سلسلة رحلة داخل العقل البشري الحلقة الاولى
البحث العلمي في علم النفس
ربما نحن جميعًا نعتقد شيئًا ما ونظنه سليمًا جدًا وهو في حقيقة الأمر خاطئ تمامًا، في علم النفس يعرف بانحياز الإدراك المتأخر «Hindsight Bias»، هذه الثقة العمياء التي تذكرك بأنك على صواب دائمًا. مثلًا: هل تزيد القهوة من ذكائك؟ قد يبدو هذا سؤال بديهي لك بلا شك؛ لكن البحث العلمي يحمي عقولنا من الوقوع في انحياز الإدراك المتأخر، لكن يؤسفني أن أخبرك أن القهوة لن تجعلك أكثر ذكاءً على الإطلاق! البحث العلمي في علم النفس يرتكز على كيفية طرح الأسئلة وتحويلها إلى أشياء قابلة للاختبار وهو ما يسمى بتفعيل الأسئلة «Questions Operationalizing».
ممَّ يتكون البحث العلمي؟
عامةً البحث العلمي يتكون من سؤال، ونظرية تشرح وتنظم المشاهدات والبيانات وتتوقع النتائج، وعندما نحصل على نتيجة أو توقعات قابلة للاختبار والقياس، فهذه تسمى فرضية «Hypothesis»، وبعد انتهائك من ذلك تحتاج إلى كتابة كل ما فعلته بلغة واضحة ومعروفة بحيث يمكن للباحثين الآخرين التأكد من صحتها بإجراء نفس التجربة عمليًا، وعندما تتكرر ظهور النتائج، يدل هذا على أنك ربما توصلت إلى شيء ما.
ما هي الطرق المختلفة للبحث العلمي؟
في بعض طرق البحث العلمي، مثل دراسة الحالة «Case study»، تكون هناك مشكلة في تكرار البحث؛ لأنك تتعمق في حالة فردية، لهذا فسيكون من الخطر تعميم نظرتك، لكنها مفيدة جدًا لعلماء النفس في ملاحظة ووصف السلوك النادر بدقة، إليك هذا المثال: «محمود شاب يشعر بالقلق والتوتر عندما يشتَمّ رائحة القهوة»، ليس بالضروري أن يحدث هذا لجميع الأشخاص، فقد تثير رائحة القهوة تذكره لموقف ما جعله متوترًا، وقيامك بالكثير من دراسة الحالات، يجعلك قادرًا على تمييز الحالات النادرة من الحالات الشائعة.
البحث العلمي في علم النفس قد يثير فضولك للتتجسس على الأشخاص! نعم، فالمشاهدات المرئية «Naturalistic Observation» في علم النفس هي ببساطة أن تقوم بمراقبة سلوك الأشخاص في بيئاتهم العادية، كهرج الأطفال في الفصل الدراسي أو تشجيع الرجال في مباريات كرة القدم، وهذه الأبحاث تصف السلوك لكن لا تلتزم بتفسيرها.
دراسات الاستطلاع والمقابلات الشخصية «Survey & Interviews»، هي طريقة للبحث العلمي، تهدف أيضًا إلى التعرف على السلوكيات عن طريق توجيه أسئلة للأشخاص المستهدفين في الدراسة، وكتابة تقريرًا كاملًا بأجوبتهم وسلوكياتهم، هذا يفيد في دراسة المعتقدات التي تنبع منها التصرفات؛ لكن طريقة طرح الأسئلة قد تكون مخادعة، فاستخدام كلمة حظر أو رقابة قد تكون ذات وقْع أقوى من كلمة تحديد أو عدم السماح، فمثلًا عندما نسأل: هل تؤمن بالكائنات الفضائية؟ هو نفسه، هل تعتقد بوجود كائنات ذكية في مكان ما في هذا الكون؟ لكن السؤال الأول قد تُفهم الكائنات الفضائية على أنها هذه الكائنات الشريرة التي تهبط على سكان الأرض وتقتحم بيوتهم وتخطفهم!
لذلك عند طرح الأسئلة في هذه الدراسات يجب مراعاة كيفية طرح الأسئلة ولمن تطرح، فلا تقوم بتوجيه الأسئلة لطائفة من الناس دون غيرهم، فعلى سبيل المثال، لديك فصل مليء بالطلبة وتوجهت إلى مجموعة من الطلبة يميلون للطابع السلمي وسألتهم عن رأيهم بشأن قضية مراقبة الأسلحة، هذا يعتبر تحيزًا واضحًا، ولكي تعبر عن رأي الطلبة في الفصل عليك أن تأخذ عينة عشوائية تمثل جميع فئات الطلبة وتعطي لهم فرص متساوية للإجابة على الأسئلة.
الارتباط- ماذا نستنتج من هذه الطرق؟
بعدما انتهيت من من وصف السلوكيات باستخدام أيًا مما سبق، الآن تستطيع أن تبدأ في تفسير هذه السلوكيات أو حتى تتوقع سلوكيات مستقبلية، بأن تهتم بسلوكين أو مجموعة من السلوكيات المرتبطة ببعضها وتفسر كيف ترتبط ببعضها.
لنرجع إلى محمود الذي بدأ عليه علامات التوتر والخوف بعد أن اشتم رائحة القهوة ثم صرخ وهو يقول بأن النيران تقترب وستحرقه، من هنا يمكننا القول بأننا نتوقع حدوث هلوسات بصرية عندما يشم محمود رائحة القهوة، إذن هناك ارتباط بين رائحة القهوة والهلوسات، ولكن الارتباط ليس سببي، لأنه ربما لهذه الهلوسات شئ آخر، وربما محمود لم ينم منذ ثلاثة أيام، أو أنه يعاني من صداع حاد أو أي شيء لم نعرفه بعد.
إذن، من المهم أن نستنتج شيئًا ما من هذا الارتباط ، ولكن الضروري والأكثر أهمية هو تذكر أن الإرتباط يتنبّأُ باحتمالية وجود علاقة بين السبب والنتيجة «Cause-and-effect Relationship» ولكنه لا يثبتها.
التجربة- كيف نثبت وجود علاقة؟
هكذا يعملنا البحث العلمي في علم النفس كيف نصف السلوكيات بدون تلاعب وكيف نربط بين السلوكيات ونتنبّأ بالنتائج، ولكن مازلنا في أول الطريق ويجب أن نبدأ بالتجريب «Experimentation»، هذا يساعدك على فصل النتائج المتباينة عندما تتلاعب بالمتغيرات المستقلة «Independent Variables» وتثبت جميع المتغيرات الأخرى بقدر الإمكان.
إذ أن الحد الأدنى لديك هو مجموعتان، مجموعة تتلاعب بها أو المجموعة التجريبية «Experimental Group»، ومجموعة لن تتلاعب بها وهي المجموعة المراقبة «Control Group».
مثال للتجربة:
دعونا نأتي بالسؤال الأول الذي طرحناه، هل تزيد القهوة من ذكائك؟ لنفعّل السؤال ونحوله إلى صيغة واضحة يمكن قياسها فعليًا وتكرارها. وليكن مثلًا هذا السؤال: هل يجتاز الأشخاص البالغين الذين تناولوا القهوة المتاهة أسرع من الأشخاص البالغين الذين لم يتناولوها؟ إذن الذي يمكنك التلاعب به هنا هي جرعة القهوة، المتغير المستقل، أما المتغير غير المستقل فهو النتيجة، سرعة الخروج من المتاهة، والتي تتغير باختلاف المتغيرات المستقلة والتي تتحكم بها.
لنتحرى الدقة سنقسم الأشخاص الخاضعين للتجربة إلى 3 مجموعات:
1- المجموعة المراقبة «Control Group»: أو المجموعة الوهمية «Placebo» ، وهو أن تعطى لهم قهوة ولكنها منزوعة الكافيين.
2- المجموعة التجريبية الأولى «Experimental Group»: سنعطيهم جرعة قليلة من الكافيين 100 مجم فقط.
3- المجموعة التجريبية الثانية: سنعطيهم جرعة مركزة من الكافيين 500 مجم.
ملحوظة هامة: موافقة الأشخاص للمشاركة في التجربة وصلاحيتهم الطبية لها من الأشياء التي يجب أخذها في عين الاعتبار بغض النظر عن أهمية التجربة نفسها.
بعد ذلك تأكد من تناول كل فرد منهم جرعته المحددة واتركهم يتيهون في المتاهة واقفًا في المخرج ومعك ساعة التوقف.(انظر الشكل التوضيحي)
إذا وجدت أن المجموعة الثالثة وصلت في وقت أقل، سيكون لديك حق في القول بأن القهوة تجعل الأشخاص أذكياء، ولكن التحيز الإدراكي المتأخر يجعلنا نقول أشياءً لم نكن نعرفها قبل اختبارها.
إذن ذكرنا ثلاثة طرق للبحث العلمي، وكيف نربط بين البيانات والنتائج، وكيف نقيس صحة العلاقة بينهما من خلال التجربة، ولدينا لغة وأسلوبًا محددين تمكّن أي شخص فضولي من تكرار هذه التجربة بسهولة، وفي نهاية المطاف نقوم بجمع البيانات بقدر الإمكان للإتيان بنتيجة محددة وقياسية، فالعلم هو أفضل أداة لديك لفهم الآخرين.
إعداد: محمد أبو الغيط
مراجعة علمية: Nabila Baghdady
مراجع لغوي: Mohammad Marashdeh
تصميم: Ahmad E.jad
المصدر
Nerdfighteria Wiki – Psychological Research – Crash Course Psychology #2 [Internet]. [cited 2016 Jan 14]. Available from: http://sc.egyres.com/u6dLf