يقول حافظ إبراهيم:
«لم أرَ كالشرقيين رجالًا، تكمُنُ القوةُ في أفرادِهم ويظهرُ الضَّعفُ في مجموعِهم»
لنجعلها بدايةً نمطيّة، فالقادم ليس نمطيًّا على الإطلاق. حافظ إبراهيم فهمي، ابن مهندس الريّ المصري إبراهيم فهمي والسيدة هانم أحمد ذات الأصول التركية. كان يقطن والدا حافظ بمحافظة أسيوط، حيث كان يعمل والده مهندسًا بقناطر ديروط، وحيث ولد أحد أعظم الشعراء في عصره لاحقًا عام 1872. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى علمت الأسرة بخبر وفاة المهندس إبراهيم رب المنزل، فقررت زوجته اصطحاب ابنها والسفر إلى القاهرة لتسكن مع أخيها المهندس محمد نيازي الذي انتقل بعد ذلك إلى طنطا، ولكنه قرر اصطحاب أُخته وابنها معه.
الحياة مسلسل لا ينتهي من التعاسة!
دعونا لا نتحدث عن الحياة المثالية، والتي لن تعني أي شيء إذا تحدثنا عن حافظ إبراهيم، أحد أهم شعراء جيله. كان حافظ التمثيل الحي لعبارة (الفاشل دراسيًا)؛ فقد حاول وجاهد معه خاله كثيرًا ليجعل منه تلميذًا ناجحًا، لكنه فشل، فضاق بخاله الحال وشعر حافظ إبراهيم بهذا الأمر، فهجر المنزل. بدأ الفتى الصغير رحلته مع التعليم حينما دخل الكُتَّاب بحي القلعة ليحفظ القرآن، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية، ثم إلى أخرى، ثم التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية والتي لم يتم دراسته بها لانتقال أسرته لطنطا. عمل بالمحاماة ولكنه أخفق فيها أيضًا، فالتحق بالمدرسة الحربية حيث مكث بها أربع سنوات، ثم عين بعد تخرجه موظفًا برتبة ملازم ثان، ثم رقي إلى ملازم أول، لكنه للأسف أخفق في وظيفته فأُحيل إلى الاستيداع. سافر عام 1896 إلى السودان مع الحملة التي قادها (كتشنر) لاسترجاعها، وبقى هناك أربع سنوات، ثم ماذا؟ أجل النتيجة المتوقعة، تم طرده. بقى حافظ إبراهيم عاطلًا عن العمل 11 سنة كاملة، منذ عام 1900 حتى 1911، فترة عانى فيها بشدة، فترة اضطرته أن يقبل أفضال ذوي الفضل من معارفه وأصدقائه، قبل أن يتم تعيينه موظفًا بـدار الكتب المصرية حتى أُحيل إلى المعاش في فبراير 1932.
مسيرتك حيث يكمن شغفك
كان حافظ إبراهيم يحب عالم الأدب وكتبه والقراءة فيه منذ صغره، وتعلق بشعر البارودي ودواوين كبار الشعراء الإسلاميين والعباسيين، كما أتيحت له الفرصة للتواصل مع الشيخ محمد عبده وبغيره من الكثير من المفكرين، الأمر الذي أكسبه الكثير من الثقافة والمعرفة وأضاف له رصيدًا عظيمًا من العلم. ومن حسن حظ حافظ إبراهيم أنه نضج في فترة كانت تحتل فيها الثقافة الأدبية مكانًا مرموقًا من الصحف والمجلات، والتي نهل منها حافظ الكثير والكثير من الأدب، سواء القديم أو الحديث.
من رحم المعاناة يولد الإبداع
لا نستطيع القول أن الظروف التي نشأ فيها حافظ إبراهيم كانت هي فقط العقبات التي واجهها في حياته، كموت والده المُبَكّر مثلًا، وما لاقاه من عوز وحاجة وألم بعد أن أصبح يتيمًا، وما لاقاه كذلك في بيت خاله، والذي كتب له حافظ:
ثقلت عليك مؤونتي .. إني أراها واهية
فافرح فإني ذاهب .. متوجه في داهية
البيتان اللذان رغم ما فيهما من ضعف، إلا أنهما معبران جدًا عن حالته البائسة في ذلك الوقت. لكن الأمر كان يتعلق بشخصيّة حافظ نفسها، فكما عانى في الدراسة بسبب عدم حبه لها، عانى في حياته العمليّة كذلك، ولولا تقدير المسؤولين لموهبته الشعريّة الفذّة لما بقى في وظيفته بدار الكتب طيلة ما يزيد عن العشرين عامًا، الوظيفة التي لم يضف لها أي شيء يتعلق بوظيفته، كما أنه لم يكن يجيد من اللغات الأجنبية سوى الفرنسية، والتي لم يتعمق كثيرًا في آدابها. كان حافظ متلافًا مبذرًا لدرجة السَفَه، فكان لا يطيق بقاء قرش في جيبه حتى في تلك الأيام التي لا يملك فيها مصدر رزق معين، لكنه كان صافي القلب لا يحمل حقدًا لأحد، يمكن القول أنه كان فيه شيئًا من سذاجة العباقرة، لكنه كان غيورًا جدًا على كرامته إذا مسها أحد بسوء. كما كان يكن وفاءً عظيمًا لأصدقائه، فكان يبكي بشدة إذا وافت أحدهم المنية.
لم يكن حافظ إبراهيم شاعرًا فقط
إذا تحدثنا عن أكثر ما برع فيه حافظ، وهو الشعر، فسنجد أنه ترك ديوانًا لم يطبع سوى بعد وفاته بخمس سنوات، وعلى جزئين مرتبين حسب الموضوعات. لكنه لم يكن شاعرًا فقط، فقد ألف مجموعة قصصية، والتي تحمل اسم «ليالي سطيح»، والتي كانت عبارة عن نقد اجتماعي، وعرض فيها حلوله الخاصة للأمراض التي كان يعاني منها المجتمع في ذلك الوقت. لم يقتصر الأمر عند حد التأليف، فقد ترجم أعمالًا من الفرنسية للعربية، مثل الملحمة الشهيرة لفكتور هوجو «البؤساء»، وكتابًا صغيرًا في الأخلاق، كما اشترك مع الشاعر اللبناني خليل مطران في ترجمة كتاب «الموجز في علم الاقتصاد» على خمسة أجزاء، لكن جدير بالذكر أنه عانى كثيرًا وواجه مشقات عديدة في ترجمة تلك الأعمال لعدم تعمقه في تلك اللغة.
لمحة عن مواطن براعة حافظ إبراهيم
اتفق الكثير من النقاد والأدباء على أن حافظ لم يكن يتمتع بالخيال العظيم، لكنه كان بارعًا للغاية في تجسيد إحساسه ومشاعره في كتاباته. وإذا تحدثنا عن أكثر المواضيع التي برع فيها سنجد أن فن (الشكوى) هو أول ما كتب فيه في حياته؛ فالبيتين اللذين تركهما لخاله كان من أول ما كتب. كذلك من الفنون التي برع فيها حافظ في الشعر فن الرثاء، فيمكننا اعتبار أن هذا هو النوع المفضل لديه، فقد كتب فيه كثيرًا ورثى العديد من الزعماء والسادة وأصدقائه كذلك، فهو يقول مبرهنًا ذلك:
«إذا تصفحت ديواني لتقرأه، وجدت شعر المراثي نص ديواني»
ويُعَدّ من أصدق وأبرز ما كتب في الرثاء ما كتبه في نعي الشيخ محمد عبده، أستاذه وصديقه ومن أفاده كثيرًا كإنسان قبل أن يكون أديبًا:
«سلامٌ على الإسلام بعدَ مُحمد .. سلامٌ على أيامِه النَّضرات على الدِّين والدُّنيا، على العلمِ والحجى، على البرِّ والتَّقوى، على الحسَنَات»
اشتهر حافظ كذلك بأنه شاعرٌ اجتماعي، وساعده في أن يكون من أبرز من كتب في هذا النوع على الإطلاق هو نشأته وحياته القريبة من الشعب، ومجالسته للمصلحين الاجتماعيين في ذلك الوقت والذين كانوا ينقلون ما يشعر به الناس، فكان يجسد حافظ ما يشعر به الناس وما يؤلمهم وما يسعدهم في شعره، بل يمكن أن نقول أن شعر حافظ كان سجلًا لكل القضايا الكبرى في حياة المجتمع المصري، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين؛ فقد تحدث عن الطفولة المشردة، وعن المدارس، وعن المرأة، وعن غلاء الأسعار. كما كتب حافظ عن الوطن والحرية والاستقلال، وفي المدح والهجاء والوصف والدعابة، وربما من أبرز وأشهر ما كتب في الدعابة على الإطلاق ما حدث بين الصديقان شوقي وحافظ حينما داعب الأخير الأول قائلًا:
«يقولون أن الشوقَ نارٌ ولوعة فما بال شوقي أصبحَ اليومَ باردًا؟!»
فرد عليه شوقي بكل ما أوتي من خبرة:
«وأودعتُ إنسانًا وكلبًا أمانةً.. فضيَّعها اﻹنسانُ والكَلبُ حافظٌ!»
كيف رآه غيره
«شاعر النيل» هكذا لقبه، لقب تستطيع أن تعرف من خلاله المكانة التي احتلها حافظ في عصره. هناك من فضّلُه على شوقي، وهناك من عاب شعره ورماه بالتكلُّف. قال فيه المنفلوطي «اسمه فوق حقيقته»، وقال عنه أحمد أمين: «أما خياله فكان، مع الأسف، خيالًا قريبًا قلل حظه من الابتكار وقلل حظه من التصوير»، وقال طه حسين عنه وعن شوقي: «هما أشعر العرب في عصرهما»، وقال: «أما أنا فلا أستطيع أن أقول: إن أحد الشاعرين خير من صاحبه على الإطلاق»
اليوم.. يوم الرحيل
21 يوليو 1932.. لم يكن يومًا عاديًا، فهو اليوم الذي عرف في الشعب أن روح من كان يعبر عنهم في أشعاره صعدت إلى بارئها، في ذلك اليوم، وبعد ستين عامًا من التجارب، توقف قلب حافظ، ومعه توقفت مسيرته، لكن لم تتوقف سيرته، فحتى اليوم ما زلنا نتذكر كتاباته وأشعاره، ما زلنا نتذكره كأحد أقطاب الشعر العربي على الإطلاق، ما زلنا نتذكر مواقفه إنسانًا قبل أن يكون شاعرًا، ما زلنا نتفاخر بأنه من تلك البلد خرج حافظ إبراهيم، شاعر الشعب، شاعر النيل.
المصادر
حسن العماري علي محمد. التاريخ الأدبي للعصرين العثماني والحديث. دار أخبار اليوم, 2013.
كتابة وإعداد: أحمد فهمي
مراجعة: آلاء محمد مرزوق
تحرير: زياد الشامي