ثلاثة أسباب يحتاج من أجلها الجدول الدوري لإعادة تصميم

8

“ثلاثة أسباب يحتاج من أجلها الجدول الدوري لإعادة تصميم” مقفل ثلاثة أسباب يحتاج من أجلها الجدول الدوري لإعادة تصميم|||

مرّر أصابعك على مفاتيح البيانو البيضاء، ستعلو النغمة كلّما اتجهت إلى اليمين حتى تصل إلى المفتاح الثامن، وهنا شيءٌ مذهل سيحدث: ستتعلّق نغمة ما في الهواء تتضمن شيئاً سمعته أوّل مرة، لكن بحدّة صوت مختلفة.

لقد لمحنا شيئاً مثل ذلك يتعلّق بالعناصر الكيميائية منذ أكثر من 150 سنة، وأطلق عليه العلماء لقب قاعدة الثمانيات. هذا التكرار في خواص العناصر التقطه الجدول الدوري بشكل مذهل، إذ تتجمّع العناصر المتماثلة في مجموعات وأعمدة، مجموعة تتضمن الغازات الخاملة مثل الأرجون والنيون التي بالكاد تتفاعل مع أي شيء، وأخرى تحتوي على العناصر النشطة، ومن بينها عنصر الفرنسيوم (francium) الذي ينفجر بمجرد اتصاله بالماء.

لكن هناك شكوك حول ما إذا كان الجدول الدوري الحالي يمثل أفضل ترتيب للعناصر.  فمثل النغمات التي تترتّب بطرق مختلفة لإنتاج أنواع مختلفة من الموسيقى، يمكن أيضاً تصوير جوهر العلاقات بين العناصر بشكل مختلف، ولا يمكن تقييم أيّ منها أفضل أو بشكل أدقّ أيّ منها أكثر صحة، لذلك ظهرت حجج حول العيوب المُتصوّرة للترتيب الحالي، إذ يقول بعض الكيميائيين إنه يجب نقل بعض العناصر، ويعمل آخرون على طرق أكثر جذرية لإعادة تشكيل الجدول بأكمله.

في البداية رُتبت العناصر وفقاً لوزنها الذرّيّ، لكن تنتظم حالياً العناصر في الجدول وفقاً لعدد البروتونات في نواتها، كما نعلم أنّ خواص العناصر تُحدد بشكل كبير بناءً على الإلكترونات سالبة الشحنة الموجودة في أغلفة متتالية حول النواة.

العناصر الأخفّ وزناً لديها غلاف (shell) واحد فقط يستطيع حمل اثنين من هذه الإلكترونات. تحتوي العناصر الأثقل على المزيد من الأغلفة التي يمكن أن تحمل أعداداً أكبر من الإلكترونات. ورغم ذلك فإنّ ما يهم فعلاً في سلوك كل عنصر هو عدد الإلكترونات الموجودة في غلافه الخارجي.

يميل هذا العدد إلى ملائمة طريقة ترتيب الجدول بشكل مذهل، أي وضع عناصر ذات خصائص متشابهة في نفس المجموعة. على سبيل المثال، تحتوي عناصر المجموعة الأولى على إلكترون واحد في غلافها الخارجي، بينما يوجد في المجموعة الثانية إلكترونان، لكنها لا تتوافق دائماً مع بعضها البعض بشكل كامل.

أين يذهب الهيدروجين؟

خذ العنصر الأول. للهيدروجين إلكترون واحد في غلافه الخارجي، لذا قد تفترض أنّه ينتمي بالضبط إلى مكانه، أي في المجموعة الأولى فوق الليثيوم والصوديوم اللذين يحتويان أيضاً على إلكترون واحد في غلافهما الخارجي. لكنّ الهيدروجين عبارة عن غاز، وليس معدناً، لذا لا تتناسب خصائصه.

ويزداد التعقيد مع وجود غلاف خارجي لا يستطيع حمل أكثر من إلكترونين فقط، إنّ للهيدروجين إلكتروناً واحداً فهو بعيد كل البعد عن امتلاء غلافه الخارجي. وبالنظر إلى أنّ العناصر تتوق إلى الأغلفة الخارجية الممتلئة بالكامل، فإنّ ذلك يجعلها شديدة التفاعل. وبهذا المعنى يشبه الهيدروجين العناصر الموجودة في المجموعة 17، وهي الهالوجينات (مثل الكلور) التي تحتاج أغلفتها الخارجية إلى كسب إلكترون واحد فقط للحصول على غلاف كامل مؤلّف من ثمانية إلكترونات، وهذا ما يجعلها متماثلة من حيث التفاعلية. فمن حيث خصائصه إنّ الهيدروجين أقرب إلى الكلور من الليثيوم.

لماذا الذهب والزئبق بهذه الغرابة؟

لا توجد أسفل الجدول مسافات متاحة لعناصر في غير أماكنها. ومع ذلك، إنّ عنصرين من أصحاب المناصب المُثبَتة يشبهان الخارجين عن السرب. فالزئبق المعروف أيضاً باسم الفضة الجاهزة (quicksilver) لأنه سائل في درجة حرارة الغرفة، يختلف بذلك تماماً عن العناصر الأخرى في المجموعة 12، بما فيها الزنك والكادميوم، وجميعها معادن صلبة. ما سبب ذلك؟

كلما توغلتَ أكثر في أسفل الجدول زادت البروتونات المشحونة إيجاباً في نواة العنصر. وهذا يخلق قوة شدّ أكبر على الإلكترونات التي تدور في مداراتها حول النواة، ممّا يعني أنّها يجب أن تسير بشكل أسرع وأسرع. وعندما نأتي إلى الزئبق، حيث تسافر الإلكترونات بنسبة 58% من سرعة الضوء، فإنّ هذا يعني وفقاً لنظرية أينشتاين الخاصة بالنسبية أنّ كتلتها الفعالة أعلى بكثير من الكتلة الطبيعية للإلكترون، مما يؤدي إلى زيادة قوة السحب الداخلي الذي تشعر به.

والنتيجة هي أنّ إلكترونات الزئبق تدور بقوة لا يمكن تقاسمها لتشكيل روابط مع ذرات أخرى، كما هو مطلوب لصنع مادة صلبة. والشيء ذاته يفسّر لماذا الذهب هو ذهب، بلونه الفريد بين المعادن؛ إذ تغيّر التأثيرات النسبية طريقة امتصاص الإلكترونات للضوء.

لغز الفئة F

تحتوي المجموعة الثالثة على عنصرين قد ينتميان إلى مكان آخر. وبينما ننتقل عبر الصفوف العليا للجدول، تملأ الإلكترونات الأغلفة في سلسلة من المدارات (orbital) المزعومة، وهي تنتظر امتلاء الغلاف الداخلي قبل دخولها في الغلاف التالي. وعند العنصر 57 (اللانثانيوم) تبدأ الإلكترونات بإدخال نوع جديد من المدارات: المدار F. ومن أجل هذا، إنّ معظم الجداول الدورية تقوم بتقطيع العناصر المكونة لهذه الفئة، ووضعها أسفل الجدول، وترك فجوة في المجموعة الثالثة.

هذا عادل بما يكفي. لكن هناك جدل حول أيّ من العناصر الموجودة في هذه الفئة يجب أن يأتي أولاً. ويرى بعض الكيميائيين أنّ القرار يجب أن يحسمه التشكيل الإلكتروني (electron configuration) الذي سيترك الجدول كما هو، أي مع اللانثانيوم والأكتينيوم في الطرف الأيسر للفئة. ويشير آخرون إلى أن الخصائص الكيميائية مثل نصف قطر الذرة ودرجة الانصهار تجعل اللوتيتيوم (lutetium) واللورنيريسيوم (lawrencium)-وهما في الوقت الحالي في الطرف الأيمن- رهاناً أفضل. في عام 2016 قام (الاتحاد الدوليّ للكيمياء البحتة والتطبيقية-IUPAC) بتشكيل مجموعة مهمتها تسوية هذا الخلاف، لكن لا أحد يتوقّع قراراً قريباً.

ابتداءً من جديد

أقنعت كلّ هذه الانتقادات بعض الكيميائيين بأنّنا بحاجة إلى إعادة رسم الجدول الدوري-وليس هناك نقص في الأفكار. يحافظ مارك ليش (Mark Leach) في جامعة مانشستر متروبوليتان في المملكة المتحدة على قاعدة بيانات الإنترنت الخاصة بالجداول الدورية، وهي تحتوي على مئات الإصدارات.

في محاولة لتمثيل الاستمرارية بشكل أفضل عندما ينتهي صف ما، قام الكيميائي الكندي المتقاعد فرناندو دوفور (Fernando Dufour) بتطوير جدول دوريّ ثلاثي الأبعاد يشبه شجرة عيد الميلاد، حيث العناصر المشعة من جذع في دوائر تصبح أكبر من جهة القاع. البديل هو اللولب الذي طوره تيودور بنفي (Theodor Benfey)، وهو يسمح للفئة F بأن تبرز للخارج.

هذا إعادة تصوّر الجدول الدوري الذي اقترحه الكيميائي تيودور بنفي في عام 1964، وهو يؤكد على استمرارية العناصر بدلاً من فرض فواصل اصطناعية.

إريك سكيري (Eric Scerri) من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس هو من بين أولئك الذين طالبوا بإجراء المزيد من التغييرات الأساسية. وكان قد اقترح في السابق أنّ الجدول يمكن ترتيبه لزيادة عدد الثلاثيات (triads)، وهي مجموعة من ثلاثة عناصر تتشارك بخصائص متماثلة وترتبط بأوزانها الذرية. وفي هذه الأيام كان يدعم نهجاً أكثر تشدداً: اجعل الجدول يحتوي على 32 عموداً وليس فقط 18 عموداً وذلك بوضع جميع عناصر الفئة F بين المجموعتين الثانية والثالثة، وهذا يسمح للعدد الذري بالعمل في تسلسل غير متقطع.

لكن جيليرمو ريستريبو (Guillermo Restrepo) في معهد ماكس بلانك للرياضيات في العلوم في ألمانيا يفضّل وجود بديل. لقد حاول استكشاف ما إذا كان التشابه الكيميائي للعناصر في نفس الأعمدة لا يزال قائماً كما كان قبل 150 عاماً، وذلك نظراً لمعرفتنا المتزايدة بالتفاعل الكيميائي. استنتاجه هو أن اللانثانيوم ينتمي إلى المجموعة الثالثة-وهذا خارج التسلسل.

قد يبدو إعادة تصميم الجدول الدوري مهمة بحثية غير واقعية، لكن قد يؤخذ الأمر قريباً على محمل الجد. نحن بالفعل بانتظار إيجاد العنصر 119. أين سيكون؟ وكيف سيُعاد تشكيل الجدول لإفساح المجال له؟ يبقى أن نرى.

المصدر

ترجمة/ خالد عاطف رحومة
مراجعة علميّة: د. نهى النجدي
تدقيق لغوي: رؤى زيّات

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي