايات المتحدة -وعملت على إقناع حلفاءها بذلك-  أن السبيل الوحيد لمنع سقوط كامل ألمانيا في براثن السوفييت هو دعم ألمانيا الغربية لتصبح جمهورية ديموقراطية تعددية مزدهرة اقتصاديًا. وكانت النتيجة المترتبة على ذلك هي أنه وعلى مدار العقد التالي، أن تحولت ألمانيا الغربية بشكل جذري، من كونها أنقاض دولة يقطنها شعب على حافة المجاعة، لواحدة من أقوى الاقتصاديات الرأسمالية في أوروبا والعالم. بينما على الجانب الأخر في ألمانيا الشرقية، ورغم أن الاقتصاد حقق بعض النمو، إلا أن الدولة ظلت عاجزة عن تحسين مستوى المعيشة بشكل عام، والذي كان مترديًا مقارنًا بجارتها الغربية.

كل هذا بالإضافة إلى فقدان الأمل تقريبًا في حدوث أي تغيير في سياسات الحكومة -أو الحكومة نفسها- جعل كثير من المواطنين في ألمانيا الشرقية يتطلعون للبحث عن فرص لحياة أفضل في الغرب. ففي برلين، كان آلاف الأشخاص يعبرون يوميًا من شرق المدينة إلى غربها، حيث الوظائف أعلى أجرًا، وحيث يمكنهم إيجاد الكثير من السلع غير الموجودة في برلين الشرقية. والواقع أن الكثير من سكان برلين الغربية كانوا أيضًا يعبرون إلى الجانب الآخر إما لزيارة أقاربهم أو حتى للتسوق من أجل البضائع الرخيصة، ولكن الفارق أنهم في نهاية اليوم كانوا يعودون إلى بيوتهم ف الجانب الغربي على العكس الكثير من الألمان الشرقيين الذين كانوا ينتهزون فرصة سهولة المرور بين المدينتين ليهربوا من ألمانيا الشرقية.
وخلال الفترة بين عامي 1946 و1961، تمكن ما يقرب من 3 ملايين ألماني شرقي من الهرب إلى ألمانيا الغربية. كان ذلك الهروب اليومي يمثل إحراجًا بالغًا لحكومة ألمانيا الشرقية والأهم أنه كان يمثل تهديدًا من وجهة نظر القيادة السوفيييتة، فمن شأن هذا أن يظهر الكتلة الشيوعية عامًا بمظهر العجز والفشل، كما أن تسرب كل هذا العدد من السكان من ألمانيا الشرقية، العديد منها كانوا من عمالًا وفنيين مهرة، كان من شأنه زيادة الاختلال السكاني بين الألمانيتين، وهو الميزان المختل أصلًا (كان عدد سكان ألمانيا الغربية ثلاثة أضعاف ألمانيا الشرقية عام 1961). في النهاية شعرت القيادة السوفييتة أن استمرار الوضع في برلين بالشكل الحالي سيؤدي إلى عواقب وخيمة. وفي ليلة 12 أغسطس 1961 أصدر رئيس الوزراء السوفييتي «نيكيتا خروتشوف» أوامره إلى الحكومة الألمانية الشرقية بوضع حاجز من الأسلاك الشائكة يفصل بين قسمي برلين، ليظل قائما لـ 28 عامًا.

 

«جدار برلين»

المقدمات.. الطريق إلى 9 نوفمبر

إنه خريف العام 1989 والوضع في ألمانيا الشرقية ينبئ بانفجار قريب. أدرك أعضاء المكتب السياسي للحزب أنه ليس بمقدورهم عمل الكثير لإيقاف المحتوم. منذ ما يقرب من 22 عامًا قال الديكتاتور السوفييتي «بريجينيف» أنه لن يُسمح لأي بلد يدور في فلك الاتحاد السوفييتي بأن ينفصل عنه. والآن وقد مات بريجينيف ودُفن هذا المبدأ معه، والاتحاد السوفييتي العظيم على شفا الانهيار بعد أن أصبح مجرد قشرة خاوية لكيان لم يعد مخيفًا. إذا حدث شيء في ألمانيا لن تتقدم دبابات خلف «وارسو هادرة» لتدهس الثوار كما حدث في المجر من قبل عام 1955، لن ينقذ شيوعيو موسكو رفاقهم في برلين.

في ألمانيا الشرقية ازداد وضع الاقتصاد سوءًا، وبدأت الأصوات الخافتة تتعالى وتنادي، في البداية بالإصلاح، ثم أخيرًا بالثورة. وعندما سُئل الناطق الرسمي باسم اللجنة المركزية للحزب «نيكولاي شيشن» عن موقف الحزب من ذلك كان رده: «أنا واثق أن الوضع الحالي سيتعدل، امنحونا فقط بعض الوقت». أثار هذا التصريح المزيد من الحراك الشعبي في الشارع. بدأ الأمر يوم اثنين في مدينة لايبزغ، حين وقف أحدهم أمام الجمهور في حفل موسيقي وهتف: «لا نستطيع الاستمرار هكذا!» وفي اليوم التالي، الثاني من أكتوبر، كان هناك 50 ألف متظاهر في الشوارع، وبعد أسبوع وصل العدد إلى 150 ألف.

كانت الأحداث تتسارع بوتيرة مذهلة جعلت القيادة الشيوعية الهرمة عاجزة عن ملاحقتها، خرج إلى الشوارع بعض المؤيدين للنظام، هتفوا «نحن الحزب!» غير أن هتافهم تلاشى وسط الملايين التي اندفعت في أنحاء البلاد مرددة «نحن الشعب!». ألغى قائد الشرطة جميع الإجازات تحسبًا لما قد يحدث، واستقال «إريش هونيكر» أمين عام الحزب لأكثر من 19 عامًا، وسرعان ما تبعه رئيس الستازي المكروه «إيريش ميلييكي» الذي أُجبر على الاستقالة بعد هونيكر بأيام.

أدركت القيادة الجديدة أنه كان لا بد من حل سريع يهدأ تلك الحشود سريعًا ولو بشكل مؤقت، وفي الرابع من نوفمبر 1989، في الطابق الرابع من المبنى رقم 32 بشارع ماور، اجتمع أربعة من الموظفين الشباب في حجرة صغيرة مهمتهم كانت هى صياغة قانون جديد يُخفف قيود الانتقال بين الألمانيتين. أرادت القيادة الشيوعية بهذا «التعديل البسيط» من وجهة نظرهم تهدئة الغليان في ألمانيا الشرقية، عن طريق السماح لمن اعتقدت أنهم «عناصر مشاغبة» بمغادرة البلاد بلا رجعة والتخلص من إزعاجهم، ولكن القدر كانت له خطط أخرى، وتقدم أحد الموظفين الأربعة وهو المحامي البالغ من العمر 39 عامًا «جيرهارد لاوتر» باقتراح أن يتضمن نص المشروع عبارة «السماح بالرحلات الخاصة خارج حدود البلاد دون قيود»، وأزال كلمة واحدة في نهاية الجملة «بشكل مؤقت»، لم يعترض أحد من زملائه على تلك الصياغة، إما لأنهم لم يُدركوا كليًا الحجم الحقيقي للموقف، أو ربما لأنهم كانوا أكثر ارتباكًا من أن يدركوا ما تعنيه تلك العبارة بشكل كامل، أيًا كان الأمر فقد اعُتمدت تلك المسودة من قبل «إيجون كرينز» الأمين العام الجديد للحزب، وتقرر أن يتم إعلانها في مؤتمر صحفي تزامنًا مع زيارة «يوهان راو» السياسي الألماني الغربي المقرر لها يوم 9 نوفمبر.

الحدث.. خذ اقرأ هذا يا جونتر!  

انتهى لقاء كرينيز ووراو في الساعة السادسة مساءً، وخرج الرجلان وهما يتبادلان الابتسامات، وأمام الكاميرات أعلن كرينز أن هناك نية لدى حكومة ألمانيا الشرقية في تنظيم انتخابات حرة في أقرب فرصة، واستأذن كرينز من الصحفيين وأعلن أن الناطق الرسمي الجديد للجنة المركزية بالحزب «جونتر تشابوسكي» سيتلقى أسئلتهم، وأثناء خروجه من الباب سلم كرينز ملفًا أزرق اللون لجونر وقال له: «خذ يا جونتر.. أقرأ هذا للصحفيين»، وفي الساعة السادسة والربع مساءً، في مقابلة متلفزة على الهواء مباشرة تغير التاريخ. استهل الرفيق جونتر كلامه بالحديث عن الإنجازات العظيمة التي حققتها الاشتراكية للبلاد، وقدم تقريرًا يدعوا للتثاؤب عن خطط الحزب وأوضاع البلاد ونصوص قانون السفر الجديد، وقرأ تشاوبوسكي الملف الذي سُلّم له للصحفيين ولم يكن لديه أدنى علم بمحتواه: «يُمكن للمواطنين التقدم بطلب للسفر خارج البلاد بدون أي شروط خاصة، وسيتم إصدار التصاريح للمتقدمين خلال إشعار قصير» ذُهل الحضور للوهلة الأولى، ثم عمّ الصخب القاعة، لم يفهم أحدٌ ما كان يجري حتى تشابوسكي نفسه! قفز أحد المراسلين الإيطاليين سائلًا في تمام الساعة السابعة إلا ثلاث دقائق: «سيد تشابوسكي.. متي سيتم تطبيق ذلك ليستطيع المواطنون السفر خارج البلاد؟»، خفض تشابوسكي رأسه، ونظر للصحفيين من فوق نظارته، ثم قال: «حسبما فهمت يطبق الأمر دون تأخير، يستطيع المواطنون أن يغادروا وقتما شاؤوا، بدءًا من الآن»، وفي لحظات انفجرت قاعة المؤتمر بالصخب، وتدافع المراسلون يطرحون الأسئلة، وكأنما أدرك تشابوسكي للتو أن ما قاله كان يشكل زلزالًا سياسيًا، فأسرع يحاول توضيح كلماته ولكن الأحداث كانت قد سبقته.

النتائج، وسقوط الجدار!

لقد تأخر رد فعل سكان برلين الشرقية حتى العاشرة مساءً، وكأنما عوّدهم كذب حكامهم المستمر على عدم تصديق كلمة مما يقول أحدهم على التلفاز، ولكن عند العاشرة بدأت الحشود من الجانبين الغربي والشرقي تتجمع أمام نقاط التفتيش المنتشرة على السور، ولمدة ساعة تقريبًا ظل حرس الحدود غير واثقين مما يجب فعله، حيث لم تصدر إليهم أوامر مباشرة تأمرهم بالسماح للجماهير بالعبور. فبدأ الألمان على الجانبين في الإنشاد بصوت واحد «افتحوا البوابة!» أثناء ذلك تسلق شاب من ألمانيا الغربية أحد جوانب الجدار، ثم تبعه العشرات ثم المئات. وفي خضم الفوضى فتح أحد الحراس المرتبكين بوابة جانبيًا ليخرج ليهدئ الحشود؛ وسرعان ما وجد نفسه قد نُحي جانبًا من قبل الحشد الذين ظنوا أنه قد تم السماح لهم بالمرور وعبروا إلى  الجانب الآخر.

انفلت زمام الأمور، فقام الحراس في نقاط التفتيش الأخرى بفتح البوابات ظنًا منهم أن الأوامر قد جاءت أخيًرا، واستقبل سكان برلين الغربية الواصلين بالزهور وزجاجات الشمبانيا، ولم يجد مراسل أمريكي كلمات مناسبة للتعبير عن الموقف، فتسلق الجدار ورفع كاميرته وأخبر العالم، وقد فاضت به المشاعر، كيف أنه «يشم هواء الحرية للمرة الأولى».  في تلك اللحظات بدأت مجموعة من الشباب في قطع الأسلاك الشائكة، ثم ظهرت المعاول، وبدأ كل من لم يكن يبكي أو يرقص فوق الجدار في هدم الحواجز الإسمنتية، ووسط كل هذا، وجدت «أوتي هوف» -الطالبة ذات الاثنين والعشرين عامًا من هيدلبرغ ألمانيا الغربية التي تزور برلين لأول مرة- نفسها تكاد تختنق وقد انحشرت بين الحشد الكثيف والجدار قبل أن تنقذها أيادي «جوشن كوليجوسكي» عامل في شركة تعدين في ألمانيا الشرقية، تعانقا في فرحة غامرة، وبعد تسعة أشهر أسميا مولودهما (تشارلي نقطة التفتيش – Checkpoint Charlie).

 

ألمان يحتفلون بسقوط الجدار أمام بوابة براندنبرغ

الختام

في الصباح التالي سيقف نائب رئيس ألمانيا الشرقية ليصف الأمر في إيجاز بليغ: «لقد انزلقت أربعون عامًا من الشيوعية فجأة من تحت أقدامنا»، وفي التاسع من مارس 1990 شهدت ألمانيا الشرقية أول وأخر انتخابات حرة في تاريخيها، لتتوحد ألمانيا رسميًا في الثالث من أكتوبر من نفس العام ويرفع علم ألمانيا الموحدة فوق الرايخستاغ.

ماذا لو لم يضف جيرهارد لاوتر تلك الجملة الزائدة في نص القانون الجديد؟ أو كان تشابوسكي قد قرأ الملف الذي قدمه له كرينز قبل أن يخاطب الصحفيين أمام عدسات الكاميرات؟ وماذا لو قرر ذلك الجندي المجهول أن يبقى في موقعه ولم يفتح تلك البوابة؟ وماذا كان سيحدث لو قرر الجنود إطلاق النار على الحشود المتجمهرة؟ ولكن لا شيء من هذه الأشياء قد حدث في النهاية! بل ويمكن القول أنّ سُقوط جدار برلين يوم 9 نوفمبر 1989 كان أمرًا محتمًا، ليس فقط للأسباب السياسية والعملية المعروفة، بل لأن التاريخ نفسه يؤكد هذا! لقد بَنى الجدار نظامًا قمعيًّا، وظل لسنوات حجر الزاوية في صراع بين قوتين عظمتين، وكل منها حرص على بقائه لأسباب مختلفة. ولعقود، جاء رؤساء وسياسيون مختلفون، جميعهم لوحوا بقبضاتهم، وأطلقوا تصريحاتهم ولكنها لم تُغير شيئًا! وطوال هذه الفترة أصبح «دي ماور» أكثر من مجرد جدار، كان رمزًا للقمع، وككل الرموز صنع ضجة هائلة عندما سقط! وكل هذا بسبب عبارة رسمية سيئة الصياغة وشعب أنصت لها.

 

إعداد: محمد عزام
مراجعة علمية: د. تامر هاشم
تدقيق: Wael Yassir

المصدر:

دورتشميد،إريك، دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ، دار المدى للنشر، بيروت 2002، من 267 إلى 279.

لقراءة الأجزاء السابقة من سلسلة «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ»:

الجزء الأول

الجزء الثاني

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي