وُلد باروخ سبينوزا بأمستردام في 24 نوفمبر من عام 1632 ميلادية. وينتمي إلى أسرة يهودية برتغالية كانت لاجئة بهولندا. ويحكي “ول ديورانت” في “قصة الفلسفة” عن سبب لجوء عائلة سبينوزا لهولندا فيقول أنّ اليهود كانوا قد ازدهروا بإسبانيا وجمعوا ثروة، إلى أنْ قام فرديناند بتضييق الخناق عليهم، وسلب منهم الحرية التي تمتعوا بها في ظل حكم المسلمين؛ فزحف ديوان التفتيش عليهم وخيرهم فيما بين التعميد ومن ثمّ الدخول في المسيحية، وبين النفي وتجميد أموالهم. ثم أراد فرديناند ملك إسبانيا زيادة أمواله وكنوزه بثروة اليهود. غير أنّ الأكثرية من الطائفة اليهودية اختارت الخيار الأصعب وهو البحث عن مكان آخر تلجأ إليه. فحاولوا في بادئ الأمر اللجوء إلى جنوه الإيطالية وبعض الموانئ الأخرى، إلا أنه لم يسمح لهم بالدخول؛ فأبحروا إلى أنْ وصلوا إلى الساحل الإفريقي، فقتل الكثيرين منهم لاستخراج المجوهرات من بطونهم والتي ساد الاعتقاد بأنهم بلعوها قبل خروجهم من إسبانيا، فاستقبل القليل منهم بفينيسيا، وأبحرت سفن أخرى إلى شمال المحيط الأطلنطي بين إنكلترا المعادية وفرنسا كذلك؛ ليجدوا بعض الترحيب بهم في هولندا. وكان من بين هؤلاء الذين نزلوا إلى هولندا كلاجئين عائلة سبينوزا.
في البدء أراد أبواه أنْ ينشئاه تنشئة دينية خالصة، فبعثاه إلى مدرسة حاخام مشهور يدعى “مورتيرا”، فتعلم سبينوزا على يديه أصول اللغة العبرية وتلقنّ فيما تلقن أصول التلمود. وعلى الرغم من أنّ والد الشاب سبينوزا كان تاجرا، إلا أنه لم يظهر ميلاً للتجارة، وكان يقضي وقته في مكتبة الكنيس اليهودي منكبًا على الاطلاع لاسيما تاريخ قومه ودينهم. وأبدى نبوغًا في دراسته مما استلفت نظر كبار اليهود إليه؛ فجعلهم يعلقون عليه آمالاً واسعة في المستقبل، غير أنّ فيلسوفنا سرعان ما انتقل من قراءة التوراة إلى قراءة التلمود، ومنها إلى كتابات “ابن ميمون” الفيلسوف اليهودي الذي عرف من خلاله نظرية ابن رشد في الخلود و”ليفي بن جيرسون” الذي قال بأبدية العالم و”ابن عزرا” و”حسداي بن شبروت” الذي اعتقد أنّ الكون المادي هو جسم الله، ثم امتد اطلاعه إلى كتابات فلسفة “ابن جبرويل” وفلسفة “موسى القرطبي” الصوفية المعقدة، غير أنه وجد أثناء قراءته لكتاب “إرشاد الحائر” لموسى القرطبي والذي كان بمثابة تعليقات على التوراة حيرة أكثر من الإرشاد؛ وذلك لأنّ الحاخام أثار فيه أسئلة أكثر من الأجوبة. ولما كان حماة الدين هم أبرع أعدائه بما يثيرونه من آراء تولد الشكوك، وإذا كان هذا الأمر يصدق على كتابات ابن ميمون، فيصدق على كتابات ابن عزرا بشكل خاص؛ حيث أثار مشاكل الديانة اليهودية بشكل مباشر. ولما كان سبينوزا مطلعا بنهمٍ على هذه الكتابات الدينية التي تخص قومه، فاطلع بطبيعة الحال على كتابات ابن عزرا، والتي أخذته على طريق التشكك والحيرة.
تعلم سبينوزا أيضًا اللغة اللاتينية والتي كانت لغة العلم والفلسفة آنذاك على يد معلم يدعى “فان دن اندي”، مما أضاء له ذلك في عينيه نورًا جديدًا استطاع بمقتضاه أنْ يكتشف فلاسفة القرون الوسطى وعلماؤه، لاسيما توماس الإكويني وفيتشيون وجوردانو برونو والذي تعلم منه فكرة وحدة الوجود. فكل الحقيقة واحدة في العنصر، واحدة في العلة، واحدة في الأصل، والله وهذه الحقيقة شيء واحد. ثم فرانسيس بيكون وتوماس هوبز. وديكارت والذي كان له عظيم الأثر في التكوين العقلي لسبينوزا. وقبل ذلك كان سبينوزا قد درس سقراط وأفلاطون وأرسطو، غير أنه كان يرى أنّ فلاسفة المدرسة الذرية لا سيما ديموقريطس وأبيقور ولوكريتس أفضل منهم. كما ترك الرواقيون فيه أثرًا لا يندثر.
بين ديكارت وسبينوزا
وعلى الرغم من أنّ سبينوزا تلميذًا لديكارت، إلا أنّ هناك ثمة اختلافات جوهرية بينهما، منها أنّ سبينوزا استطاع أنْ يطبق المنهج الديكارتي في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، لاسيما في أمور الدين. فديكارت كان يعتبر نفسه من حماة الدين وصديقًا مقربًا من رجالاته، ويكفي لتأكيد ذلك الاطلاع على الإهداء الذي صاغه ديكارت في مقدمة كتاب “التأملات” لعلماء أصول الدين؛ فديكارت إذن متفق معهم في الغاية، غير أنّ الأمر في حالة سبينوزا مختلف جد الاختلاف، فطبق منهجًا جديدًا في ميدان الدين والعقائد، فكتب يقول: «لذلك عقدت العزم على أنْ أعيد من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة، وألا أثبت شيئًا من تعالميه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام عنه، وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجًا لتفسير الكتب المقدسة». وبمقتضى هذا المنهج الجديد حلل سبينوزا النبوة وأخرجها من نطاق الأفكار الواضحة والتطورات الغامضة؛ لذلك اعتبر أنّ المعجزات لا تستطيع أنْ تدلنا على وجود الله.
ومعروف أنّ ديكارت استبعد أيضًا من شكه الأمور السياسية والتشريعات الوطنية. فكان سبينوزا أيضًا هو الديكارتي الوحيد الذي طبق منهج ديكارت في السياسة؛ فدرس أنظمة الحكم وقارن بينهم، ونقد أنظمة الحكم المطلقة القائمة على الفرد المطلق، وانتهى إلى أنّ النظم الديموقراطية هي أكثر الأنظمة اتفاقًا مع الطبيعة. ولقد قيل دفاعًا عن مهادنة ديكارت لرجال الدين، إنما هو موقف ذكي بارع؛ حيث أراد ديكارت أنْ يحتوي رجال من الداخل لا الصدام معهم، ويكفيه أنّ وضع قنبلة انفجرت في وجوههم متمثلة في سبينوزا وفولتير، وتناثرت شظايا هذه القنبلة الديكارتية في العصر الحديث كله بطوله وعرضه. وسواء أكان هذه الدفاع عن ديكارت بحق أم لم يكن؛ فإن الثورة الحقيقية في الفكر الديني والواقع السياسي قد قامت على يد سبينوزا، فكانت رسالة سبينوزا إذن ثورة على الأوضاع السياسية والدينية في عصره وفي كل عصر. وإذا كان ديكارت هو المسئول عن كل تبرير ديني للعقائد في صياغة جديدة؛ فإن سبينوزا هو المسئول المباشر عن كل دراسة نقدية ونفسية لهذه العقائد، بل وعن وضع الله في النفس البشرية بفكرة: «وحدة الوجود». وإذا كان ديكارت مسئول عن الثنائية من قسمة الوجود إلى عالم الذهن وعالم المادة، فسبينوزا عن إعادة الوحدة في الوجود، وذلك بالتوحيد بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة.
نظرًا إلى ذلك، وإلى ما كان قد دأب عليه منذ كان في الخامسة عشر من عمره، من مجادلة ومحاجة كانت تفحم رجال الدين، فإنه سرعان ما طُرد من الكنيس اليهودي، فخابت الآمال التي علقوها عليه أمدًا طويلاً، فاستُدعي أمام كبار رجال الكنيس اليهودي من عام 1656م بتهمة الهرطقة أو الضلال الديني. إذ سألوه هل صحيح ما يُقال أنك ذكرت لأصدقائك أنّ الله جسدًا وهو عالم المادة؟ وأنّ الملائكة خلط وهذيان؟ وأنّ النفس قد تكون مجرد الحياة؟ وأنّ التوراة القديمة لم تذكر شيئًا عن الخلود؟ يقول “ول ديورانت” «لا ندري بماذا أجاب، وكل ما نعرف أنهم عرضوا عليه راتبًا سنويًا شريطة أنْ يوافق على موالاة الكنيس اليهودي والديانة اليهودية بكل ما في الدينية العبرانية من إجراءات قاتمة صارمة». ولقد قدم “فان فلوتين” الطريقة المتبعة في الحرمان من الكنيسة.
يُعلن رئيس المجلس المحلي اليهودي بعد أنْ تبين لهم تمامًا حقيقة آراء باروخ سبينوزا وأعماله الآثمة، وبعد أنْ حاولوا بمختلف الوسائل وشتى الوعود أنْ يرجعوه عن غيه وضلاله، إنهم قد فشلوا في تقويمه وابعاده عن آرائه وأفكاره، وأنه تمادى في غيه وضلاله، وأنهم ترد إليهم كل يوم الشهادات الكثيرة عن هرطقته وبدعه الدينية المريعة التي يقدمها ويجاهر بها والسخافة التي تنتشر فيها هذه البدع والهرطقة في الخارج… إلـــخ، فتم القرار بموافقة أعضاء المجلس على إنزال اللعنة والحرمان بالمدعو سبينوزا وفصله عن شعب إسرائيل. وإنزال الحرم به من هذه اللحظة مع اللعنات الآتية بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعائنا على باروخ سبينوزا بموافقة الطائفة المقدسة كلها، ولم يكتف الحاخامات بذلك؛ بل حرضوا قضاة المدينة على الحكم عليه بحظر الإقامة فيها، وأنْ لا يتحدث إليه أحد بكلمة أو يتصل به كتابة أو يقدم له أحد مساعدة أو أنْ يعيش معه تحت سقف بيت واحد، وأنْ لا يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع، وأن لا يقرأ له أحد شيئًا جرى به قلمه أو لسانه. بيد أنّ سبينوزا قد قابل هذا الحرمان بشجاعة وهدوء قائلاً: «لم يرغمني على شيء ولم يحل بيني وبين شيء أعمله». غير أنه وبينما كان يسير ذات ليلة في أحد الشوارع هاجمه شخص متدين يريد إثبات تدينه بالقتل والجريمة، فطعنه بخنجر واستدار سبينوزا بسرعة وهرب، فانتهى بعد هذا الحادث بأنّ حياته في خطر محدق؛ فلجأ إلى ضواحي أمستردام، وغير من اسمه واتخذ لنفسه اسمًا لاتينيًا وهو “بندكت/ Benedect”، وعاش بين المسيحيين وكان قوت يومه يكسبه في بادئ الأمر بتعليم الأطفال في مدرسة، ثمّ عمل بعد ذلك في صقل العدسات البلورية، وعاش على هذه الحال عدة سنوات.
في عام 1661م، شرع سبينوزا في تأليف “رسالة في إصلاح العقل” وهو كتاب صغير الحجم، غير أنّه لم يتمه، ثمّ أصدر كتابًا آخر أسماه “الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي” ولم يُقدم سبينوزا على نشره طيلة عشر سنوات؛ وفي تعليل ذلك يقول “ول ديورانت” في “قصة الفلسفة” أنّ: «أدريان كويرباغ قام بنشر آراء مماثلة لآراء سبينوزا وحكم عليه بالسجن عشر سنوات مات بعد قضاء ثمانية عشر شهرًا منها ». غير أنّ سبينوزا انتقل بعدها إلى أمستردام وواثقا من نشر كتابه، إلا أنه رجع عن عزمه؛ لأنه قد سرت في البلد شائعة تقول أنّ سبينوزا بصدد نشر كتابًا يقيم فيه الدليل على عدم وجود الله، فقرر إرجاء النشر إلى وقت آخر.
أما كتاب “علم الأخلاق” فإنه لم ينشر إلا بعد وفاته وذلك في عام 1677م، وكتب هذا الكتاب باللغة اللاتينية والتي كانت هي السنة المتبعة في الفلسفة والعلم بأوروبا بالقرن السابع عشر، غير أنه كانت هناك رسالة صغيرة اكتشفها “فان فلوتن” في عام 1852م مكتوبة باللغة الهولندية عن “الله والإنسان”، ويُعتقد أنه كان من المرجح لها أنْ تكون بمثابة مقدمة لكتاب “علم الأخلاق”. أما عن الكتب التي نشرها في حياته فهما كتابين الأول وهو كتاب “مبادئ الفلسفة الديكارتية” وهو الكتاب الوحيد الذي حمل اسمه عند نشره، والثاني “رسالة في الدولة والدين” والذي لم يكتب اسم سبينوزا عليه لخوفه من الاضطهاد والتنكيل الذي كان سائدًا. ظهر هذان الكتابان في وقت واحد تقريبًا، غير أنهما سرعان ما وُضعا في “القائمة السوداء” أو قائمة الكتب التي ينبغي تطهيرها ومن ثمّ قامت السلطات القائمة بحظر بيعهما، غير أنّ الرياح هذه المرة تأت بما لا تشتهيه السلطات، فقرار حظر الكتابين ساعد على انتشارهما، فطبعا تحت عناوين مضللة، فقد نُشر الكتاب الأول تحت عنوان “رسالة طبية” والثاني “قصة تاريخية”. فقام عشرات الكتاب بوضع الكتب والردود بغرض دحض ما فيهما. وصف أحدهم سبينوزا بكونه «أعظم الملحدين الذين ظهروا على هذه الأرض فجورًا وإثما». غير أنه كان هنالك الطرف المقابل تمامًا؛ فوصف أحد المؤيدين كتابه بقوله «إنها كنز أبدي عظيم الفائدة»، وهذه هي سمة العظماء دائمًا، فمن سمات العظمة التي ما إنْ اجتمعت في شخص كان من أعاظم الرجال فرط العجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه. وهاتين الصفتين اجتمعتا في سبينوزا العظيم، ورُغم أنّ حياة سبينوزا كانت حياة عزلة وعوز، إلا أنه قد وصلته رسائل كثيرة مؤيدة من ذوي الثقافة والفطنة، وبدأ المثقفون يوفدون إليه من كل صوب وحدب فزاره “هنري أولدنبرج” سكرتير المجتمع الملكي بإنجلترا، وزاره “وفون تشيرنهاوس” المخترع الألماني و”هويجينز” العالم الهولندي و”لبيتنز” الفيلسوف الشهير و”سيمون دي فري” وكان تاجرًا غنيًا وقد عرض على سبينوزا أموالاً تبلغ مقدار ألف جنيه هدية منه له، بيد أنّ فيلسوفنا قد رفض الهدية. وأخيرًا عرض عليه “لويس الرابع عشر” مبلغًا ضخمًا نظير أنْ يكتب له إهداء الكتاب الثاني له، ورفض سبينوزا هذا العرض بطبيعة الحال.. وفي عام 1677م وتحديدًا في يوم الأحد والعشرين من فبراير وسبينوزا وقتئذ في الرابعة والأربعين من عمره، جاء فصل النهاية. فلقد ورث مرض السل من والديه، وعمله بصقل العدسات قد نخر له رئتيه. وفي هذا اليوم فارق الحياة، وبكاه الكثيرون، وانضم الفلاسفة والعلماء والقضاة إلى الشعب وساروا وراءه إلى مثواه الأخير، واجتمع حول قبره رجال من كل مذهب ودين.
فلسفة سبينوزا وكتبه
رسالته في الدين والدولة
صدرت “الرسالة في اللاهوت والسياسة” في وقت كان فيه الجدل محتدمًا حول مسائل الوحي والنبوة والمعجزات، وأيضًا حول حرية الاعتقاد والتفكير. لأنه كان هنالك كثيرون في هذا الوقت لاسيما في هولندا، إلى أنّ أصل الدولة يكمن في التأسيس الإلهي. مثل حكومة اليهود الدينية في العهد القديم التي تستمد سلطتها من إرادة الله ومن ثمّ تنظيم السلوك البشري بمقتضى ذلك، غير أنّ سبينوزا بين أنّ المؤسسات السياسية العبرية الموصوفة بالكتاب المقدس كان الهدف منها هم العبرانيون القدماء فقط، ويثبت فيه أنّ الأسفار الخمسة بأسرها لم يكتبها موسى بصورتها الحالية، فحدد سبينوزا موضوع الرسالة في العنوان التوضيحي الذي وضعه بعد العنوان الأول «وفيها تتم البرهنة على أنّ حرية التفلسف لا تمثل خطرًا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إنّ القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها». فالرسالة إذن هدفان: الأول، هو أنّ حرية الفكر لا تمثل خطًرًا على الإيمان، وأنّ حرية الفكر لا تمثل تهديدًا لسلامة الدولة، بل القضاء عليها هو ما سيؤدي إلى تفكيك الدولة حتمًا ونزع التقوى منها، أو بعبارة أخرى أنّ العقل هو أساس الأيمان، وأساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة؛ فإذا ما غاب العقل ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة يتم إرجاع الظواهر الطبيعية إلى علل أولى أو إلى قوى وهمية أو إلى أفعال خيالية أو إلى موجودات غيبية مثل الجن والشياطين وما إلى ذلك.
كان المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه هذا الكتاب هو أنّ لغة التوراة يغلب عليها المجاز والاستعارة، وهذا أمر مقصود ومتعمد لإثارة خيال الناس عند دعوتهم؛ فاضطر الأنبياء على تكييف أنفسهم وفقًا لرغبات الشعب ونمط تفكيره؛ فالكتب المنزلة لا تفسر الأشياء بأسبابها، بل ترويها بأسلوب يؤثر في نفوس الناس وخاصة العوام منهم، وما ذلك إلا من أجل حمل الكافة على التفاني في العقيدة «فليس موضوع الكتاب المنزل إقناع العقل، بل جذب الخيال والسيطرة عليه». ولهذا يكثر فيه ذكر المعجزات، ويظن العامة من الناس أنّ قدرة الله لا تتجلى إلا إذا خُرقت قوانين الطبيعة، لاسيما إذا كان في هذا الخرق مكسبًا ماديًا، كما يظن أيضًا العامة من الناس أنّ أكبر برهان على وجود الله هو خلل نظام الطبيعة، وترى العامة أنّ تفسير ظواهر الطبيعة بعللها الطبيعية المباشرة إنكارًا لوجود الله؛ لأنّ الله والطبيعة حسب ظن العامة طرفان متناقضان، غير أنّ الأمر مختلف جد الاختلاف؛ فالله والطبيعة شيء واحد- وهنا لب فلسفة سبينوزا-، ويميل الإنسان بطبعه إلى الاعتقاد بأن الله يحطم النظام الطبيعي للظواهر من أجلهم فقط، فترى اليهود يعللون إطالة النهار وتأخير غروب الشمس بأنها معجزة تثبت أنهم شعب الله المختار، ولو قال موسى لليهود أنّ الرياح الشرقية هي سبب انحسار المياه بالبحر الأحمر ما اتبعه أحد على الإطلاق، ولعل هذا هو الفرق بين الأنبياء والفلاسفة؛ فالأنبياء يلجئون إلى حد كبير إلى الأسلوب الساحر البياني الذي يلهب خيال الناس، وهنا يقول سبينوزا أننا لو فسرنا الكتاب المقدس على هذا الأساس ما وجدنا شيئًا يناقض العقل، على العكس ما إذا تمسكنا بحرفيته، فلا شك أننا واقعون في متناقضات ولصادفنا مغالطات وكثير من الأمور غير المعقولة.
كان سبينوزا يجنح إلى اعتبار أنّ اليهودية والمسيحية دينًا واحدًا، غير أنّ الأمر يحتاج فقط إلى نزع الغل والبغضاء والكراهية من صدور الناس، والسبيل إلى ذلك من وجهة نظر سبينوزا، هو ضرورة التفاهم المشترك حول شخص المسيح، وتنحية العقائد المستحيلة، وعند ذلك سيعتقد اليهود أنّ المسيح هو أفضل الأنبياء جميعًا، بيد أنّ سبينوزا لا يعترف هنا بألوهية المسيح إطلاقًا، بل يضعه في مصاف البشر، ولو تخلصت هذه الشخصية من الخرافات التي لحقت بها والتي لا تؤدي إلا إلى التنازع والتخاصم؛ لجذبت الناس جميعًا من حولها.
إصلاح العقل
في هذه الرسالة الصغيرة، يرى سبينوزا أنّ العلم قوة وحرية، ويرى أنّ السعادة الدائمة تكمن في تحصيل المعرفة ولذة الفهم. بيدّ أنّ هنا مشكلة تجابه سبينوزا وهي، كيف أعلم أنّ ما حصلت عليه من معرفة هي معرفة صحيحة؟ وكيف أتيقن من أنّ ما تنقله حواسي إلى ذهني من علم صادق؟ وأن عقلي أمين على النتائج التي يستخلصها من تلك الأحاسيس التي تقدمها الحواس؟ إذن وجب علينا أنْ نبحث عن طريقة لإصلاح العقل وتنقيته لكي نثق فيه، لذلك وجب علينا أولاً أنْ نميز بين أنواع المعرفة، ولا نقنع إلا بما هو أفضلها وأوضحها. أول أنواع المعرفة هو ما جاء إلينا عبر الأخبار والإشاعات كعلمي بتاريخ ميلادي مثلاً، وثاني الأنواع هو ما عن طريق التجربة الغامضة؛ كأن يعلم الطبيب علاجًا لا عن طريق التجربة العلمية المؤكدة، بل لأنّ ذلك العلاج المعين ينجح “عادة”، وثالث أنواع المعرفة هو ما نصل إليه عن طريق الاستدلال والاستنتاج، كأنْ نعتبر بكبر الشمس مثلاً؛ ولذلك لأنني أرى أنّ جميع الأشياء يصغر حجمها كلما ابتعدت بالنظر عنها، وهذا النوع الأخير من المعرفة أرقى من الأنواع. غير أنها مع ذلك عرضة للتغير والتبدل؛ لذك أسمى نوع من المعرفة هو ما ندركه بالبداهة، كأن نعلم على الفور أنّ 6 هو الرقم المحذوف في النسبة الآتية 2:4=3:س، أو كما ندرك أنّ الكل أكبر من الجزء. وهنا يعترف سبينوزا أنّ ما عرفه من هذا الضرب قليل، وهذه المعرفة البديهية هي إدراك الأشياء في علاقاتها الأبدية، ويصح أنْ يكون هذا تعريفًا للفلسفة عند سبينوزا، فالعلم البديهي إذن عنده يحاول أنْ يرى وراء الأحداث والحوادث التي تقع تحت حواسه قوانينها وعلاقاتها الخالدة، وعليه يفرق سبينوزا بين النظام الزائل المؤقت وهو عالم الأشياء والحوادث، وبين النظام الخالد وهو عالم القوانين الدائم.
علم الأخلاق
قيل أنّ كتاب “علم الأخلاق” لسبينوزا هو أنفس ما كُتب في الفلسفة الحديثة، وقد كتبه سبينوزا على نحو ما تكتب البراهين الهندسية، وكان غرضه من ذلك هو أنْ تكون نظرياته لها نفس وضوح النظريات الهندسية؛ فكان نتيجة ذلك أنْ جاء الكتاب غامضًا يصعب فهمه على الكثرة، فجاء كل جزء من أجزاء الكتاب معتمدًا على ما سبقه، وما عليك إلا أنْ تقرأ الكتاب كله وتفهمه، ورغم ذلك أيضًا ستجد صعوبة في فهمه، لأنّ سبينوزا قد يجر في استعمال المصطلحات الفلسفية مجرى غيره من الفلاسفة، بل غير فيها وبدل. ولقد اعترف سبينوزا نفسه بهذه الصعوبة فقال «هنا سيرتبك القارئ بغير شك، وسيذكر أشياء كثيرة ستنتهي به إلى الوقوف والحيرة». وإليك أهم ما جاء في الكتاب.
الله والطبيعة
رؤية سبينوزا لفكرة الله هي مذهب وحدة الوجود، وحدة الوجود بمثابة مذهب يرى أنّ الله هو الكل والكل هو الله. يذهب سبينوزا إلى أنّ في الكون حقيقة شاملة يسميها “جوهرا”، غير أنّ مدلول الكلمة عنده مختلف بعض الشيء عن معناها المباشر الذي نفهمه عادة من كلمة جوهر، كقولنا مثلاً أنّ الخشب هو مادة هذا القلم، بل أنه يقصد بكلمة جوهر هنا الحقيقة الكائنة وراء الأشياء، وأما هذه الأشياء التي تقع تحت الحواس فأعراض زائلة فانية، فأنت وجسدك وعائلتك وعشيرتك ونوعك الإنساني، ما هي إلا أعراض زائلة وفانية تنم عن حقيقة خالدة فيها، فقد يزول الشيء ويفنى، وتبقى الحقيقة الكامنة فيه لأنها لا تخضع لزوال أو فناء.
وللطبيعة عند سبينوزا مظهرين، فهناك طبيعة طابعة أو فعالة، وطبيعة مطبوعة أو منفعلة. والجانب المنفعل فهو الدنيا وما تحويه من جبال وسهول وأرض وماء وما إلى ذلك، وهذه الطبيعة المنفعلة من إنتاج الجانب الفعال وخلقه، ففي الكون قوة تخلق وهى ما يسميه سبينوزا جوهرًا، وأشياء مخلوقة وهى الأعراض أو العالم.
ويرى سبينوزا أنّ الله والطبيعة شيء واحد، وكل الأشياء تنشأ من طبيعة الله اللانهائية، كما ينشأ من طبيعة المثلث أنّ زواياه الثلاثة تساوي قائمتين، أو أنّ الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدائرة بالنسبة إلى الدوائر كلها.
العقل والمادة
وما دمنا بصدد دراسة العقل والمادة، فما هما؟ أيمكن أنْ يكون العقل ماديًا؟ وكيف يؤثر العقل في الجسم أو الجسم في العقل؟ يجيب سبينوزا أنّ العقل ليس مادة ولا المادة فكرًا؛ فلا يؤثر العقل في الجسم، ولا يؤثر الجسم في العقل. ولا هما مستقلان متوازيان، وليس هناك وجودان عقل ومادة- كما ذهب ديكارت-، بل إنّ في الكون شيئًا واحدًا، تراها من الداخل فكرًا ومن الخارج حركة، ثم هناك وجود واحد يظهر تارة عقلاً، وطورًا مادة. وليس في الواقع إلا مزيج مندمج من العنصرين، ومن جراء ذلك يكون سبينوزا قد أزال الفاصل بين الجسد والعقل، وجعل منهما حقيقة واحدة ذات مظهرين، ومادام الأمر كذلك فليس العقل والإرادة شيئين مختلفين، إنما هما حقيقة واحدة، وكل ما بينهما من فرق أو اختلاف هو اختلاف في الدرجة لا في النوع. إذن من الخطأ أنْ نزعم أنّ للعقل “ملكات” منفصلاً بعضها عن بعض فهذا خيال وذاك ذاكرة، وتلك إرادة وذينك رغبة، وهلم جرا. ما الأمر إلا هو- العقل- إلا سلسلة متصلة من الأفكار، مثلما نطلق لفظ “الإرادة” على سلسلة الرغبات والأفعال، ويمكننا أنْ نوجز كل هذا بمقولة أنّ «العقل والإرادة شيء واحد»، ويرى سبينوزا أنّ ما يسمى بالإرادة هو رغبات أو غرائز أساسها جميعًا حفظ الفرد، وعليه كل نشاط بشري مهما تنوع أو اختلف إنما هو صادر عن هذه الرغبة في حفظ البقاء، سواء شعر بذلك الإنسان أم لم يشعر، وكل غريزة ما هي إلا خطة هذبتها الطبيعة لكي تكون سبيلاً لبقاء الفرد، وما السرور والألم إلا بمثابة استجابة لغريزة أو تعطيلها، فهما ليسا سببين لرغباتنا بل نتيجة لها. هنا قد نخلص إلى نتيجة سبينوزا، إذا كان الإنسان مدفوعًا برغبة كامنة فيه لحفظ بقائه؛ إذن فلا مجال هناك لحرية الإرادة، لأنّ ما يحدد رغباته وغرائزه هو حب البقاء الكامن فيه.
العقل والأخلاق
للأخلاق الكاملة أو المثل العليا صور ثلاث: أولها ما دعى إليه بوذا والمسيح من رحمة ولين واعتبار الناس سواء. وثانيها ما دعى إليه مايكيافللي ونيتشه من حب القوة وعدم المساواة بين الناس. وثالثهما ما دعى إليه سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين أنكروا إمكانية تطبيق أحد المثاليين السابقين تطبيقًا مطلقًا، فلا القوة وحدها ولا الرحمة وحدها تستطيع أنْ تسود. تلك هي الصور الثلاث التي أدمجها سبينوزا في وحدة متجانسة، ليقدم للإنسانية بحثًا في الأخلاق هو أسمى ما وصل إليه في العصور الحديثة، فيبدأ سبينوزا باتخاذ السعادة عرضًا للأخلاق، وعرف السعادة بأنها انتفاء الألم، غير أنّ اللذة والألم نسبيان وليسا مطلقان، بل ليستا حالتين معينتين، بل هما حالتا انتقال، والعاطفة والمشاعر في حقيقتهما تحرك وانتقال نحو الكمال والقوة، والعاطفة والشعور لا يكون خيرًا أو شرًا في نفسه، ولكن بمقدار ما ينقص من قوتنا أو يزيد.
إنّ “الأخلاق” عند سبينوزا إغريقية الصبغة وليست مسيحية النزعة بوجه عام وذلك «ما دامت محاولة الفهم هي أساس الفضيلة الأول والأوحد» وهذا يذكرنا بسقراط الذي اعتبر الفضيلة علمًا.
الدين والخلود
كان سبينوزا يبشر في فلسفته بحب العالم الذي يعيش فيه، ولقد خفف من آلامه أنه كان يعرف أنه جزءًا من كل، وبما أنه جزء من الكل ولا شك وبطبيعة الحال فهو خاضع للقانون الثابت الذي يسير الكون كله، وعلى ذلك فالإنسان هو جزء من هذا الكل فهو خالد، وهذا الجزء الخالد هو الذي يدرك الأشياء كأجزاء من الكل الخالد، وكلما أمعن الإنسان في إدراكها على هذا النحو، كلما زاد فكره أبدية وخلودًا. اختلف في معنى الخلود هذا عند سبينوزا، فقال بعض الناس أنه يريد ذكرًا أو أثرًا أو شهرة، أي جانب العقل والفكر فينا سيبقى أثرًا وذكرًا فعالاً بعد الموت في الأجيال الباقية، وقال غيرهم أنه يقصد بالخلود هنا الخلود الفردي الشخصي، بيد أنّ سبينوزا هنا لا يعترف بالثواب وبالعقاب.
الرسالة السياسية
كان سبينوزا يكتب رسالته السياسية مدافعًا فيها عن الديموقراطية، في نفس العصر الذي كتب فيه توماس هوبز عن الملكية والحكم المطلق، ولقد جاءت فلسفة سبينوزا السياسية من القوة بحيث أصبحت ينبوعًا غرف منه جان جاك روسو ورجال الثورة الفرنسية.
ويذهب سبينوزا إلى أنّ الناس كانوا قبل نشأة المجتمع يعيشون فوضى لا ينتظم لهم قانون ولا يسود لهم نظام، وكانت القوة عندهم هي الحق ومن استطاع أنْ يظفر منهم بشيء فهو حق له؛ وإذن فلم تكن لديهم فكرة الصواب والخطأ أو العدل والظلم. وحالة الطبيعة هذه التي ليس فيها صواب وخطأ نستطيع أنْ نلمسها في علاقة الدول ببعض؛ حيث لا يربطها ما يربط أفراد المتجمع الواحد؛ إذ كل منها تسعى لنفعها بغض النظر عن الأخرى، وليس هناك “أخلاق” مرسومة تحدد التصرفات، وما ذكر عن الدول صحيح كذلك بالنسبة إلى الحيوانات فهي متنافسة متنازعة لا تعرف معنى التعاون أو الإيثار، كل هذا التنافر أو التنافس قد دفع الناس إلى التعاون وتكوين المجتمع، إذ لم يستطع الفرد بمفرده أنْ يدفع عن نفسه كل ما يهدد حياته من أخطار فمال بطبعه إلى النظام الاجتماعي، ولا يفهم من هذا أنّ الناس بطبعهم عند سبينوزا مهيئين للنظام الاجتماعي، لكن الخطر المحدق بهم هو فقط ما دفعهم إلى هذا النظام وولد فيهم فكرة “الاجتماع”. فالاجتماع هو الذي يولد التراحم والتواصل والتعاطف، كان سبينوزا وعلى العكس من توماس هوبز يميل إلى الديموقراطية ويمقت الملكية المستبدة؛ فالديموقراطية عنده هي خير أنواع الحكومات، بيد أنّ الديموقراطية عنده لا تخلو من عيب فادح؛ إذ هي تحمل السوقة إلى سدة الحكم ومراكز القوة؛ ولذلك يجب أنْ نخصص الحكم لذوي الكفاءة والدراية.
أخيرًا تأثير سبينوزا بعد موته
يقول ول ديورانت: «لم يحاول سبينوزا أنْ يضع مذهبًا، ولم يضع مذهبًا بالفعل، إلا أنّ أفكاره قد نفذت إلى الفلسفة بعد موته، لقد كان ممقوتًا ومنطويًا على نفسه بعض الشيء أثناء حياته». غير أنّ “ليسينج” هو من أعاد له بريقه وشهرته، وذكره بعد أنْ كان يتحدثون عنه باحتقار وكأنه كلب ميت، ولقد أثار دهشة “ياكوبي” بقوله أنه تأثر بسبينوزا إلى درجة كبيرة في أعوام نضجه، مؤكدًا أنّ لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا، وذلك في حواراه مع ليسينج، أما “هيردر” فقد استفلت بكتاباته عن سبينوزا اهتمام معلمي اللاهوت الأحرار بكتاب “علم الأخلاق”، ولقد أثار جاكوبي اهتمام “جوته” بسبينوزا، كما تأثر به شوبنهور ونيتشه، غير أنّ هيجل وإنْ كان قد قال عن فلسفته جافة ولا حياة فيها، إلا أنّه من أراد أنْ يتعلم الفلسفة- طبقًا لهيجل- عليه أنْ يقرأ سبينوزا أولاً، وقال عنه “أرنست رينان” وهو يختتم مراسيم التحية بعد إزاحة الستار عن تمثاله: «هنا تراءت- في غالب الظن- أصدق نظرة إلى الله».