أمام الأمريكيّين الّذين رفضوا ارتداء الكمامة أو الحصول على اللّقاح خلال الوباء مهمّةٌ صعبةٌ في تأسيس دفاعٍ فلسفيٍّ مقبولٍ لتبرير سلوكهم. فقد لا يجدون الإجابة عند المفكّرين اللّيبراليّين، بل عند مفكّرٍ فوضويٍّ شيوعيٍّ مثل باكونين.
لا توفّر الحجج الفلسفيّة المستخدمة عادةً في الدّفاع عن الحرّيّة الفرديّة في الولايات المتّحدة – جون لوك وجون ستيورات مل- مبرّراتٍ مقنعةً لتجاهل توصيات الصّحّة العامّة.
مذهب لوك في القانون الطّبيعيّ (Natural Law) ينصّ على أنّ النّاس مُنعَمٌ عليهم بحقوقٍ طبيعيّةٍ في «الحياة، والحرّيّة، والملكيّة» مبنيّةً على حقوقٍ تجاه الإله في حفظ النّفس، وأيّ سلوكٍ يعرّض الحياة للخطر يعدّ تعدّيًا على القانون الطّبيعيّ. لذلك، لا يوجد مبرّرٌ لرفض لقاحٍ آمنٍ وفعّالٍ خلال وباءٍ قاتلٍ.
والأمر نفسه عند مل، لا يساعد مبدأ الضّرر (Harm Principle) -الّذي ينصّ على أنّ النّاس أحرارٌ في القيام بما يريدون بشكلٍ عامٍّ ما لم يوقعوا ضررًا مباشرًا على الآخرين- أولئك الرّافضين للّقاحات والكمامات. قد تؤدّي أفعالهم إلى إطالة الجائحة، وإعطاء فرصةٍ للفيروس لأن يتحوّر وقد تجعل اللّقاحات غير فعّالةٍ؛ السّلوك الّذي يعرّض الجميع للخطر.
هناك إطارٌ أخلاقيٌّ آخر قد يلجأ إليه من يرفضون أخذ اللّقاحات أو ارتداء الكمامات، ولكن ربّما من مصدرٍ غير متوقّعٍ: المفكّر الفوضويّ الشّيوعيّ ميخائيل باكونين (Mikhail Bakunin) من القرن الـ19، المعروف بنزاعه الطّويل والعنيف بينه وبين صديقه الفيلسوف الألمانيّ كارل ماركس (Karl Marx). حيث دعت فلسفة باكونين في الفوضويّة إلى إلغاء الحكومة، والملكيّة الخاصّة وكلّ أشكال القسر.
كأستاذٍ للنّظريّة السّياسيّة، أرى أنّ باكونين لم يتمّ الاهتمام به في الجدال الخاصّ بالكمامات واللّقاحات. بعض آرائه مطابقةٌ للانتقادات ذات الخلفيّة اللّيبراليّة، على الأقلّ عن الحاجة إلى ارتداء الكمامات. بالرّغم من الاختلافات المهمّة، العديد من اللّيبراليّين يتّفقون معه في الاعتقاد القائل أنّ الحرّيّة هي أهمّ قيمةٍ وأنّ الحكومات قسريّةٌ بطبعها. قد يرتابون في باكونين لربطه الحرّيّة بالتّعقّل، وسيرفضون بالتّأكيد احتضانه للشّيوعيّة. ولكنّ اللّيبراليّين سيحترمون رغم ذلك شكّه تجاه السّلطة.
العلم كتهديد للحرية
قد لا يكون باكونين مصدرًا مناسبًا لاستخدامه لدعم العديد من المعسكر المعادي للّقاحات والكمامات. يبدأ نصّه الكلاسيكيّ المنشور في 1871 «الإله والدّولة» بطريقةٍ تؤكّد الإساءة إلى بعض عناصر الحقوق الدّينيّة. والّتي يستند إليها العديد ممّن يرفضون اتّباع توصيات الصّحّة العامّة بشأن اللّقاحات.
يهاجم باكونين المسيحيّة كونها عدوّةٌ للعقلانيّة والحرّيّة. إذا أراد النّاس أن يكونوا أحرارًا فعليهم، كما يجادل، أن يعرفوا القوانين الفيزيائيّة للكون والقوانين الاجتماعيّة للمجتمع ليجدوا ما يبنون عليه قراراتهم. إذا كان النّاس ينقادون للمعرفة الصّادقة، كما يقول باكونين، سيكون بإمكانهم أن يتّخذوا قراراتٍ ذكيّةً ويصبحوا فاعلين عقلانيّين مسئولين عن اتّخاذ قراراتٍ لأنفسهم.
لكنّ العلم أيضًا قد يكون تهديدًا عظيمًا للحرّيّة، كما يقترح باكونين؛ وهذا ما قد يتحمّس له العديد من المعارضين لفرض الكمامات واللّقاحات.
بالإضافة إلى حقيقة أنّ هناك حدودًا للمعرفة العلميّة، آمن باكونين أنّ هناك دائمًا احتمالًا أن توظّف السّلطات القسريّة العلماء لصالحهم.
إذا كانت العقلانيّة والمعرفة ضروريّتان للحرّيّة، كما يجادل باكونين، فإنّ من يحوزون المعرفة في وضعٍ يمكّنهم من إجبار النّاس على فعل أشياءٍ محدّدةٍ أو عدم فعلها.
لذا كان باكونين قلقًا من أن «يطالبوا بغطرسةٍ بحقّ التّحكّم في الحياة»، اعتمادًا على أهمّيّتهم في المجتمع. فقد كتب في 1873:
«يجب أن نحترم العلماء لأفضالهم وإنجازاتهم، لكن حتّى لا نفسد متسواهم الأخلاقيّ والثّقافيّ العالي، يجب ألّا يحصلوا علي أيّ امتيازاتٍ خاصّةٍ وألّا يحصلوا علي أيّ حقوقٍ غير الّتي يمتلكها الجميع؛ على سبيل المثال، الحرّيّة في التّعبير عن معتقداتهم، وفكرهم، ومعرفتهم. لا يجب أن يحصلوا -هم أو أيّ مجموعةٍ خاصّةٍ أخرى- على أيّ سلطةٍ على الآخرين. من يحصل على السّلطة سيصبح حتمًا جائرًا ومتسغلًّا للمجتمع.»
مستهلكو المعرفة المتشككون
حلّ باكونين لخطر قسر العلماء هو تقليل سلطتهم دون المساس بقيمة معرفتهم العلميّة. ليقوم بهذا، يجعل كلّ فردٍ مسئولًا عن التّعلّم والتّصرّف تبعًا للمعرفة الّتي يملكها. تلك الفكرة تدعو إلى استشارة العلماء للحصول على المعرفة، مع العلم أنّ من غير الممكن أن يوجد عالمٌ واحدٌ عنده جميع الأجوبة وأنّ المعرفة المتراكمة من جميع العلماء محدودةٌ ولا يمكنها أن تعطي حلولًا مثاليّةً.
بتطبيق نظريّة باكونين في الحرّيّة على الوباء في أمريكا، لن يجبر أيّ أحدٍ على أخذ اللّقاح. عوضًا عن ذلك، يجب أن يشجّع الشّعب على استقصاء فاعليّة وأمان اللّقاحات.
أمّا بالنّسبة للمجتمع العلميّ فهو بحاجةٍ إلى أن يفحص نفسه بدقّةٍ ويقدّم المعرفة بشكلٍ صادقٍ، وأن يعرض ما يعرفه وما لا يعرفه.
كان باكونين لينتقد بشدّةٍ المتفائلين السّذّج، وشديدي التّشاؤم. يحتاج النّاس إلى الحقيقة غير المزخرفة، بشكلٍ واضحٍ وبسيطٍ. إذا كانت الإجابة «نحن -العلماء- لا نعلم» فلا بأس.
اسأل، لكن كن عقلانيًا
نظرية باكونين في الحرّيّة تطلب الكثير من الشّعب. تطلب من الأفراد أن يعرفوا شيئًا عن طبيعة المعرفة العلميّة، وأن يسألوا أسئلةً راشدةً، ثمّ القيام بتحليلٍ عقلانيٍّ للأدلّة الموجودة. وتطلب من العلماء أن يفحصوا ذواتهم ورغبتهم في الشّهرة السّريعة ويقدّموا معرفتهم بطريقةٍ صادقةٍ وسهلة الفهم.
بالطّبع لم يكن باكونين سببًا في الحملات المضلّلة الموجودة على الإنترنتّ الّتي تعيق التّوجّه نحو المعرفة العلميّة الموثوقة. فقد كان يعتقد أن يجب على النّاس أن يدقّقوا معلوماتهم وأن يتّخذوا قراراتٍ عقلانيّةً. تلك القدرة، كما يرى باكونين، هي الشّرط الأساسيّ للحرّيّة.
لذا قد يجد المشكّكون في اللّقاح ملاذًا عند باكونين. إذا كانوا يسألون أسئلةً جيّدةً ولا يجدون إجاباتٍ شافيةً، فتقترح فلسفته أنّ عليهم أن يرفضوا اللّقاح بشكلٍ قاطعٍ. نفس الشّيء بالنّسبة لارتداء الكمامات: قد يجادل هو أن إذا لم يستطع المجتمع العلميّ توصيل سبب أنّ الكمامات لا زالت ضروريّةً بشكلٍ فعّالٍ، فلا ينبغي أن نتوقّع من النّاس أن يرتدوها.
في الوقت ذاته، من يناهضون الكمامات واللّقاحات بحاجةٍ إلى اتّباع العلم، وأن يسمحوا لأنفسهم بأن يقتنعوا بالبيانات، كما تقترح فلسفة باكونين.