كانت الميتافيزيقا عند ديكارت بمثابة الجذر في شجرة العلم. بل هي علم العلل الأولى أو علم المبادئ والأصول. وهي بالإجمال العلم بالله؛ فالله عند ديكارت هو أساس كل وجود وأساس كل يقين، والله هو العلة التامة لكل ما هو موجود؛ لأنّ الله وحده كامل الحكمة، ولديه معرفة تامة بحقائق الأشياء جميعًا. غير أنه ينبغي علينا أولاً أنْ نبحث في كيفية ارتقاء الذهن من معرفة النفس إلى معرفة الله، وذلك قبل أنْ نرى كيف أنّ وجود الله هو أساس وجود النفس وأساس كل ما هو موجود، ففي معرفة الله ضمانًا لصحة أفكارنا وحقائق علومنا. فما دام الله خيرًا، فهو لن يفعل مثلما يفعل ذلك الشيطان الخبيث الخداع الماكر، وحين نتيقن من وجود الله يأتي الباقي في يسر.
بدأ ديكارت بدراسة النفس، وهي الأولى في نطاق المعرفة. وانطلق من النفس إلى معرفة الله، وهي الأولى في نطاق الوجود، ومن الله إلى العالم. فهناك إذن على قمة الكون الديكارتي إله حقيقي، بأعلى صورة ممكنة، هو مصدر كل خير، ومصدر كل قيمة، ومصدر كل حقيقة. يقول “إميل برهييه ” في “تاريخ الفلسفة”: «إنّ الميتافيزيقا الديكارتية تندرج من الشك إلى اليقين، أو من حكم أول يقيني هو “الكوجيتو” إلى أحكام يقينية أخرى تزداد عددًا». ويتم ذلك التدرج على مراحل أهمها ثلاث:
1. من الشك إلى اليقين.
2. من النفس إلى الله.
3. من الله إلى العالم.
لكن ما هي أدلة ديكارت على وجود النفس وإثبات التمايز الحاصل بينها وبين البدن؟
نجد ذلك في ثنائية ديكارت «Dualism». فيستنتج ديكارت من مبدئه الذي توصل إليه «أنا أفكر؛ إذن فأنا موجود»، إنّ النفس شيء، والجسد شيء آخر. كان ديكارت يرى أنّ لكل منهما (النفس- والبدن) جوهرًا خاصًا مستقلاً عن الآخر ومغاير له. والنفس جوهر ماهيته فكر. والبدن جوهر ماهيته امتداد. ويتخذ هذا الجسم شكلاً معينًا ووضعًا محددًا كسائر أجزاء العالم المادي الذي تحكمه قوانين الطبيعة. ولقد جاء ديكارت بأدلة ثلاثة لإثبات هذا التمايز الحاصل بينهما على النحو التالي:
1. دليل الأنّية
كان ديكارت يرى في كتاب “مبادئ الفلسفة ” و”التأملات” أنه بمستطاعنا أنْ نتخيل أنه لا جسم لنا وحتى لا وجود للعالم الخارجي من أرض وسماء وهواء وشجر وما إلى ذلك. أو بعبارة أخرى، إنه ليمكننا أنْ نتغافل أو نتجاهل كل ما هو مادي حسي، غير أنه لا يمكننا بتاتًا أنْ نتجاهل وجودنا كنفس مفكرة «Res cogitnas»، ولا يتطرق الشك إلى هذه القضية بتاتًا؛ فالفكر متميز عن البدن الخاص وعن الأجسام عمومًا، بل إنّ وجود الفكر أشد وثوقًا وثبوتًا من وجود الجسم، فإني أعرف الفكر بالفكر نفسه، أما الأجسام فلست بمستطيع إدراكها إلا في الفكر وبالفكر. فمعرفتي بالنفس معرفة مباشرة يقينية، وليس الجسم يعرف إلا بالظن والتخمين. فأنا إذن حين أدرك نفسي كمفكر، وكمفكر بالفعل، أدرك حقًا وجودي؛ بل أدرك زيادة عن ذلك “أنيتي” كلها في طبيعتها وماهيتها. والواقع أنه لا يخص “أنيتي” إلا ما هو موجود بمقتضى فعل “الكوجيتو”.
2. دليل وحدة النفس وعدم قابليتها للتقسيم
ومحور هذا الدليل أنّ البدن ككل الأجسام قابل للقسمة؛ فهو يتألف أساسًا من أجزاء عديدة متنوعة ظاهرة للعيان، فأجزاء الجسم: ذراعان، يدان، عينان وما إلى ذلك. وإذا ما فقد الإنسان أي جزء من هذه الأجزاء كبتر اليدين مثلاً أو الرجليين، فيظل الفرد حيًا مع ذلك، ويبقى موجودًا كإنسان من حيث النفس، له ماهيته وله “أنيته”. بيد أنّ الأمر في حالة النفس مختلف كل الاختلاف. فالنفس وحدة واحدة غير قابلة للقسمة أو التجزئة، والأنا واحدة في الإنسان متعدد نشاطها؛ فإذا ما قلت: أنا أضحك، أكتب، أبكي، أقرأ، أمشي… إلــخ. فلا يعني ذلك أنّ النفس التي تضحك غير النفس التي تبكي، بل هي نفسها. من نافلة القول هنا أنْ نقول أنّ “ابن سينا” كان يقول كلامًا قريبًا من ذلك، فكان يرى النفس تتبدى واحدة، بالرغم من أنّ لها قوى مختلفة، كالغضبية والشهوانية… إلــخ. فيقول ابن سينا في كتاب “النجاة”: «إنّ النفس ذات واحدة ولها قوى كثيرة، ولو كانت قوى النفس لا تجتمع عند ذات واحدة، بل يكون للحس مبدأ على حدة، وللغضب مبدأ على حدة، ولكل واحد من الأخرى- قوى النفس- مبدأ على حدة». غير أنّ ديفيد هيوم كان يرى عكس ذلك، فقد أنكر وجود النفس تمامًا أو الروح أو الذات الواحدة الدائمة البسيطة، التي تؤلف ماهية الإنسان، لأننا لا نحس بوجودها مباشرة، لا عن طريق الحواس المباشرة ولا عن طريق الحواس الباطنة. فهكذا كان ديفيد هيوم لا يرى أنْ يكون هنالك شيء واحد متصل اسمه “نفس”، وكل ما يراه هو أنّ الإنسان عبارة عن مجموعة من الإدراكات المتعاقبة باستمرار.
3. إدراك النفس للمعقولات البسيطة
وفحوى هذا الدليل عند ديكارت، أنّ النفس تتعقل بالفطرة. فهناك مبادئ أولية بسيطة، لا تنحل إلى أجزاء أكثر منها بساطة، ولا تتمظهر في شكل مادي أو أية صورة. ومن الطبيعي أنْ تكون النفس والحال هكذا حاملة لهذه البسائط، أنْ تكون بسيطة غير قابلة للقسمة.
أدلة وجود الله
هو اليقين الثاني، واستخدم ديكارت للبرهنة على وجود الله منهجًا مغايرًا عن مناهج الفلاسفة السابقين عليه. فكان الفلاسفة الذين قبله ينطلقون من العالم الخارجي لإثبات وجود الله. أما ديكارت نهج في ذلك نهجًا آخر. فبعد أنْ أثبت وجود “أنيته” وأنه “جوهر” و”شيء مفكر” انتقل للبحث عما يعرض له من أفكار عند التأمل؛ فوجد بداخله فكرة سيطرت على كل ما سواها، هي فكرة “الكامل” أو “اللامتناهي”. وفي هذا السياق يقول “لابرتونيير” وهو أحد المعاصرين لديكارت في كتاب “دراسات عن ديكارت”: «لم يُرِد ديكارت أنْ يعرف وجود الله عن طريق العالم، بل زعم على العكس أنّ الأولى معرفة العالم عن طريق الله، ولم يحاول أنْ يستخدم الأرض للصعود إلى السماء، بل أراد أنْ يستخدم السماء للنزول إلى الأرض، ولم يطلب إلى الدنيا أنْ تضمن له الله، بل طلب إلى العالم أنْ يضمن له الدنيا».
انتقل ديكارت من فكره إلى وجود الله مباشرة دون واسطة الحواس مثلاً، فليس هناك ما يضمن أنّ العالم الذى نحيا به حق وليس أضغاث أحلام. فيقول ديكارت: “أنا موجود، وفي نفسي فكرة عن الموجود الكامل أو اللامتناهي، وهذا كافٍ لإثبات وجود الله”. ومن هذه الفكرة وحدها، ألا وهي فكرة “الكامل” أو “اللامتناهي”، أقام ديكارت أدلة عقلية على وجود الله على النحو التالي، لإثبات وجود الله فيما يرى ديكارت مسلكان: الأول بآثاره، والثاني بنفس تعريفه وماهيته.
وإثبات وجود الله بآثاره ينقسم بدوره إلى دليلين:
الدليل الأنطولوجي
سمي كذلك، كناية عن الاستدلال على وجود الله، بالاستناد إلى وجود فكرة الله الكامل في الذهن، وعدم تصور شيء له كل الكمالات. وهذا الدليل هو أدق الأدلة الديكارتية على وجود الله، وهذا الدليل مبسوطًا في “المقال عن المنهج” وفي الخامس من “التأملات”، ولقد بُسط أيضًا في الردود والاعتراضات الأولى وفي “المبادئ”. ويمكن صياغة هذا الدليل بلغة المنطق على النحو التالي:
الله أو الكائن الكامل أو اللامتناهي
“و” الوجود هو أحد أنواع أو صفات الكمال
الله أو الكائن الكامل أو اللامتناهي موجود..
هذا الدليل استخدمه القديس “أنسلم” من قبل، ويمكن أنْ نورد دليل “أنسلم” على هذا الوجه:
الله هو الكائن الذي لا يتصور أعظم منه، أقول أنه موجود؛ لأنه لو لم يكن موجود لأمكنني أنْ أتصور كائنًا آخر يكون له ما لأول مضافًا إليه الوجود، ويكون حينئذٍ أكبر من الكائن الذي لا يتصور أكبر منه، وهو محال.
إذن الله موجود..
هذا الدليل يبدأ من تعريف الله بأنه “الكائن الكامل” بالمعنى الأنطولوجي/ الكينوني، لا بالمعنى الأخلاقي للفظ الكمال. أي بمعنى أنه الكائن الحقيقي إطلاقًا الحائز في ذاته كمال الوجود. ومن كمال الله يستخلص الدليل، بالتحليل، الوجود الضروري الواجب، ويستخلص الوجود بالتحليل بمعنى أنه يجده منطويًا متضمنًا فيه. يقول ديكارت: «لا شيء في براهين الهندسة يجعلني على يقين من وجود موضوعاتها خارج الذهن، فمثلاً إذا أنا فرضت مثلثًا، لزم أنْ تكون زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين. لكني لا أرى في هذا ما يحملني على اليقين بأنّ في العالم مثلثًا ما». في حين أنني «إذا رجعت إلى الفحص عن الفكرة التي عندي لكائن كامل، وجدت أنّ الوجود داخل فيها على نحو ما يدخل في فكرة المثلث أنّ زواياه الثلاث مساوية لقائمتين». إذن فديكارت يرى أنّ ماهية الله أو فكرة الكائن الكامل قد انفردت بميزة لا تشاركها فيها فكرة أخرى، أنها تجعلنا على يقين من وجود موضوعها خارج الذهن؛ وذلك لأنّ الوجود الفعلي الخارجي جزء معتم من أجزاء مضمونها وفحواها.
كان “لبيتنز” قد رأى أنّ هذا الدليل الأنطولوجي الديكارتي دليل ناقص غير كامل، يحتاج إلى أدلة أخرى تكمله، ويكمن ذلك في إثبات خاصية الإمكانية الوجودية. فقد لزم أولاً أنْ يبين أن فكرة الله لها الوجود المنطقي “الممكن”، يعني أنّها فكرة “ممكن تصورها”، وأنّها ليست في ذاتها متناقضة: إذا كان الله ممكنا، لزم أنْ يكون موجودًا. وهذا الإمكان بالنسبة إلى الله حاصل وناتج من أنّ الكمال هو كون الكائن لا حدّ له ولا سلب فيه، فإذن ليس فيه تناقض. ولقد عبر لبيتنز عن رأيه بهذه الصيغة:
الكائن الذي تتضمن ماهيته الوجود موجودًا إذا كان ممكنا، والله هو الكائن الذي ماهيته تتضمن الوجود.
إذن فالله موجود إذا كان ممكنًا..
غير أنّ لبيتنز لم يكن أول من أثار هذا الإشكال؛ فنجده موجودًا بين الاعتراضات التي جمعها الأب “مرسن”.. وردّ ديكارت على هذا الاعتراض بـ: «إذا تساءلت عمّا إذا كان الله ممكنًا؛ فإما أنك تفترض أنه قد يكون هنالك استحالة أو تناقض ما في تصور الله كما في تصور دائرة مربعة، لكن ليس في تصور الله تناقض من ذلك القبيل، بل على العكس جميع الأشياء التي يتضمنها ذلك التصور متجاورة، وبعضها متضمن للآخر».
أهم ما وجه إلى الدليل الأنطولوجي الديكارتي من نقد، كان على النحو التالي: أنّ الفكر لا يمكن أنْ يربط “الأشياء” بل “الأحكام” أو الأفكار المجردة. أو بعبارة أخرى، إنّ الضرورة المنطقية لا تستتبع ضرورة واقعية، فإذا كان من المستحيل علينا تصور كائن كامل دون تصوره موجودًا بالفعل؛ فإنّ مثل هذا التصور لا يستلزم كونه موجودًا بالفعل.
من المعروف أنّ “كانط” قد رفض الدليل الأنطولوجي، كما رفض جميع الأدلة العقلية على وجود الله، وكانت اعتراضاته على ذلك أوردها على النحو التالي:
أولاً: إنّ القضية إما أنْ تكون “تحليلية ” أو “تأليفية “. فالتحليلية ما يكون المحمول فيها متضمنًا في ماهية الموضوع مثل: الجسم ممتد. فإذا ما فسرنا معنى الجسم أو حللناه وجدنا معنى الامتداد متضمنا فيه. أو مثل: الإنسان آدمي. فالإنسان هنا مرادف أيضًا للموضوع، “الموضوع” بلغة المنطق: هو الحد المنطقي الذي نخبر عنه. و”المحمول”: هو الحد المنطقي الذي نخبر به، ويمكن استخلاصه بتحليل بسيط. أما القضية التأليفية ما يكون المحمول فيها دالاً على وصف لا تشمله ماهية الموضوع. أو هي القضية التي يضيف فيها محمولها شيئًا جديدًا نجهله عنها ابتداءً. مثل: الجسم ثقيل.. فإنّ تصور معنى الجسم ابتداءً لا يستلزم أنْ يكون ثقيلاً.. ولا شكّ أننا في القضية التحليلية، نقع في تناقض منطقي إذا نحن أثبتنا الموضوع ونفينا المحمول، كما إذا فرضنا مثلثًا ونفينا أنْ تكون زواياه الثلاث مساوية قائمتين؛ لأنّ المحمول هنا متعلق بالموضوع ضرورة. لكن لا تناقض هناك إذا ما ألغينا الموضوع والمحمول معًا، كأنْ نلغي المثلث مع زواياه الثلاث بحيث لا يبقى حينئذ شيء يمكن أنْ يقع فيه تناقض. والأمر كذلك في فكرة الله أو الكائن الكامل، فنكون متناقضين إذا أثبتنا وجود الله ونفينا صفة من صفاته كالقدرة مثلاً؛ لأنّ الصفة متضمنة في معنى الكائن الكامل. ولا يكون هنالك تناقض البتة إذا أنكرنا وجود الله ذاته ابتداءً، لأننا نكون قد حذفنا الموضوع ومحمولاته أو صفاته كلها، فليس هنالك شيء خارجه يكون فيه وقتئذ تناقض، ما دامت ضرورة الموضوع لم يفترض فيها أنْ تكون مستمدة من شيء خارجي، كما أنه ليس ثمة شيء يمكن أنْ يقع فيه تناقض، ما دمنا في إنكارنا للشيء ذاته قد أنكرنا في الوقت نفسه جميع صفاته الداخلية. إذن يرى “كانط” أنّ فكرة إثبات وجود الله عن طريق فكرة اللامتناهي أو الكائن الكامل، لا يثبت فعلاً وجود الله حسيًا؛ لأّنّ هذا الوجود يبقى خارجًا عن نطاق الملاحظة والتجريب، ويبقى فقط داخل إطار المنطق كما هو حال القضية التحليلية.
ثانيًا: غير أنّ ديكارت يعترض هنا بأنّ معنى الكائن الكامل معنى فريد، يمتاز بأنّ الوجود فيه يمكن أنْ يستخلص من نفس الماهية.
أما جواب “كانط” عليه أنّ هذه القضية “الله موجود” إما أنْ تكون تحليلية أو تأليفية. فإذا كانت تحليلية، كان من التناقض حقًا أنْ نثبت الموضوع وننفي المحمول. لكننا في هذه الحالة، أعني إثبات الشيء، لا نضيف معنى جديد إلى فكرتنا عن الشيء. وعليه إذن فواحدة من اثنتين: فإما أنْ يكون الفكر الذي هو فينا يلزم أنْ يكون هو الشيء نفسه (أي هو الوجود في الذهن)، وإما أنْ نكون قد فرضنا وجودًا ما داخلا في مجال الإمكان، وكأنّ الوجود قد استخلص حينئذ من الإمكان الداخلي، وما ذلك إلا “تحصيل حاصل”. ومجمل القول إننا لا نستطيع أنْ نستخلص من فكرة الله بالتحليل إلا “فكرة الوجود”، أي الوجود “الذهني” فقط؛ لا الوجود “العيني أو الحقيقي”.
وإذا كانت القضية تأليفية، وكل قضية وجودية هي تأليفية بالضرورة. فكيف تأتي لديكارت أنْ يزعم أنّ من التناقض في القضية أنْ يسلب محمول الوجود عن الله؟ مع أنّ هذه المزية أو الخاصية لم تختص بها إلا القضايا التحليلية، وهي التي من شأنها أنْ تقوم على مبدأ عدم التناقض أو الذاتية، في حين أنّ القضية التي نحن بصددها قضية تأليفية!
ثالثًا: الوجود ليس محمولاً يمكن أنْ يضاف إلى الماهية فيوسع مفهومها المنطقي. الوجود ليس “كمالاً” من الكمالات، وما الوجود إلا نفس وضع الشيء أو اثباته خارج الذهن. وبم يكون الكائن كاملاً؟ بما يملك من صفات كالفهم والقوة والجمال وما إلى ذلك، ولكن الوجود ليس صفة من تلك الصفات: فمن حيث الكمال ليس الوجود شيئًا، وإذا وجد كائن لا يملك من الكمالات إلا الوجود، استطعنا بطبيعة الحال أنْ نقول إن ذلك الكائن خالٍ من أي كمال، أو بعبارة أخرى، الواقعي لا يحتوي على شيء أكثر مما في الممكن المحض: “ومائة من التاليرات- عملة ألمانية قديمة- الموجودة في الواقع، لا تحتوي شيئًا أكثر مما تحتويه مائة من التاليرات الممكنة، وكذلك ليست فكرتي عن الله “موجودًا” بأغنى ولا أوفر حظًا معنى من فكرتي عنه غير موجود، بل إنّ مضمون فكرتنا عن الله واحد، سواء تصورناه موجودًا أو غير موجود. وهنا يلخص د/ عثمان أمين نقد “كانط” بقوله أنّ: خلاصة هذا النقد كله أنّ الدليل الأنطولوجي في نظر كانط يتضمن خلطًا بين مرتبة الفكر ومرتبة الوجود في ذاته. وإذن فهذا الدليل لا يصح إلا عند فلسفة كالأفلاطونية، توحد بين المرتبتين أو المستويين. قال كانط: “إنّ ذلك الدليل الأنطولوجي الديكارتي الذي امتدحه الناس كثيرًا، والذي يزعم أنْ يثبت، بواسطة تصورات، وجود كائن متعالٍ، ليس إلا مضيعة للوقت والجهد. ولن يصبح الإنسان أوفر معرفة بمجرد معانٍ، كما أنّ التاجر لن يصبح أكثر مالاً إذا خطر له أنْ يزيد في إيراده، فأضاف إلى دفتر الحساب بضعة أصفار”.
قيل بعد هذه الضربة التي سددها كانط للدليل الأنطولوجي، أنّ هذه ضربة قاضية. غير أنّ المفكرين اللاحقين قد بينوا أنّ المغالطة ليست في دليل ديكارت، وإنما المغالطة في نقد كانط؛ لأنّ ذلك النقد قد غفل عن معنى الفكر الديكارتي.
الدليل الثاني على وجود الله عند ديكارت
ويطلق عليه بعض الباحثين مثل “فيشر” الدليل التجريبي أو الدليل الإنساني. وهو يدور حول الأفكار الفطرية في النفس البشرية، ومن جملة ذلك وجود فكرة الكائن الكامل اللامتناهي الحائز على جميع الصفات. نحن نتساءل عن مصدر وجود فكرة الله أو الكائن الكامل في عقل الإنسان؟ هل هو الإنسان نفسه؟ لا بالطبع لأنّ الإنسان ناقص، فيلزم عن ذلك أنّ فكرة “الكامل” أو “اللامتناهي” فكرة لست أنا مصدرها؛ إذ أنني موجود ناقص متناهٍ. يقول ديكارت: «إذا رجعت إلى نفسي فأول ما يتبدى لي حينئذ هو نقصي؛ لأنني أعرف أني أشك، والشك نقص؛ إذ هو قصور عن بلوغ الحق. وما كنت لأعرف أني كائن ناقص متناهٍ لو لم تكنْ لديّ فكرة الكائن “الكامل” أو “اللامتناهي”». و«إذا بلغ الوجود الذهني لفكرة من أفكاري درجة جعلتني أعرف بوضوح أنّ هذه الفكرة ليست فيّ حقًا بالفعل، وبالتالي لست قادرًا على أنْ أكون أنا علتها، اقتضى جبرًا أنْ يكون هنالك موجود آخر هو علة هذه الفكرة”، و”إنّ الفكرة التي لنا عن الله لا تأتي منا، إذن فالله موجود».
غير أنّه قد أعترض على هذا الدليل الديكارتي بأنّ فكرة “الكمال” تلك التي يجدها ديكارت في نفسه ليست موجودة عند كل الناس جميعًا. بيد أنّ ديكارت قد ردّ على هذا الكلام فقال: «إنها في الواقع فكرة ملازمة للفكر الإنساني، ويعرف ذلك من أدرك معنى هذه الكلمات “أكمل ما نستطيع أنْ نتصور من أشياء، وهذا هو ما يطلق عليه جميع الناس اسم “الله”». وفكرة الله فكرة مفطورة في النفوس، لا بمعنى أنها حاضرة دائمًا في فكرنا؛ إذ لا نستطيع أنْ نزعم أنّ للطفل في بطن أمه معرفة فعلية بالله، وأنه ينظر في الأمور الميتافيزيقية، ولكن بمعنى أنّ لديه مع ذلك فكرة عن الله وعن جميع الحقائق الأولى.
كان هناك اعتراض آخر، قد يقال أننا نتصور “اللامتناهي” أو “الكامل” تصورًا سلبيًا محضًا، أي أننا نتصورهما بالسلب لفكرتي “المتناهي” و”الناقص” اللتين نجدهما في أنفسنا. وردّ ديكارت على ذلك بأنه يرى أنّ فكرة الكمال واللامتناهي فكرة إيجابية، بل هي أكثر الأفكار إيجابًا؛ حيث أنها تعبر عن أكمل الحقائق جميعًا.
قد قيل أيضًا أنّ هذه الفكرة هي من صنع البشر، أو من صنع الذهن البشري ألفها من أفكار أخرى، كما قد يلفق أفكارًا عن الغول والعنقاء مع أنهم لا وجود موضوعي لهم. ويرد ديكارت على ذلك بأنّ أولاً: أنّ التأليف بين أشياء ناقصة لا يمكنها أنْ تنتج فكرة الكمال.
والدليل الثالث على وجود الله عند ديكارت يسمى أحيانًا بـ “دليل الخلق المستمر” وهو تكملة للدليل الثاني وتأييد له؛ فأنا الآن أعرف أني موجود ناقص وفي ذهني فكرة الموجود الكامل. فما علة وجودي؟
لا أستطيع تصور نفسي خالقًا لوجودي، إذ لو كان لي القدرة على أنْ أخلق نفسي، لكان من باب أولى القدرة على أنْ أمنح نفسي ما ينقصني من كمالات. والحق أنني لو كنت علة لوجود نفسي لكنت أنزع إلى أنْ أمنح نفسي ما ينقصني من كمالات. لأنّ الكمال صفة تضاف إلى الوجود. وأستطيع أنْ أستبعد للسبب نفسه جميع العلل التي هي أقل كمالاً من الله؛ لذلك سأستبعد أيضًا أنْ يكون علة وجودي والديّ؛ إنهما فقط علة بدني. فلم يبق إلا أنْ يكون خالقي هو الكائن الكامل. ولابد أنْ يكون له على الأقل كل فيّ أنا؛ لأنّ كل الحقيقة التي في المعلول يجب أنْ توجد في العلة. إذن فلا بد أنْ يكون له مثلي على الأقل فكرة الكمال لكنه فوق ذلك أكمل مني في حقيقة الأمر؛ لأنه لو أعوزه الكمال لكانت له الإرادة والقدرة على أنْ يمنح ذاته إياه. إذن فالله موجود.
صفات الله عند ديكارت
الميتافيزيقا الديكارتية بعيدة عن ميتافيزيقا أصحاب “وحدة الوجود”. فيرى ديكارت اللامتناهي هو الكائن الكامل، الذي حاز على كل صفات الكمال. إذن فالصفة الأساسية الضرورية لله هي الكمال المطلق.
لكن الكمال في حد ذاته ليس صفة موجودة وحقيقية، وإنما هو مجموع الصفات الموجودة فعلاً، بمعنى أنّ صفة الكمال التي تطلق على الله هي صفة معنوية، في حين أنّ الصفات الأخرى التي تؤلفها هي ذات وجود حقيقي.
ومن هذه الصفات: الواحدية، الوجودية، الأزلية، القدرة الكلية، العلم الكلي. وعليه إذن فالعالم عند ديكارت حادث أو محدث ظهر إلى الوجود، وليس قديمًا قدم الله مثلما كان الحال مع أرسطو، أو هو الله شيء واحد وإن تعددت مظاهره ووجوهه كما الحال عند أسبينوزا ومتصوفة الإسلام.
الأدلة على وجود العالم الخارجي عند ديكارت أو من الله إلى العالم
بعد أنْ توصل ديكارت إلى اليقين التام، بأنه كائن موجود، لأنه كائن مفكر وله نفس خالدة، متميزة تمام التميز عن البدن. وبعد أنْ أثبت وجود الله، وعليه رأى أنّ الله هو الضامن لصدق كل الحقائق التي تملكها الطبيعة، وأنّ ذلك بمثابة حقيقة بديهية لا ريب فيها. قصد إلى العالم الخارجي ليرى إنْ كان موجودًا بالفعل أم غير موجود. وقد خلص إلى التسليم بوجود العالم الخارجي بالفعل؛ وذلك إذا نظرنا إلى المخلوقات كلها مجتمعة لا إلى بعض المخلوقات أو مخلوق بعينه. “إن وجود النقص في بعض أجزاء الكون، وخلو النقص من البعض الأخر، دليل على أنّ عالمنا أكمل مما لو كانت كل أجزائه متشابهة. وله في إثبات ذلك دليلين:
الدليل الأول:
هو الميل الطبيعي أو النفسي. إذ أننا لدينا ميل طبيعي لوجود العالم الخارجي، ونحس به داخل نفوسنا، ولدينا ميلاً طبيعيًا وقويًا للتسليم بوجوده.
الدليل الثاني:
الإدراك الحسي وأساس هذا الدليل هو أنّ لدينا في أذاهننا أفكارًا خارجة عن إرادتنا- عن أشياء وموجودات مختلفة. ولما كان لكل معلول علة، ولما كنا لسنا هذه العلة في وجود هذه الأفكار في أذهاننا؛ لأنها موجودة لدينا خارجًا عن إرادتنا؛ فمعنى ذلك أنّ علة هذه الأفكار في أذهننا هي وجود هذه الأشياء والموجودات بالفعل في العالم الخارجي.
خصائص هذا العالم
الامتداد هو الخاصية الأولى للوجود المادي، وإذا كان الأمر كذلك فمعناه أنّ هذا العالم غير محدود أو غير متناه من حيث الامتداد.
وإذا كانت المادة ابتداء امتداد، فالعكس كذلك صحيح أيضًا؛ بمعنى أنه لا امتداد بغير مادة، وبذلك يكون الكون كله ملاء ولا فراغ فيه.
الحركة هي الخاصية الثانية، فلا يمكن تصور فكرة الامتداد دون تصور الحركة. إذن الامتداد والحركة هما الموجودان حقًا في العالم المادي، وهما يشكلان معا محور علم الطبيعة.
العالم الطبيعي عند ديكارت كناية عن سلسلة متعاقبة من الحركات المادية، لا أكثر ولا أقل.
لقد انتقد بسكال هذه النظرة الآلية الشاملة للكون عند ديكارت، ورأى أنه لم يترك أي دور لله ليتدخل في عمل الكون. غير أنّ ديكارت يرى أنّ الله لديه القدرة الكاملة على التدخل في شئون الكون، لتغيير مساره إذا أراد، بيد أنه لا يتدخل؛ لأنه يريد خير الإنسان، وقد خلق العالم بأسره على هذه الوتيرة من القوانين.