ديكاميرون لبوكاتشيو.. رائعة أدبية عن الطاعون والتأقلم

9781841593227

ديكاميرون والطاعون

«في عام الرب 1348 حدث هناك في فلورنسا، خِيرة المدن في إيطاليا بأكملها، الطاعون الأسوء على الإطلاق..»

يفتتح جيوفاني بوكاتشيو مجموعته الروائية القصيرة المعروفة، ديكاميرون، بإشارة إلى الكارثة الوجودية الأكثر رعبًا في وقته؛ وهي الآثار المُهلِكة لانتشار الطاعون الدُبلي في عام 1348 الذي عُرِف بـ «الموت الأسود»

واشتهر كتاب بوكاتشيو الذي ألفه في الفترة بين عاميّ 1348 و1353 كمثال للنثر الأدبي العامّي المُتقن الذي يجسد الآفة التي اجتاحت أوروبا خلال هذا العام. كما ظلّ الأطباء وعلماء الأوبئة يستشهدون بهذا العمل الأدبي الكلاسيكي لطاعون القرون الوسطى حتى هذا اليوم؛ لتصويره الحيّ للمرض الذي أوقع المدينة تحت الحصار.

وفي مقدمة كتابه، يُقدِر بوكاتشيو تسبب الطاعون في وفاة ما يزيد عن مئة ألف شخص داخل حدود مدينة فلورنسا، وهو ما يزيد عن نصف سكان المدينة، وذلك بين مارس 1348 ويونيو من نفس العام. إذ يصف بوكاتشيو بحيويّة المعاناة الجسدية والاجتماعية والطبيّة في عصره، فيكتب عن الموتى في الشوارع والمحاصيل المتعفنة وبثور الطاعون وانتفاخ الغدد التي عُرِفت بـ«الدُبل»، وحجمها الذي يكون في بعض الأحيان كالبيضة وأحيان أخرى يصل لحجم التفاحات، بالإضافة إلى الكدمات وسواد الجلد الذي يسبق الموت.

ديكاميرون لبوكاتشيو.

وتعقُب مقدمة بوكاتشيو بعشرة أقسام تحتوي على قصصٍ قصيرة. وكل حكّاءٍ من العشرة الموجودين في الكتاب يقصّون قصة يوميًا لمدة عشرة أيام. وتعني كلمة «ديكاميرون»، المأخوذة من اليونانية، عشرة أيام، وهي تحوي تلميحًا لكتاب سانت أمبروز (هيكسايميرون- Hexaemeron) المعروف بكونه سردًا شعريًا لقصة الخلق (جينسيس-  Genesis) يحكيهاخلال ستة أيام.

وديكاميرون قصّةٌ عن التجديد والإحياء في مواجهة الجائحة المُهِلكة. وأرجع بوكاتشيو سبب الجائحة المريعة إلى التأثيرات السماوية الخبيثة أو العقاب الإلهي على الظُلم في مجتمع فلورنسا.

طاعون فلورنسا 1348 كما وصِف في ديكاميرون.

التباعد الاجتماعي وأغطية الأنف المُعَطرة

بخلاف طاعون 1340 الذي تسبب في موت ما يقدر بخمسة عشر ألف مواطن فلورنسيّ، فإن طاعون 1348، وفقًا لبوكاتشيو، كان أكثر عدوًى وشِدةً وينتشر أسرع. ومن وجهة نظر بوكاتشيو؛ كان من المذهل عدم اقتصار المرض على الانتقال من البشر إلى البشر ولكن عبوره إلى الأنواع الأخرى أيضًا، إذ شاهد موت اثنين من الخنازير في لحظات بعد قضمّ ملابسٍ أصابتها العدوى في الشارع.

وكانت السلطات في فلورنسا تتخلص من المخلفات والملوثات المنزلية بالمدينة في محاولة للحدّ من الوباء المُميت، كما منعت الأشخاص المصابين بالعدوى من الدخول إلى المدينة. وأصدرت السلطات التماساتٍ عامّةً ونصحت المواطنين بالإجراءات المتبعة التي يمكنها التقليل من مخاطر العدوى مثل التباعد الاجتماعي وزيادة النظافة الشخصية.

وفي نفس المقدمة يُعرِّج على الأشخاص الذين هجروا المرضى لحماية صحتهم الخاصّة وهو ما تسبب في تدهور النسيج الاجتماعي. فالتفسير المتطرف للتباعد الاجتماعي قاد الناس إلى تجنب الجيران وأعضاء من عائلاتهم الممتدة. ويكتب بوكاتشيو أنه في بعض الحالات يهجر الوالدان أطفالهم.

وبينما يتبع البعض إجراءاتٍ محافظةً من العزلة في البيوت بأعداد قليلة وتناول الطعام والشراب باعتدال إلى جانب تجنب التواصل مع الخارج، فإن البعض يتجولون بحرّية ويشبعون حواسهم ويرضون رغباتهم في الطعام والترفيه والجنس:

«يُرضون كل ما يتُوقون له ويضحكون ويسخرون من كل حادثٍ حزين، لقد نذروا قضاء كل يومٍ وليلة، فيتنقلون بين حانة وأخرى ويعيشون بلا أي قيودٍ أو فروض»
ديكاميرون، بوكاتشيو.

مخطوطة لديكاميرون.

على جانب آخر كان البعض يستهلكون فقط ما يحتاجه جسدهم ومنعوا التواصل مع المصابين، ولكنهم تجولوا أينما أرادوا حاملين مجموعة من الزهور المُعطرّة والأعشاب أو التوابل أو ارتدوهم حول أنوفهم في محاولة لصدّ العدوى والرائحة النفاذّة للموت.

يرثي سرد بوكاتشيو المختلف التدهور الأخلاقي والمعاناة الإنسانية العظيمة يُقتطع من قبل شعاع نور يتمثل في سبع نساء صغيرات وثلاثة رجال شباب يظهرون في كنيسة (سانت ماريا نوفيلا- Santa Maria Novella) في صباح يوم الثلاثاء. وقد عينهم بوكاتشيو رواة الديكاميرون، فهم مجتمعون مثل الفرقة يعرضون المدنية والدماثة والقوة والالتزام بالواجب.

ويقدمهم بوكاتشيو باعتبارهم مهذبين وغير ملطخين ويهتمون بأحبائهم أثناء وجودهم في حدود المدينة. وأعطى كلًا منهم اسمًا يليق بسماته الشخصية واختار الألقاب من وحيه الشخصي ومن الأعمال الأدبية الأخرى. وأسمائهم هي: بامبينيا، فيلومينا، نيفيلي، فيلوستراتو، فياميتّا، إليسّا، ديونيو، لوريتّا، إيميليا وبانفيلو.

اللجوء إلى القصّة

كما اقترحت السيدة النبيّلة أكبرهم، بامبينيا، فإن الفرقة تغادر الوباء الفظيع ومدينتهم المُدمرة والموبوءة بالطاعون ليتخذوا ملجئًا في فيلا قروية بالتلال القريبة. وهم لا يهجرون بفعلتهم الآخرين، فهي تتأكد أن أقرباء المجموعة إما ماتوا أو هربوا. فيقضي العشرة أوقاتهم في المشاركة بالولائم والألعاب والرقص والغناء وحكّي القصص.

الفرقة في رواية ديكاميرون، لبوكاتشيو.

ويحكي كل فرد في المجموعة قصّةً واحدةً يوميًا خلال عشرة أيام، وذلك بإدارة الملك أو الملكة المنتَخَبين لكل يوم. وتُختتم الأنشطة بالغناء والرقص. وخلال هذه الأيام العشرة تحكي الفرقة مِئة قصة، وفيهم يُسَمُون أشخاصًا حقيقيين وتاريخيين ومعاصرين أو قريبين من المعاصرة، الذين هم معروفون لقُراء رواية بوكاتشيو ديكاميرون في وقته، مما يضفي شكلًا من الواقعية على القصص التي تُحكى في إطارٍ تخيليّ. وتعكس القصص رؤية بوكاتشيو عن الانحلال الأخلاقي في فلورنسا بهذا الوقت حيثُ يكثُر الفساد والفجور.

كيف إذًا يحقق قضاءُ الوقتِ التجديدَ والإحياءَ للفرقة؟

تركز الرواية في داخلها على الرذائل وتمثل دليلًا للمحافظة على العقل خلال العزلة الجسدية، وذلك من خلال الانسحاب عن مدينة تقوّضها الإجراءات لعيش حياة بسطية في عزلة شعبية، وتسلية الفرقة بعضها البعض باتباع طقوسٍ منظمة ومنضبطة واستعادة بعضٍ من القابلية على التنبؤ الذي كان مُفتقدًا وفقًا لبوكاتشيو.

صدى معاصر

كانت ديكاميرون أول رائعة نثرية تُكتب باللغة التوسكانية (وهي نوع من اللغة الإيطالية المستخدمة في إحدى مدن إيطاليا بهذه الفترة) مما جعل القراء الذين لا يستطيعون قراءة اللاتينية أكثر قدرة على الوصول لها. ووُزِعت في البداية كمخطوطةٍ في عام 1370 وطُبِع منها ما يقرب من مئتي نسخة خلال القرنين التاليين. لكن العمل تعرض للانتقاد من جانب «مجمع ترنت الكاثوليكي» في عام 1564 وأًصدِرت نسخةٌ منقحة محت كل المراجع المذكورة في الرواية لرجال الدين والأديرة والكنائس في عام 1573.

قدم بوكاتشيو في رواية ديكاميرون «القصة الإطارية» وهو سرد يؤطر لقصة أخرى أو مجموعة من القصص. وأصبح هذا الشكل شائع أدبيًا من خلال تغليف مجموعات من القصص القصيرة التي تمزج بين الحكي القصصي الشفهي والأدب. ويمكن أن تُشاهد بعض الاقتراضات والاختلافات في «حكايات كانتنبري» لتشوسر ومسرحية شكسبير «الأمور بخواتمها.»

وأكثر الأفلام المبنية على الرواية شهرة رائعة بيير باولو باسوليني الأولى بين ثلاثة أجزاء ثلاثية الحياة الذي صدر في 1971. ويعرض الفيلم عشر قصص من المئة قصة في ديكاميرون، وهو من أكثر الأفلام الإيطالية شهرة.

مشهد من الفيلم الإيطالي ديكاميرون.

وتلقى ديكاميرون صدًى لدى القرّاء في العصر الحديث تزامنًا مع الرعب الذي نتصارع معه خلال جائحتنا الحالية، فهذا الكتاب يشبه الوصفة للنجاة النفسية وطريقًا لإبعاد العقل عن الرؤى المرعبة وأعداد الموتى والتوقعات الاقتصادية الغارقة في التشاؤم. ورغم أن أحداث الرواية تعود لما يزيد عن ستمائة عام، فإن قراء ديكاميرون المعاصرين، مثل فرقة بوكاتشيو، سيجدون الراحة في الصحبة والتفاؤل والشعور باليقين في الطقوس المُبرمِجة كما وُصِفَت.

وخلال المئة قصة يمكن للقراء تجربة المواقف بشكل غير مباشر، تلك التي لا يمكنهم الوصول إليها واختبارها حقيقةً، ويمكنهم الاستمتاع والعثور على الكثير مما يضحكهم والاحتفاء بالسعادة وقوة التجديد التي يضفيها حكي القصص.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي