المنهج عند ديكارت

ديكارت

تميّز القرن السابع عشر بميزة هامة؛ ألا وهي عناية المفكرين بضرورة المنهج أو الطريقة الواجب اتباعها عند النظر في المسائل العقلية. لذلك تجد الكتب التي تتناول هذه القضية كثيرة في هذه الفترة، بدءا بكتاب «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون Francis Bacon. وأصبح ديكارت René Descartes، مثل بيكون، مقتنعا بأن ما ينقص الفلسفة هو صياغة منهجٍ جديدٍ دقيقٍ ومثمر. بَيْد أن ديكارت كان على العكس من فرانسيس بيكون، فقد كان رياضيا ومكتشفا للهندسة التحليلية؛ ولذلك فهم المناهج التي يستخدمها الرياضيون وعلماء الطبيعة على نحو أفضل، فانتهى إلى إمكان ابتكار منهجٍ للفلسفة يشبه المنهج الذي يستخدمه في الهندسة بنجاح.

وفي هذا العصر أيضا نشر (سبينوزا) رسالته في «إصلاح الذهن»، كما نشر (مالبرانش) كتاب «البحث عن الحقيقة»، ثم كتب (لبينتز) مصنفا من عدة رسائل نجد فيها لفظة «المنهج» كثيرا. كان أول ما يلزم من أدوات التفلسف عند ديكارت إذن هو الشعور بضرورة «المنهج»، غير أنه لم يرضَ عن منهج الفلسفة الكلامية أو فلسفة المدرسيّين، والتي هي على العموم الفلسفة التي كانت سائدة طوال القرون الوسطى وأخذت صورتها النهائية في مذهب «توما الأكويني»، فهذه الفلسفة على حد تعبير ديكارت: عبارة عن محاولة حل المشاكل الفلسفية أو العلمية بذكر طائفة من أقوال المؤلفين السابقين، سواء كانوا معروفين أو غير معروفين، بدلا من الإقدام على معالجة المشكلة نفسها، ثم بعد الشعور بضرورة «المنهج»، إيجاد هذا المنهج المأمول بالفعل ومن ثمّ تطبيقه على النظر والعمل. فيقول ديكارت في كتاب «قواعد لهداية العقل»: «أنا أعني بالمنهج قواعد مؤكدة بسيطة، إذا راعاها الإنسان مراعاة دقيقة كان في مأمن من أن يَحسِب صوابا ما هو خطأ، واستطاع دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة – بل بالعكس، مع ازدياد علمه زيادة مطردة – أن يصل بذهنه إلى اليقين في جميع ما يستطيع معرفته.

كان ديكارت يرى «أن العقل السليم أعدل الأشياء قسمة بين الناس». غير أنه كان قد خطر على باله أيضا أن العمل الذي يشترك في أدائه كثيرون يجيء غالبا أقل كمالا من العمل الذي يقوم به رجل واحد، وكذلك الحال في نقص معارفنا وعلومنا؛ فمنشأ ما بها من عيوب هو كثرة المعلمين الذين نتلقّى عنهم، فضلا عن تفرقهم في النظر. لذلك كان من الخطأ في نظر ديكارت أن تُدرس العلوم متفرقةً متباعدة، وذلك لأن العلوم متآزرةٌ متعاونة. وإذا ما تقرر أن الحكمة البشرية واحدة – ويعنى ذلك أنه ليس هنالك إلا ذهنٌ بشريٌ واحد وعقلٌ واحد عند ديكارت بطبيعة الحال – لم يصح إذن أن يكون هنالك إلا علمٌ يقيني واحد ومنهج واحد لبلوغ الحقيقة في مختلف الأمور.

لكن السؤال: أين نجد ذلك العلم أو ذاك المنهج الواحد؟
يجيب ديكارت: «ليست تُجدينا الدراسات التي لا نكتسب منها إلا أراءً محتملة، والجهل التام خير من المعرفة المزعزعة المضطربة. ولا يكون العلم علما إلا إذا كان يقينيا؛ لأن العلم معناه البداهة واليقين لا الإرجاف والتخمين». ونموذج تلك البداهة وذلك اليقين هو العلم الرياضي بكل تأكيد؛ فالمنهج المطلوب إذن هو المنهج الرياضي، فهو منهج طبيعي للفكر. ونجاح العلوم الرياضية وتفوقها على غيرها ناشئ من أن موضوعاتها بسيطة، وأن العقل البشري قد أنشأها مقتبسا إياها من ذاته دون أن يدين للتجربة بشيء. لكن ومع ذلك، لم يكن قصد ديكارت هو تعلم الرياضة لذاتها أو لإيجاد خصائص أعداد عقيمة وأشكال وهمية، بل يرى دراستها لتعويد الذهن على مناهج وطرائق ينبغي أن تتسع وتمتد إلى أشياء أكبر أهمية وأعلى قيمة، وذلك يعني أنّ الرياضيات عند ديكارت هي ثمرة المنهج، وليست المنهج ذاته. ولم يكن يقصد أيضا منهجا يقتصر تطبيقُه على علم واحد، هو علم الرياضة، بل أراد منهجا عاما يمكن تطبيقه على العلوم جميعا، وهذا ما يدل عليه عنوان كتابه: «المقال في المنهج لأحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم».

• أُسُس المنهج الديكارتي:
لكي نستطيع أن نضفي على أي علم يقينا يعدل يقين علم الحساب أو علم الهندسة؛ يتحتم علينا حينئذ ألا نشتغل إلا بالمعاني «الواضحة» و«المتميزة»، وهي التي مضمونها بديهي تام البداهة، وأن نرتب جميع معانينا ثم ننظمها في نسق خاص، بحيث يكون كل معنى منها مسبوقا بجميع المعاني التى يستند إليها.

لكن كيف يمكن للفيلسوف أثناء بحثه بلوغُ «البداهة» الرياضية؟
يجب أن يمهد لذلك بعدة أمور: طرح الأفكار الصادرة عن السلطات أيا كانت (فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية)؛ لأنها في غالب الأمر من أشد الأفكار ميلا مع الهوى. ثم هجران الأفكار التي تصفق لها الجماهير، لأن «إجماع الكثرة من الناس لا ينهض دليلا يُعتد به لإثبات الحقائق التي يكون اكتشافها عسيرا». وننحي جانبا كذلك شهادة التجربة الحسية، وذلك «لأنها في الأغلب خداعة. وإذا أمكن أن تخدعنا حِينا، فمن الممكن أن تخدعنا دائما، مادمنا لا نجد لها ضابطا يوثق به». وأن نطرح أيضا في سبيل الوصول إلى «البداهة» الرياضية تلك الطرق المعهودة في مطنق (أرسطو) التي لا تصنع شيئا سوى عرقلة حركة الذهن الطبيعية. فعلينا، إذا ما أردنا بلوغ «البداهة» الرياضية، استبعاد:
1. آراء ذوي السلطة، ولا سيما سلطة القدماء.
2. تجنب الأفكار المشهورة.
3. شهادة الحواس الخداعة.
4. طرائق الأقيسة القديمة العقيمة.

ثم بعد ذلك لم يبقَ لبلوغ «البداهة» عند ديكارت إلا أن نستخدم طرائق العلميّين الرياضيّين: «الحدس» و«الاستنباط» اللذان يقر جميع الناس بما لهما من متانة وإحكام. يقول ديكارت في «قواعد لهداية العقل»: «جميع الأفعال التي نستطيع بها أن نصل إلى معرفة الأشياء دون أن نخشى الزلل تتلخّص في فعلين اثنين، هما: الحدس والاستنباط».

1. الحدس:
الحدس عند ديكارت هو الرؤية العقلية المباشرة التي يدرِك بها الذهنُ بعضَ الحقائق التي تُذعِن لها النفس وتوقن بها يقينا لا سبيل إلى دفعه. فالحدس نظرة عقلية بلغت من الوضوح والتمييز أن زال معها كلُّ شك، لأن ذلك الفعل عقليٌّ؛ أي غير متعلق بالحواس ولا بالخيال، وإنما يختص بالذهن، بل الذهن الخالص. وفي ذلك يقول ديكارت: «أقصد بالحدس، لا شهادة الحواس ولا الحكم الخدّاع وحكم الخيال، وإنما أقصد به الفكرة المتينة التي تقوم في ذهنٍ خالص منتبه، وتصدر عن نور العقل وحدِه». فبالحدس؛ كل واحد بمستطاعه أن يعلم أنه موجود بالضرورة لأنه يفكر، وأن المثلث شكل محدود بثلاثة أضلاع، وأن المساويَيْن في كل منهما لثالث متساويان، وأن الكل أكبر من الجزء، وأن كل جسم مادي له شكل وحجم ووزن … إلخ.

وهذا «الحدس» يُفهم بتمامه في زمان واحد لا على التعاقب، أو ليس فيه تفكر أو زمن. لذلك يقابل ديكارت بين «الحدس» و«الاستنباط» الذي لا يتم بتمامه في زمان واحد؛ بل يقتضي حركة من حركات الذهن، إذ يُستنتَج من شيءٍ آخر. فالحدس لبساطته نستطيع أن نركن إليه بفضل ما فيه من بداهة ذاتية؛ لذلك سَمى ديكارت الحدس: «نُورا فطريا» أو «غريزة عقلية». بَيْد أن الحدس عند ديكارت غير مقتصرٍ على المعاني والأفكار، بل يتناول حقائق لا سبيل إلى الشك فيها، كما يتناول «الطبائع البسيطة» أو الخواص الطبيعية المجردة التي لبساطتها تدرَك إدراكا مباشرا بالذهن، مثل: الوجود والوحدة والامتداد والحركة والشكل والزمان والمكان، وغير ذلك من أفعال المعرفة، والشك، والإرادة … إلخ.

2. الاستنباط:
الوسيلة الثانية لبلوغ «البداهة» أو اليقين الرياضي. وهو قوة نفهم بها حقيقةً من الحقائق على أنها نتيجةٌ لأخرى؛ أو عملية تنتقل من الواحد إلى الآخر، أو من حد إلى الحد الذي يليه؛ أو الذي يلزم عنه مباشرة وضرورة.

• قواعد المنهج الديكارتي:
كان ديكارت قد جمع تقريبا عام 1628 مجموعةً كبيرةً من القواعد والأحكام التي رأى وجوب مراعاتها في كل بحث علمي. غير أن كتاب «قواعد لهداية العقل» إنما يذكر إحدى وعشرين قاعدة، ومعروف أن ديكارت ترك الكتاب دون إتمامه، ولو كان أتمّه لبلغ فيه ستًّا وثلاثين قاعدة. لكن ديكارت قد رأى حين كتب «المقال في المنهج» وجوبَ الاختصار؛ ولذلك عدل عن ذلك الكم الكبير من القواعد، لما قد يحمل إليه من تعقيد قد يحث له، كما حدث مع المنطق الأرسطي القديم الذي صَدّ الناس عن دراستِه كثرةُ ما فيه من قواعد. ومن أجل ذلك اكتفى ديكارت بذكر أربعة قواعد بسّطها في «المقال في المنهج»، والقاعدة الأولى متصلةٌ اتصالٍ مباشرٍ بـ«الحدس»، والثلاثُ الأُخر مُتصلةٌ بـ«الاستنباط». والغرض من هذه القواعد تِبيان النهج الذي يجب على الذهن أن يعمل به حين يفكر تفكيرا رياضيا: ألا وهي:

– القاعدة الأولى : «ألّا أتلقى على الإطلاق شيئا على أنه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك. بمعنى أن أبذل الجهد في اجتناب التعجل وعدم التشبث بالأحكام السابقة، وأن لا أُدخِل في أحكامي إلا ما يتمثل لعقلي في وضوحٍ وتميزٍ يزول معهما كلُّ شك».
– القاعدة الثانية : «أن أقسّم كل واحدة من المعضلات التي أبحثها ما استطعت إلى القسمة سبيلا، وبمقدار ما تدعو الحاجة إلى حلِّها على أحسن الوجوه».
– القاعدة الثالثة: «أن أرتب أفكاري؛ فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة، وأتدرج رويدا رويدا حتى أصل إلى معرفةٍ أكثرها تعقيدا. بل وأن أفرض ترتيبا بين الأمور التي لا يسبق بعضُها بعضًا بالطبع».
– القاعدة الرابعة : «أن أعمل في جميع الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الوافية ما يجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا يتصل بالمشكلة المعروضة للبحث».

القاعدة الأولى من قواعد المنهج تلخص «الثورة الديكارتية» حسبما يرى (دلبوس) في كتاب «أشخاص الفلاسفة ومذاهبهم». والمعنى الكامن الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة من القاعدة الأولى؛ هو وجوب التحرر من كل سلطة إلا سلطة العقل، وتجنب التسرع في الأحكام، كما يجب الإذعان فقط إلى سلطان البداهة. والبداهة عند ديكارت كما قلنا هي البداهة العقلية، وليست البداهة الحسية لأن الحواس خداعة. بالإضافة إلى وجوب وضوح الفكرة، ويعني ديكارت بالواضحة: أي الفكرة الحاضرة المتجلية لذهنٍ منتبه. أما «تميز» الفكرة فهو اشتمالها على جميع العناصر التي تخصها هي فقط، وعدم اشتمالها على أي عنصر لا يخصها.

القاعدة الثانية هي قاعدة «التحليل»؛ وهو عبارة عن الذهاب من المُركب إلى البسيط، ومن الكل إلى الأجزاء. فكل بحث يتضمن مشكلة أو معضلة يُطلب تفسيرها أو حلها، ومن أجل ذلك وجب تقسيم تلك المشكلة أقساما كثيرة بقدر ما يلزم لإزالة اللبس والغموض الذي فيها، وذلك بتقسيم المشكلة إلى مشكلات أبسط منها، وهذه الأخيرة بدورها إلى أبسط منها، حتى نصل إلى المعاني البسيطة التي لا تقبل القسمة ويُعتمد عليها في المجموع.

أما القاعدة الثالثة فتُعرف بقاعدة «التركيب» أو «التأليف»، وهو بمنزلة اختبار عكسي، يدلنا على مبلغ الصحة في التحليل الذي أجريناه في المرحلة السابقة، فنسير من البسيط إلى المعقد ومن الصعب إلى السهل متتبعين ترتيبا منطقيا. غير أن ما يفوق «التأليف» أهميةً هو «الترتيب» المنطقي الذي تنتظم فيه القضايا، فيقول ديكارت: «الترتيب يتمثل في الأشياء التي تُعرَض أولا، والتي يجب أن تكون معروفةً دون معونة الأشياء التي تليها، والأشياء التالية يجب أن تُرتَّب بحيث يكون إثباتها بالأشياء التى تسبقها».

القاعدة الرابعة تُعرَف بـ«الإحصاء التام» أو «الاستقراء الشامل»، وذلك أنه يجب علينا الاستوثاق من أننا لم نغفل أيَّ جزء من أجزاء المشكلة التى نحن بصدد حلها، وأن نستعرض جميع استدلاتنا بحركة موصولة غير مقطوعة. أو بعبارة أخرى، أن الغاية المُتوخاة من هذه القاعدة هي النظر مَليًّا في كل الحدود التي تؤلِّف موضوعَ المشكلة.

بقيَ في موضوع «المنهج» عند ديكارت جزئيةُ «الشك المنهجي» لديه، ولهذا مقالٌ آخر على حدة، ألا وهو موضوع المقال القادم.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي