· هكذا يعلمنا فلاسفة الوجود أننا وحدنا المسؤولون عن خلق معنى للحياة في عالم غير معقول.
تقف على شفا جرفٍ وتشعر بعدم الاتزان والارتباك؛ خوفك الوحيد ليس فقط السقوط وإنما ينتابك أيضًا الخوف من الاستسلام ودفع نفسك للقفز!
لا شيء يمكنه ردعك، تعتلي نفسك مشاعر الرهبة والقلق!
يصف الفيلسوف الدنماركي (سورين كيركغور- Søren Kierkegaard) هذه الحالة بالقلق الوجودي؛ فالنقطة التي تقف فيها على شفا الجرف هي أيضًا النقطة التي تختبر فيها حريتك بلا حواجز. يمكنك القفز حيث اللاعودة ويمكنك أن تتشبث بمكانك. يوضح كيركغور الذي يقترح أننا نواجه نفس القلق عندما يتعلق الأمر باختياراتنا الحياتية أن إدراك مدى الحرية التي نمتلكها يجعلنا نشعر بالدوار؛ فكل فعل نقوم به هو اختيارنا نحن لا اختيار أحد سوانا.
يرى كيركغور أن الحياة سلسلة من الاختيارات وأن تلك الاختيارات في وسعها أن تضفي على حياتنا معنًا أو تُسلبه. تعد هذه الرؤية حجر الزاوية للفلسفة الوجودية. يصبح الإنسان فيها هو المسؤول الوحيد عن خلق حياة أصلية (authentically) ذات معنى بدلًا من تحميل المجتمع أو الدين المسؤولية.
اهتم الفيلسوف الألماني (مارتن هايدجر- Martin Heidegger) بمفهوم أصلية الحياة؛ فتساءل لماذا تفقد خططنا اليومية معناها عندما نواجه الموت؟ عندما يموت صديق أو قريب يدفعنا هذا لمسار جديد فربما نترك وظائفنا ونتوقف عن القلق بشأن ترهات الحياة اليومية ونتفكر فيما كنا نتجاهله من قبل.
يقترح هايدجر في كتابه (الوجود والزمان- Being and Time) أن معنى وجودنا يجب أن يكون مرتبطًا بالزمن؛ فنحن كائنات مؤقتة ولدنا في عالم كان موجودًا قبلنا بدينه وثقافته وتاريخه مكتوب بالفعل ولندرك هذا العالم ننهمك في المُلهيات. نبني أسرة ونحسن مسارنا المهني ونشيد منزل وبينما نقوم بذلك نضع لأنفسنا تصور ما عن مستقبلنا. لكن هناك نقطة زمنية تتوقف عندها كل مشروعاتنا سواء أنهينها أم لا؛ تلك النقطة هي موتنا. يُسمي هايدجر هذا بـ (الوجود المتجه نحو الموت- being-towards-death). سُرعان ما ننهمك مجددًا في تلك المُلهيات حتى تُنسينا النهاية التي سيقف عندها كل ما نسعى لفعله. يقول هايدجر أنه بهذه الطريقة نعيش حياة غير أصلية؛ فلا تصور لحياة أصلية إلا بوجود الموت في خلفية كل ما نفعله.
الأصالة والإعلام
نعود ثانيةً لكيركغور حيث يرى أن الإعلام يمثل عقبة في أن نحيا حياة أصلية؛ فثقافة الجماهير التي تروج لها وتنشرها وسائل الإعلام تمحي الفردية الإنسانية كما تُحجم فرص الفرد في خوض تجارب حقيقية فريدة. يعني مصطلح ثقافة الجماهير؛ مجموعة الأفكار التي تُحدد الذوق العام وتضع المقاييس التي نستخدمها جمعيًا في النهاية لتقييم حياتنا. فبدلًا من أن ينبع تصور الإنسان لحياته من معاملاته الشخصية مع من حوله وتجاربه الفريدة فإنه يتبنى وجهة نظر الإعلام؛ فننتهي جميعًا إلي الإعجاب بفنون معينة دون أخري ونؤمن بتصور واحد عن الحياة المثالية دون النظر إلي البدائل التي قد تكون أنسب لحالتنا. يُسمي كيركغور هذا المحو للفردية الإنسانية بـ (التسوية- Leveling) أي أن نشترك جميعًا في نفس المستوى الذي نتبنى فيه هذه الثقافة الجماهيرية.
تكمن الحقيقة في الأفعال
يخبرنا فيلسوف وجودي أخر (جان بول سارتر-Jean-Paul Sartre) أننا وحدنا تمامًا وأننا قد تُركنا على سطح الأرض وسط مسؤوليات لا نهائية. ليس لدينا هدف غير الذي نحدده لأنفسنا ولا مصير ينتظرنا سوى الذي نكتبه بأيدينا. يظل الكثير منا مع ذلك في حالة من الإنكار لتلك المسؤوليات.
إن سارتر حاد وغير متساهل ففي عمله (الوجودية هي الإنسانية-Existentialism is a Humanism) يؤكد أن رأيه يُرعب الناس فليس ليديهم منفذ أخر لينجوا من شقائهم إلا أن يفكروا بأن الظروف كانت تعترض طريقهم وأنهم يستحقوا حياة أفضل من التي لديهم وأنهم لم يحصلوا على تجربة حب رائعة أو صداقة غير عادية لأنهم لم يلتقوا بأشخاص جديرين بها. لم يقوموا بكتابة كتب عظيمة حيث لم يكن لديهم وقت الفراغ الكافي لفعل ذلك. ليس لديهم أطفال يرعوهم لأنهم لم يجدوا الشخص المناسب ليشاركوا معه حياتهم. ففي داخلهم الكثير من الميول والاحتمالات الغير مجربة ولكنها مع ذلك قابلة للتطبيق وذلك يمنحهم فضيلة غير مبررة أو واضحة من أي من أفعالهم السابقة.
أما بالنسبة للفلاسفة الوجوديين؛ لا يوجد حب وإنما أفعال الحب ولا عبقرية إلا المتمثلة في أعمال الفن، فعبقرية بروست (Marcel Proust) (روائي فرنسي) تكمن في مجموع أعماله وعبقرية راسين (كاتب مسرحي فرنسي) تتجلى في تراجيدياته غير ذلك لا يوجد شيء.
يعترف سارتر بأن هذه الفكرة تعد قاسية على الأشخاص الذين لم يحققوا النجاح في حياتهم. لكنها تساعد الناس على فهم أن ما يُعتد به فقط هي الحقيقة وأن الأحلام والتطلعات والأماني تخلق إنسان بائس، مُجهض الأحلام وعقيم التطلعات؛ فإنها لا تؤثر عليه إيجابًا بل سلبًا. بالنسبة إلي سارتر؛ لسنا سوى مجموع أفعالنا.
يشير المبدأ الأول للوجودية إلى أن الوجود يسبق الجوهر. أي أن؛ على خلاف آلة طهي البيض المُخترعة لتسوية البيض، ليس للإنسان هدف معين من وجوده. نحن من نبدأ في وقت لاحق بعد وجودنا في هذا العالم في تحديد أهدافنا والتي ليس لها معنى هي الأخرى إلا من خلال أفعالنا. كتب سارتر: «الإنسان ليس سوى مشروعه الخاص».
لكننا نقوم بخداع أنفسنا فنعتقد أنه مُقدر لنا مُسبقًا أن نصبح ما أصبحنا عليه؛ بحيث نُلقي بمسؤولية أفعالنا على الآخرين أو على منظومة أخلاقية ما. يُصر سارتر عليه هو أن الواقع هو الأفعال وأننا مسؤولون بالكامل عن رسم لوحات حياتنا الخاصة التي لا يوجد شيء خارجها.
التلاعب بالرغبات
القول بأن لدينا الحرية المطلقة للسعي نحو أهدافنا فهذا يفرض عدم وجود ما يقف في طريقنا. وبالطبع، الأمر ليس كذلك.
ترى (سيمون دي بوفوار-Simone de Beauvoir) فيلسوفة وجودية أخرى في عملها (أخلاقيات الغموض- The Ethics of Ambiguity) أنه في مرحلة الطفولة لا يتحمل الإنسان أي مسؤولية فيعيش في عالمًا جاهزًا بقيم جاهزة هي الأُخرى. ما يحدث هو أننا ننضج ونكبر ونبدأ في استكشاف حريتنا والأخذ بزمام الأمور. على الرغم من ذلك، الكثير منا يعودون أدراجهم ويستعينون بطرق الطفولة مجددًا؛ مفضلين بذلك الاحساس بالأمان على الحرية. لماذا يحدث هذا؟
يُعزل بعضنا عن أهدافه والكثير منا يتم التلاعب به ليسع خلف رغبات لم يريدها يومًا. قد نوجه نحو مساعي غير مثمرة فينتهي بنا الأمر بمستقبل ليس له معنى. تَكمُن المعضلة في كون الأشخاص الذين يتم التلاعب بهم غير مدركين لذلك؛ فهم يروا العالم كمكان لا يمكن تغييره كما لو كان (الوضع الطبيعي). المفر الوحيد طبقًا لدي بوفوار هو الثورة أو التمرد فالمضطهدون لن يحصلوا على حرياتهم إلا من خلال التمرد.
تقول دي بوفوار في جملتها الشهيرة: «تُنهك الحياة بكلٍ من تكرار وتجاوز نفسها! وبحدوث ذلك؛ فإنها تحافظ على نفسها -كالإشارتين الموجبة والسالبة لتضفي حالة من التوازن-، ومن ثم توجد حياة فقط لا موت». الحياة هي التغير المستمر، أي أنها؛ نظام غير مستقر يُفقد فيه التوازن ويُعاد باستمرار. طبقًا لبوفوار؛ الجمود هو الوجه الأخر للموت.
ترجمة: فاطمة محمود التلواني.
مُراجعة: مُحمد فتحي.
تصميم: وائل ياسر.
المصدر:
You are your life, and nothing else | New Philosopher [Internet]. [cited 2018 Apr 19]. Available from: http://www.newphilosopher.com/articles/you-are-your-life-and-nothing-else/