تابعنا في الجزء الأول من الفلسفة الأفلاطونيّة، تبلور جهاز أفلاطون الفكري، كثمرة ناضجة للثقافة الإغريقيّة في الفكر الفلسفي، حيث مثّلت أهمية فكر أفلاطون كونه، التقاء جامع وموفِق ومهذِب للمدارس المختلفة والمتنوعة لما قبله وفي عصره، وقد ذكرنا بشكل مقتضب رؤيته السياسيّة والاجتماعية التي عبّر عنها في أشهر محاوراته: «الجمهورية» والذي وضع فيها تصوّر «اليوتوبيا»، بما يتناسب مع مجمل مذهبه الفلسفي، والتي يتضح من خلالها، تأثّره بالسياق الزمني الذي شكّل ملامح أفكاره وتصوراته، التي تأثّر بها وسعى للتأثير عليها. أما هنا ننطلق من أساس الفلسفة الأفلاطونيّة النظريّة، إلى تحرك الفلسفة الأفلاطونيّة عبر الفترات الزمنيّة المختلفة، بتجليات تمت بها إعادة الإحياء، داخل الثقافة القروسطية وفي عصر النهضة والفلسفة الحديثة.
اقرأ: الفلسفة الأفلاطونيّة: (التكوين – الجمهورية) الجزء الأول
الأفكار والمثُلُ ونظريّة المعرفة
نظرية المُثُل هي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها بناء فلسفة أفلاطون، حيث كونها صورة مجردة وحقيقة عقلية كلية، أزلية وثابتة بذاتها؛ وتمثُّل وجودي، فالجسم لا يتعين في نوعه إلا إذا شارك بجزء منه في مثال من المُثُل، ومبدأ معرفي في نظرية «الاستذكار»، إذ أن أفلاطون أول من بحث في المعرفة لذاتها، وقد استقصى أنواع المعرفة في أربعة، تسير ترتيبيًا من الإحساس فالظن فالاستدلال ثم إلى التعقل. فالمعرفة تأتي عن طريق وجود مدركات عقلية تعمل على وجود معرفة حقيقة كاملة بعد استقراء الأجزاء، فالعلم لا يأتي عن طريق الحواس فقط، كما اقتصر السوفسطائيين على الحس. فقد رأى أفلاطون أن هذه الصورة الذهنية للمعرفة لها وجود وحقيقة خارجية مستقلة عن الانسان وعقله، إذ أن المُثُل وجودها من ذاتها؛ «أسس العالم الأولى»، هي معاني ليست مواد، واحدة لا تتعدد، وأبدية لا تفنى وهي جوهر الشيء وهي كاملة، وهى أيضًا ممكنة المعرفة بالبحث والاستنباط؛ أي عملية الاستذكار، فالمعرفة تحدث عن طريق تذكر لما كانت عليه النفس قبل ذلك؛ «إن الانسان كان قبل ولادته مُجرّد عن الأجساد، يعيش في عالم مُثُل يتأمل ويفكر، فلما حلت بالجسم –بالولادة- وانقسمت في عالم الحس، نسيت عالم المُثُل، فإذا وقع النظر على شيء جميل تذكرت مثال الجمال السابق»، بذلك قسم أفلاطون الوجود والمعرفة إلى عالم معقول هو الكامل الثابت الأول، وعالم محسوس هو الناقص في محاكاته للأول؛ «فالعلم ذكر والجهل نسيان».
يصوّر أفلاطون حقيقة المُثُل والعالم المعقول، في أمثولة قصة الكهف؛ والتي تحكي عن أُناس عاشوا منذ الصغر في كهف، مقيدين بسلاسل ثقيلة تجبرهم على النظر داخل الكهف، وإذ بالخلف منهم نار، يأتي من ضوءها على الجدار خيالات وأشباح أشخاص وأشياء، ولكن لأنهم ربّوا واعتادوا على رؤية تلك الأشباح فقط، فقد اعتقدوا إنها حقيقيّة في ذاتها، فإذ استطاع أحدهم النظر للخلف، واكتشف أن مصدر ما كان يراه ما هو إلا ظلال، ثم يكتشف طريق للخروج من الكهف، فيرى الشمس مصدر كل نور، «فالكهف هو العالم المحسوس، وإدراك الأشباح يُمثّل المعرفة الحسيّة، والخلاص من الجمود إزاء الأشباح يتم بالجدل، والأشياء المرئيّة هي الأنواع والأجناس والأشكال؛ أي المثل، والنار هي ضوء الشمس، والشمس مثال الخير أرفع المُثُل ومصدرالوجود والكمال».
ولدت المُثُل الأفلاطونيّة من خضم تلائم وتنسيق بين مصادر رئيسية وذات تأثير مباشر على بلورة نظرة أفلاطون وهما: صيرورة هيراقليطس والتي عندها لا يمكن معرفة عالم المحسوسات، لكن المعرفة العقلية ممكنة وموجودة «اللوجوس»، أرقام وأعداد فيثاغورس؛ إذ ردوا أصل المادة إلى العدد في العقل وذلك له تأثر في مهد فكرة المُثُل، المدركات العقلية لسقراط ومحاولة ايجاد تعاريف ثابتة وكلية.
وقد رد أرسطو نظرية المُثّل الأفلاطونيّة إلى ثلاثة مصادر؛ أنه أخذ من «الأيليين» فكرة الوجود المطلق وطبقها على المُثُل، وأخذ من هيراقليطس فكرة التغيّر المطلق وطبقها على الأشياء المحسوسة، وأخذ من سقراط نظرية المدركات العقلية والتي اعتمد فيها سقراط على عقل أنكساغوراس «النوس».
يتخذ أفلاطون نفس منهجه الاستدلالي المعرفي، أيضًا في مبحث الوجود، فلقد اعتمد على ما يسمي بالجدل الصاعد والجدل النازل؛ أي استقراء الجزئي للوصول للكلي، وقياس الجزئي بناءًا على الكلي. يبرهن أفلاطون على وجود الله في قمة عالم المعقول، فحركة العالم معلولة لعلّة عاقلة، والعالم متناغم ومنظم؛ غاية في الجمال، فذلك يحدث عنده عن علّة غائية تريد الخير، وهذا الخير أسمى ما غاية؛ «أن الخير رباط كل شيء وأساسه»، فيقول في الجمهورية:
«اعلم أن الخير والشمس ملكان، الواحد على العالم المعقول، والآخر على العالم المحسوس»
الأفلاطونيّة واللاهوت
انتهت حقبة الفلسفة الهلينية تاريخيًا مع موت الاسكندر الأكبر، وفكريًا مع موت تلميذ أفلاطون الأبرز؛ أرسطو الذي انتقد أستاذه في نظرية المُثُل، فكان يعلق على أراء أفلاطون بالنقد والتجريح، فهو يقول: «أُحب أفلاطون وأُحب الحق، وأؤثر الحق على أفلاطون». أسهمت الفلسفة الأفلاطونية بدور تأسيسي مؤثر على اللاهوت الديني والاتجاه السكولائي (المدرسي)، ففي الجانب المعرفي والوجودي، مثلت نظرية المُثُل حجر الزاوية في شطر العالم إلى نظرة ثنائية، عالم معقول، مقابل عالم محسوس، الروح إزاء الّجسد، العقل نظير المادة.
بدأت رحلة التجليّات الأفلاطونيّة تُقرأ بالترجمة اليونانية، إذ تأثّر البعض بالأخلاق الأفلاطونيّة للحياة الفضيلة كفرقة «الأسانية»، وقد برز اتجاه التأويل الرمزي للتوراة، خصوصًا مع فيلون الأسكندري؛ المثقف اليهودي الذي نهج شرح الدين عن طريق الفلسفة، فقد تأثّر بالتراث الإغريقي، وخاصة بأفلاطون؛ «فكانوا يؤولون الفصل الأول من سفر التكوين مثلًا بأنه الله خلق عقلًا خالص في عالم المُثُل هو الإنسان المعقول ثم صنع على مثال هذا العقل عقلًا أقرب إلى الأرض (آدم)».
الله عند فيلون يُسمى شمس الشمس، والشمس المعقولة للشمس المحسوسة، أخذًا ذلك عن أفلاطون، فهو يرى الله خيرية مطلقة، خلق العالم المعقول من العدم؛ «ولدها الله كما يلدُ العقل أفكاره»، والمسيح عنده بمثابة الحكيم الملك، كما عند أفلاطون.
في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، حظيت الفلسفة الأفلاطونيّة ومؤلفاتها باهتمام واسع، نتج عن ذلك، أنها تبدت ملامحها الأصيلة في اتجاهين لاهوتين، الأول يرتبط بديانة طقسية في مرحلة تشكلها وهي المسيحية، والأخر، إعادة إحياء الأفلاطونيّة في ثوب محدث يربط بين النظرة الفلسفية والحس الديني شبيه بأورفية الفيثاغوريين، ولكنها لم تغلب عليها الطابع الطقسي والأسطوري.
لمعت بداية الأفلاطونيّة المحدثة مع العديد من المجموعات الذين تبنّوا رؤية العالم من خلال أصول الفلسفة الأفلاطونيّة، فقد جعلوا منها مذهبًا مُتّبعًا في المعرفة والأخلاق، مثل السوري «نومنيوس»، فقد كان يشرح مذهب أفلاطون، ويؤول الأديان كاليهودية والمسيحية رمزيًا مع تلك الشروحات، وبرز أيضًا أحد الأفلاطونين في الاسكندرية، وهو «أمونيوس»، والذي لجأ إليه أفلوطين ولازمه احدى عشر عامًا. يعتبر أفلوطين أبرز المحدثين لفلسفة أفلاطون، مؤسس الأفلاطونيّة الحديثة، فقد وضع تصورًا روحيًا ودينيًا على أسس فلسفة المُثُل الأفلاطونيّة وتصور الخير والجمال، ويرتكز مذهب أفلوطين «نظرية الفيض»؛ على أن الله هو الواحد الذي يفيض منه كل الوجود، فكل صور الوجود تتبدى من خلاله، فهو الواحد الأول، الكامل؛ ولأنه كامل فإنه يفيض باستمرار ما هو أقل منه وقابل للتوليد أيضًا، ومن الواحد الأول يأتي العقل الكلي؛ أي كالمُثُل، الذي يولد النفس الكلية التي تشكل المادة والحياة، ومذهب أفلوطين في الوجود لا يجعل من الواحد أو العقل أو النفس ماهية وجوهر، متعين بل كمِثل الأقانيم لا تلتزم التعين أو حَمل صفات موجبة.
وأما بالحديث عن اللاهوت المسيحي وعلاقته بالفلسفة الإغريقية، والأفلاطونيّة خاصة، حيث؛ «إن الأفلاطونيّة جزء من البناء الحيوي للاهوت المسيحي»، فالدين المسيحي لم يأتي بفلسفة خاصة أو نسق لاهوتي خالص، فقد كانت في البدء ديانة ترتكز على الوعظ والإرشاد والاهتمام بعلاقة الانسان بالله، وحياته الخلقية التي تناسب رسالة المسيح في المحبة والإخاء والعاطفة، أما من جانب الحياة العقلية وتصور الله والكون، كنظر عقلي مثل العقل اليوناني، فلم تحمل بدايات المسيحية أي فلسفة عقلية خاصة، فلم تكن لها نزوع لكشف طبيعة الله، بل محاولة انقاذ الانسان من الخطيئة.
وتعتبر أول خطوات اللاهوت مع المسيحية، جاءت مع تدوين الإنجيل الرابع «يوحنا» الذي عبر عن ماهية المسيح بالكلمة أو اللوغوس، وقد ظهرت أول ملامح التأويل الفلسفي الأفلاطوني عند «القديس يوستينوس»، فقد تناسبت ثنائية العالم في الأفلاطونية، مع دعوة مملكة السماء في المسيحية، إذ هيمنت شروحات وكتب أفلاطون على عقول الأجيال الأولى من اللا هوتين، الذين نحو إلى الاهتمام بالتوفيق بين النظر العقلي الفلسفي والإيمان الديني، مثل القديس جوستين (103 – 167)م، فقد عنوا بالفلسفة ودراستها، والدفاع عنها أيضًا، فقد كان «كليمان الاسكندري» من أوائل المفكريين المسيحيين الذين دافعوا عن الفلسفة؛ فقال:
«إن الفلسفة هي العهد الخاص باليونان وأساس الدين المسيحي»
وتأثر كليمان بأفلاطون كثيرًا، إلي درجة أنه يراه ملهمًا من الله، ويُذكر أوريجن السكندري أيضًا، فهو معاصر لأفلوطين وتأثر مثله، بأمونيوس. وظلت الفلسفة الأفلاطونية تضفي رونقها حتى نضوج مذهب اللاهوت الكاثوليكي مع القديس أوغسطين (354-430)، الذي تأثر كثيرًا في بدايته بأفلوطين، وقد كان يعتبره تجلي ثاني لأفلاطون، ويغلب الجانب الفلسفي على فكر اوغسطين بشكل متأصل، فقد برع في بلورة ومعالجة الكثير من المسائل اللاهوتية «الله والنفس واليقين» التي شكلت فلسفة مسيحية. فضل أوغسطين أفلاطون وفسلفته عن باقي فلاسفة اليونان، فقد رأى أن؛ «عرف الأفلاطونين الله ووجدوا فيه علة الكون ونور الحقيقة وينبوع الغبطة والهناء»، فلقد كان ينبذ الرؤية المادية عند الإغريق، فقال:
«ليرحل طاليس عنّا بمائه، وانكسمانس بهوائه، والرواقين بنارهم، والابيقورين بذراتهم»
إذ أن أفلاطون عنده؛ يرى الله في صورة غير مادية، ولا يقتصر المعرفة على الحس، كما اتفق معه أن العالم الحسّي أدنى من العالم الأزلي المعقول، وبالرغم من تراجع موقفه في الإعجاب بالأفلاطونيّة في نهاية أيامه، إلا أنها تظل هي الينبوع الذي أثّر وشكّل الكثير من منهجه وفلسفته، فإذا كانت جمهورية أفلاطون هي تصوّر للمدينة الفاضلة «يوتوبيا»، فقد أعطى أوغسطين تصوّره أيضًا في قالب اليوتوبيا، في كتابه الأبرز؛ «مدينة الله» الذي جمع فيها بين مملكة الأرض والسماء كتصور المدينة المثالية. ولم تقف أعمال اليوتوبيا عند أوغسطين، فقد تأثر الفيلسوف المسلم «الفارابي» بأرسطو وأفلاطون، وقد كتب «المدينة الفاضلة»، حيث تصوّر أن الحاكم الفيسلوف عند أفلاطون، هو النبي الموحى إليه «محمد» في الإسلام. وفي القرن السادس عشر؛ تأثر توماس مور أيضًا بفكرة اليوتوبيا الأفلاطونيّة، وأخرج كتاب «يوتوبيا» على سلسلة من الحوارات التي تجسد فكر الإصلاح، في خضم جدل حركة الإصلاح الديني. وعرفت مؤلفات لاهوتية أفلاطونية عدة إلى القرن السادس؛ مثل مؤلفات أبروقلوس، وصوفية دونيسيوس.
ففي الشرق الإسلامي، مع حركات الترجمات للأعمال اليونانية من السريان منذ القرن الثامن الميلادي، تأثّر مفكري المسلمين بأرسطو وأفلاطون، وظهرت الشروحات والكتابات التي تعمل على توفيق بين الفلسفة والدين، وأخرين هم المتكلمون الذين أنشأوا أسس اللاهوت الإسلامي «علم الكلام»، وقد صبغت الأفلاطونية على العديد من الفلاسفة، مثل ما ذكرنا الفارابي، الذي تأثّر بنزوع الأفلاطونية الجديدة، في نظرية الفيض، فالله عنده هو الواحد الأول الذي يفيض عنه الكثرة، «فعن الله الواحد يصدر الكل، وعلمه وقدرته العظمى، ومن تعقله لنفسه يصدر العالم، (…) وعند الله، منذ الأزل، صور الأشياء ومُثُلها، ويفيض عنه منذ الأزل مثاله المسمى العقل الأول»، وخلف الفارابي في التأثر، بنواحي من الفلسفة الأفلاطونية، ابن سينا والسجستاني. ونزعت جماعة إخوان الصفا إلى الأخذ بالعديد من آراء أفلاطون ونظرية أفلوطين، ورياضيات فيثاغورس، إذ كانت جماعة سريّة، عملت على نشر رسائل في العلوم والفلسفة والدين ومجالات شتى، تعبر بها عن اتجاه دائرة معارف فلسفيّة، إذ تحاول بناء مذهب إنساني يستفيد من جلّ المعارف البشريّة، فكانت تعاليم إخوان الصفا هي فلسفة للدين، وتوفيق العلم والحياة، والفلسفة والدين، وقد تأثرت تصوراتهم عن الله والعالم بنظرة الفيص، وأن الكل صادر عن الله، العقل الفعال والنفس الكلية والمادة.
عصر النهضة والفلسفة الحديثة
مع عصر النهضة الذي امتاز بإحياء فنون وآداب العصر اليوناني والروماني «الحركة الأنَسِية»، وسيادة مذاهب الأرسطية والرشدية، ومعالجة العلم الطبيعي، تتجه الأفلاطونيّة لصورة أخرى من صور التصوف المسيحي، مع نيقولاس الكوزي (1401-1464) الذي ذهب إلى تصور معرفة أفلاطونية تكون بالإجمال فوق المحسوس والمعقول معًا، إلى هدف إدراك الأشياء عن طريق الحدس، فيبعد عن الاستدلال العقلي، ومبدأ عدم التناقض، إلى توافق الأضداد، فالكمال عنده؛ هو الوقوف عن التفكير «الجهل الحكيم»، «ومتى اعتبرنا الحركة كأنها سكونات متتالية، اتفقت مع السكون، وهكذا في جميع الأضداد»، فالله عنده هو حاوي كل شيء؛ «هو الأشياء جميعًا في حال الوحدة أو الانطواء، والعالم الأشياء جميعًا في حال الكثرة أو الانبساط»، فكل شيء إلى الله، العالم إلى الله، والإنسان بالمعرفة إلى الله، وبذلك أحدث نيقولاس تأويل أفلاطوني قائم على الإيمان الحدسي، واللاهوت السلبي الذي يرفض أي تعين لله أو تسميه له. واستمرت الروحانية الأفلاطونيّة ودمجها في المسيحية مع كتابات مرسيليو فتشينو، الذي قال: «إن الحاجة ماسة إلى دين فلسفي يستمع إليه الفلاسفة بقبول»، ومع روحانية «دي لا ميراندول» الذي مزج معالجة العلم الطبيعي بالأسرار الروحية، والتأويلات الرمزية والفلسفية للنصوص الدينية، واتسمت الأفلاطونيّة في عصر النهضة بالخفوت بالمقارنة بسيادة الأرسطوطاليسية في الهيمنة اللاهوتية، فكانت قد اتجهت الأفلاطونيّة اتجاه الباطنيّة الروحيّة، كما سلف من نماذج مقتضبة، ولم تخل النهضة من أثر مفكري الأفلاطونيّة، ففي ذروة كتاب الأمير لميكافيلي، قد ألف «جان بودان» كتاب بعنوان الجمهورية؛ «عارض فيه ميكافيلي بأفلاطون، أعلن أن سلطة الدولة تبقى خاضعة للقانون الطبيعي، وأنه ليس للدولة من غاية أخرى سوى الخير البشري الأعظم»، وتعددت تجليات الأفلاطونية في ايطاليا مع رجال النهضة مثل ج.برونو وكامبانيلا.
وتأسس نتاج عصر النهضة الإحيائي، إعادة طرح مباحث الفلسفة من جديد، فإنطلق عصر الفلسفة الحديث، وقد شُغل العقل الفلسفي في البداية بقضية المعرفة (الإبستمولوجي – epistemology) مع الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت»، وهذا ما يذكرنا، بأن أفلاطون هو أول فيلسوف وصل إلينا عنه بحثه في مسألة المعرفة لذاتها، فكانت أنواع المعرفة عنده أربعة؛ «الإحساس والظن والاستدلال والتعقل»، ومع تناحر اتجاهين رئيسيين حول نظرية المعرفة، هما؛ المذهب العقلي والمذهب التجريبي، حول مصدر المعرفة الرئيسي، إلا أن أبرز ما يمثل امتداد وتأثير جوهري في التصور الفلسفي، بعد نزع قبضة اللاهوت عن الفلسفة، هي مثالية أفلاطون؛ فيعتبر الأب الروحي للفلسفة المثالية برمتها، والمثالية كتعريف مبسط، هي التصور الذي يجعل من الفكر والعقل سابق على الواقع والمادة، أي أن العقل هو مصدر المعرفة.
وأشهر الفلسفات المثالية، كانت مع الأسقف جورج بيركلي (1728–1753)؛ الذي ذهب إلى إنكار الواقع الحسي، فما يُدرك هو التصورات والمعاني القائمة والنفس لا الأشياء، وما إدراكتنا لما حولنا إلا تمثلات ذهنية؛ فيقول: «إننا لا ندرك من المادة التي يفترضونها إلا مجموعة من التصورات الذهنية والظواهر الحسية»، ويرى أن الله هو من يبعث لنا تلك الإحساسات، وزاد على موقفه الشكي، الفيلسوف الاسكتلندي «ديفيد هيوم» فقد ذهب إلى الشك في النفس والله ومبدأ العلية.
ولم تقتصر الفسلفة المثالية على مذهب الإنكار الكامل للواقع الحسي، فقد تعددت مذاهب الفلسفة المثالية، فهناك مثالية نسبية؛ تقول بوجود حقيقة ومعرفة بشرية ولكنها نسبية، لا تخل من الرواسب الذاتية، فنجد؛ «إيمانويل كانط»؛ صاحب المذهب الفلسفي النقدي، يذهب لفسلفة مثالية متعالية، ترى أن المعرفة ترجع في النهاية إلى الفكر، لأننا لا يمكننا معرفة الشيء في ذاته. وأشهر مدارس المثالية، هي المثالية الألمانية، فبعد كانط؛ جاء هيغل، الذي يرى العقل الكلي هو الحقيقة والمطلق وأن المادة مجرد تجلي له لا غير، فالوعي سابق على المادة، وتبعه فيشته الذي اعتبر العقل جوهر الوجود، وسار على خطاه «شلنج».
وأما مثالية أفلاطون كما رأينا في نظرية المُثُل، هي مثالية واقعية؛ أي أنها لا تعني إنكار الحقائق الملموسة، فهناك حقيقة موضوعية للإدراك العقلي والحسّي معًا، لكنه يرى أن الإدراك العقلي أعلى من الحسّي، فالأشياء والموجودات ظلال وأشباح للمُثُل في الوجود العقلي. هكذا عاشت ملامح الفلسفة الأفلاطونيّة بتجلياتها في الفلسفة، ففي حين أصبحت مؤسسًة بيد اللاهوت الذي أحجم نطاق الميتافيزيقا، في العصر الوسيط، وتجلت في الاتجاهات الصوفيّة والحدسيّة في عصر النهضة، إلى الفلسفة الحديثة وتشاركها الجوهري حول التصور الأساسي للمعرفة، في تقديم العقل على المادة، وكونها تراث الفلسفة الأصيل.
مراجع:
[1]تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم
[2]تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم
[3]تاريخ الفلسفة،ج3، ج4، اميل برهييه
[4]تاريخ الفلسفة الغربية ج2، ج3، برتراند راسل
[5]الفلسفة المثالية، مجدي كامل
إعداد: عصام أسامة
تحرير: نسمة محمود