نقد الفلسفة الراديكالية والدفاع عنها: الماركسية الصينية أنموذجًا

Photo by Annie Spratt on Unsplash

يُناقش هذا المقال واحدًا من الانتقادات التي لطالما وُجِّهت للفلسفة الراديكالية، ألا وهو انفصالها الكبير عن الواقع والذي بدوره يحدُّ من وجود أي تطبيقات لها على أرض الواقع ويجعل نجاحها محدودًا. يَستخدم المقال الماركسية في الصين كدراسة حالةٍ للفلسفة الراديكالية والتي تدحض هذا الانتقاد، بالإضافة إلى توضيحٍ مُختلفِ المنظور لأسباب نعت الفلسفة الراديكالية بأنَّها منفصلة عن الواقع، ذلك المنظور الذي يساعد أيضًا في توضيح عدم نجاح الماركسية في الغرب على سبيل المثال حيثُ نشأت.

تعريف الفلسفة الراديكالية

يبدأ جيف نونان (Jeff Noonan) حديثه عن الفلسفة الراديكالية بتعريف الفلسفة، حيث يقول نونان: «إذا عرَّفنا بالفلسفة ليس طبقًا لعلم أصول الكلمات (etymology) الذي تعني طبقًا له «حب المعرفة» بل طبقًا لممارساتها المُميِّزة -أي الاستجواب الجوهري عن الظواهر الطبيعية والاجتماعية في البحث عن تأسيس افتراضات واعتقادات ومبادئ- فإنَّ تعريفها بالمتطرفة يبدو بلا طائل. تقصِّي الظواهر للوصول إلى أصل الأمر هو مرادف للراديكالية. طبقًا لهذا، فكلُّ الفلسفة الحقيقية هي راديكالية. في هذا السياق العام فالفلسفة الراديكالية غير ملتزمة بأي برنامج سياسي، بل تظهر من حرية الشعور بالذات الإنساني في علاقته بالعوالم الطبيعية والاجتماعية التي يسكنها ويواجهها».

يستخدم نونان تعريف الفلسفة في استنباط تعريفٍ للفلسفة الراديكالية انطلاقًا مما سمَّاه “حرية الشعور بالذات”والتي “تواجه في ممارستها عوائق تسعى لمنعها من استجواب “أسس المبادئ الضمنية” لنمط متين من الحياة[1]. تتطوَّر في هذه اللحظة فلسفة راديكالية من نوع آخر، أكثر تحديدًا وصلابة، وعلامته الفارقة هي علاقة غير نمطيةٍ ما بين النظرية والتطبيق. تلك العلاقة عُرِّفت ربما للمرة الأولى من قبل كارل ماركس”.

يعرِّف نونان بوجهة نظر ماركس عن أنَّ «العمل التصوري للاستجواب الفلسفي هو قيِّم فقط إذا كان أداة مُساهِمة في الهدف السياسي المتمثل في الثورة الاجتماعية؛ بحيث تصبح النظرية وسيلة إرغام… بمجرد استحواذها على الجماهير. النظرية قادرة على استحواذ المفاهيم بمجرد أن… تصبح راديكالية. أن تكون راديكالية يعني أن تستحوذ على أصل الأمر. لكن للإنسان أصل الأمر هو الإنسان نفسه»[2].

يستطرد نونان بقوله: «عندما يقول ماركس أن أصل مشكلة الإنسانية هو الإنسانية نفسُها فهو لا يعني بذلك أنَّ حلَّ المشاكل الجوهرية يكمن في تعريف الطبيعة البشرية تعريفًا صحيحًا بتجريدٍ من التصرف الاجتماعي والتفاعل والمؤسسات. عوضًا عن ذلك يعني ماركس أنَّ تغيراتٍ في التنظيم الاجتماعي هي المفتاح لحل كلِّ مشاكل الإنسان، لأنَّ مشاكل الإنسان كلها نابعة من أنماط التصرف الاجتماعي والتفاعل، وإضفاء الصفة المؤسسية على تلك الأنماط. لأجل ذلك، يجب على الفلسفة أن تصبح أداة للتحوُّل الاجتماعي، وهي تقوم بذلك عبر استمداد حُجَجِها ونقدها ومثالياتها من ديناميكيات التطور التاريخي».

يُلخِّص ماركس: «وظيفة الفلسفة… بمجرد أن يختفي عالم ما وراء الحقيقة… هي إنشاء حقيقة هذا العالم. المهمة الملحة للفلسفة -والتي هي في خدمة التاريخ- في لحظة كشف القناع عن التباعد الذاتي في صورته المقدسة هي كشف القناع عن التباعد الذاتي في صوره السافرة»[3]. بالنسبة لماركس، الهدف النهائي الفلسفة الراديكالية هو حل المشاكل الجوهرية للمجتمع الإنساني والتي تظهر على السطح والتي استدعيت كصورة للممارسة النقدية. على الرغم من ذلك، لا يمكن أبدًا محو الفلسفة الراديكالية من النوع الأعم، لأن أيَّ تغيير اجتماعي لا يمكنه محو حرية الوعي الذاتي وعلاقته بالواقع الطبيعي والاجتماعي.

بالنسبة لنونان فإن الاستجواب الفلسفي هو سلاحٌ ذو حدين، حيث إنه يعمل «كحصن ضد الدوغماتية» ولكنَّه في نفس الوقت يحمل في طياته خطر «أنَّ تصبح ممارسة الاستجواب الجوهري منفصلة تمامًا من مشاكل التحول الاجتماعي الواقعية وتتحول لتصبح نقدًا ذاتيًا سطحيًا وإحالة ذاتية غير عملية (academic self-referentiality) وانشقاقًا مفاهيميًا .(conceptual hair-splitting) بمجرد أن تصبح ممارسة الفلسفة الراديكالية إحالة ذاتية بهذه الطريقة الجدلية الملتبسة، يصبح من السهل اعتبار نقد الفلسفة بالخطأ نقدًا للعالم. يتم استرجاع صورة الفلسفة الراديكالية -أي التشكيك الجوهري- لكن بدون جوهرها. جوهر الفلسفة الراديكالية ملتزم بصنع صور للفهم والعلاقة الاجتماعية والتي تسمح بأوسع ما يمكن من التعبير والاستمتاع بقيمة الحياة…».

انعزال الفلسفة الراديكالية عن الحياة

يُجادل سين سايرس في مقالته «نحو فلسفة راديكالية» أنَّ سبب ما تعانيه الفلسفة الراديكالية أحيانَا من انعزال أو انفصال عن الواقع هو ليس إلَّا «الجانب التطبيقي لنظرية أن الفلسفة ممارسة فكرية معزولة وحصرية، أنَّها «مادة أكاديمية منفصلة». صورة المجال العلمي الظاهرة في هذا التقرير هي صورة جوهر الأكاديمية (academism)، هي أيدولوجيا الأكاديميا. هذا الفصل من وجهة نظره هو «نِتَاج تمهين التعليم والذي حدث على مدار المئة عام الماضية في إطار من البيروقراطية المتزايدة في تركيب أقسام الجامعات. تمامًا كما تمَّ تقسيم العلم نظريًا ما بين «المواد» المتنوعة، تمَّ أيضًا توزيع تطبيقاتهم وممارساتهم العملية على أقسام الجامعات المتنوعة».

رأي سايرس أنَّ هذه الأيديولوجية -المتمثلة في الفلسفة الأكاديمية- قد حَصَرت نفسها في نطاقٍ شديد الضيق مما أثر عليها -وعلى الفلسفة كلها- بالسلب. ذلك الحصر أدَّى بدوره إلى ظهور «تناقض واضح… بين فلسفة المتخصصين ضيقة الأفق والمبهمة والميتة، وما بين ضرورة وبقاء المناظرات الفلسفية وأهمية الفكر الفلسفي الذي صعد خارج إطار عالم الفلسفة الأكاديمية وفي إطار الحركة الراديكالية في مناحي مختلفة من الدراسة، بشكل خاص في الفلسفة و «العلوم الإنسانية» الأخرى». يرى سايرس أنَّ الفلاسفة البريطانيين الحديثين -في وقت كتابته لمقاله- قد تخلَّوا عن «محاولة المواجهة بجدية أو التفكير عبرَ المشاكل النظرية والتطبيقية التي يواجهونها هم ومجتمعاتهم».

وجود الفلاسفة الأكاديميين قد زاد من تفاقم الأمر؛ لكونه قد وفَّر مبررًا للتجاهل الممنهج لأعمال قيمةٍ في مجال الفلسفة الراديكالية مثل الماركسية وتحليلها النفسي. يضيف سايرس: «ردُّ مهنة الفلسفة على حركة الفلسفة الراديكالية كان في أغلبه في صورتين: إما انعدام الاهتمام أو المعاداة الواضحة. تمَّت محاولة نبذ معارك الفلسفة الراديكالية ضد الأكاديميا كصورةٍ لما هو نزعة سائدة معادية للفكر ووضع رومانسي للثقة في المشاعر بدلًا مِن الفكر».

يُدافع سايرس عن الفلسفة الراديكالية والاتهامات الموجهة لها بكونها معادية للفكر وينعت تلك الاتهامات بالجهل، ثم يستطرد: «قول هذا يعني رفض النزعة المعادية للفكر و«القتالية الطائشة» (mindless militancy)، ويعني أيضًا رفض الأكاديميا المفلسة لكثير من الفلاسفة البريطانيين الحديثين، والتي فشلت في إظهار القيمة الاجتماعية المُمكنة للفلسفة، والتي هي مسؤولة عن العمى الحاليِّ عن قيمة الفكر الذكي».

عوامل نجاح الماركسية في الصين

يُرجع بين يو نجاح الماركسية في الصين إلى عاملٍ أساسي هو وجود تشابه ما بين الفكر الماركسي وما أسماه «الروح الصينية القديمة». تلك الروح تمتلك عدة نقاط تلاقٍ مع الماركسية، مما يسَّر نشر الماركسية بسلاسة وسط الشعب الصيني. يندرج تحت هذا العامل بضع نقاط، منها أنَّه «في التاريخ الصيني، كلما اتَّسعت الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء، كان دائمًا ما يظهر ما سمَّاه كونفوشيوس «القلق على اللا مساواة بدلًا من الاحتياج» على الرغم من الاختلافات الطبقية في المجتمع الصيني القديم، إلا أنَّ الروح الصينية التقليدية لديها ميل طبيعي ناحية الحرية والمساواة والحب العالمي، وهو ما يمكن رؤيته في بعض الأفكار عديمة الطبقية مثل «الناس أكثر أهمية من الحاكم» و«هل يولد أي أحدٍ ملكًا أو دوقًا أو جنرالًا أو وزيرًا؟».

بالإضافة إلى ذلك، فإن «سان ياتسين -قائد الثورة الصينية البرجوازية- شَدد أيضًا على أهمية «تنظيم رأس المال». هذه الروح التقليدية تجعل من الأسهل للشعب الصيني الوثب على المعركة الملحمية لتقبل وممارسة الملكية العامة التي تدعو إليها الماركسية»؛ ويظهر من هذا أن عددًا من أفكار الماركسية كان موجودًا بالفعل في التقاليد الصينية، وأنَّ تطوُّر تاريخها يتماشى في معظمه مع التطور التاريخي الذي تحدث عنه ماركس؛ ومن أجل كل هذه الأسباب فإن حالة الصين يُمكن اعتبارها من الحالات الأكثر نجاحًا في تطبيق الماركسية.

وجه تشابهٍ آخر ما بين الثقافة الصينية والماركسية هو نظرتها للحياة الأخرى والحياة الدنيا. على عكس الميثولوجيا الغربية التي تُقرر أنَّ قدَر الشخص محتوم وأنَّ الجزاء يأتي في الحياة الأخرى، تُقرِّ الميثولوجيا الصينية أنَّ قَدَر الفرد يمكن تغييره ويتغير بمحاولاته، وتؤكد «الروح الصينية القديمة فكرة أنَّ «السماوات تساعد من يساعدون أنفسهم»، وأنَّ «الناس يساعدون أولئك الذين يساعدون أنفسهم». هذا يعني أنَّ الشعب الصيني لا ينتظر بشكلٍ سلبي التطور العفوي للتاريخ، بل يجدون بإمكانهم دفع التاريخ إلى الأمام تحت إرشاد الماركسية بغرض تحقيق الإحياء العظيم للأمة الصينية».

بالإشارة إلى حجة سايرس السابق ذكرها، فإنَّ عاملًا آخر لنجاح تطبيق الماركسية هو ما قام به المفكرون الصينيون القدماء من تركيزٍ «على وحدة المعرفة والممارسة» والتي بدورها بطريقة ما تُماثل مُقترح ماركس وتحدَّ من المشكلة الموجودة في المناخ الفلسفي البريطاني على سبيل المثال والذي تحدث عنه سايرس؛ أي أنَّ الانفصال ما بين الفلسفة الراديكالية والفلسفة الأكاديمية/المهنية هو أقل تفشِّيًا في الصين عما هو في الغرب.

نقطة أخرى ترسم تلاقيًا بين حجة سايرس ويو تتعلق بدور الفيلسوف أو ما أسماه يو المثقف، في حين أنَّ الفلاسفة في بريطانيا في أواخر القرن العشرين كانوا قد تخلوا عن دورهم في إحياء النقاش الفلسفي في المجتمع، اختلف المثقفون العظماء في الصين القديمة «ولطالما حاولوا تعليم الناس فكرة أنَّ «نهوض الدولة أو سقوطها هو أمر يُعنى به الجميع». على غرار الروح الصينية القديمة التي تتضمن حسًا قويًا بالمسؤولية، فإنَّ الحزب الشيوعي الصيني يشدِّد التركيز على الروح المُبتكرة لدى جموع الناس»؛ كما أنَّه في الحضارة الصينية القديمة «هدف المثقف هو صقل النفس الأخلاقية، واستحضار التناغم في العائلة، وحكم الدولة بالطريقة الصحيحة، وبالتبعية استحضار السلام إلى العالم كله».

مصادر وهوامش
[1] ماكمارتري 1981، 139
[2] ماركس 1975، 182
[3] ماركس 1975، 176
 Noonan, J. (2014). Radical Philosophy and Social Criticism. International Critical Thought, (4),1. 10-20. DOI: 10.1080/21598282.2014.878143
Yu, B. (2019). Why Has Marxism, Which Originated in the West, Succeeded in China?. International Critical Thought, (9),4. 562-580. DOI: 10.1080/21598282.2019.1697849
Sayers, S. (1972). Towards a Radical Philosophy. Cambridge Review, 98 (2209).13. Retrieved from http://seansayers.com/wp-content/uploads/2018/04/towards-a-rp-camb-rev-oct-1972.pdf
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي